زمن الحرب
أكتبُ وأفكّر لا فقط في الذين قضوا، بل في أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة، في المشاهد المروّعة التي وقعت أمام أعينهم، في فلذات الأكباد التي خسروها، الأشلاء التي حملوها في الأكياس البلاستيكية.
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
(زهير بن أبي سلمى)
**
لا يشبه زمن الحرب أي زمن سواه. للحروب طبولها وطقوسها وإيقاعاتها مثلما لها أبطالها و شهداؤها وقتلتها ومقتولوها.
ليست الجروح والعلامات الجسدية هي أقسى ما تتركه الحروب فينا. الأقسى تلك الندوب الجوانية التي تذهب عميقاً في الذاكرة والوعي والوجدان.الأولى يمكن الشفاء منها بالجراحة وعمليات التجميل، أما الثانية فلا شفاء منها على الإطلاق، مهما تقادمت السنون و تبدلت الأيام.
مهما قيل عن تَطهُّرٍ وتَحرُّرٍ واعتراف، لا يمكن لمحارب أن يمحو من شاشة ذاكرته ومن صفحات ضميره تلك الصور التي عاشها فعلاً، وما عاد قادراً على خلاص منها.
يحمل المحاربون ندوب أرواحهم في حلّهم وترحالهم. لعل الذي مات هو أكثرهم راحة وطمأنينة، أما مَن بقي على قيد الحياة فإنه يحمل معه موتاً مُضمراً، لأن الحرب تأخذ منه، شاء أم أبى، أجزاء لا سبيل لإعادتها أو ترميمها. حتى أكثر المحاربين عقائدية وإيماناً لا يسلم من بصمات ما فعل، مهما كانت القضية التي يقاتل لأجلها سامية ونبيلة.
الأبطال أنفسهم الذين يتحوّلون رموزاً وأيقونات تُعلّق لهم الأوسمة والنياشين وتُطلق أسماؤهم على الشوارع والميادين، حتى هؤلاء لا ينامون بكامل طمأنينتهم، ولا يلقون رؤوسهم على وسادة مريحة خالية من الأسئلة والهواجس التي تغدو كابوسية أحياناً.
لئن كانت الحروب لا توفر صنّاعها من بصماتها وآثارها العميقة أو الجانبية، فما بالك بمن تقع الحرب عليهم. تقع عليهم بلا ذنب ولا جريرة، بلا خيار ولا قرار. فجأة، يجدون أنفسهم في غمرتها وقد بعثرت أمنهم وأمانهم، ماحيةً بساطة الرضى ومتعة الاستقرار، محوّلةً يقينهم إلى شك، وسكينتهم إلى أسئلة لا إجابات شافية لها. من ذاك الشك تتوالد علامات الاستفهام المثمرة، ومن تلك الأسئلة تولد إبداعات كثيرة وعظيمة.
لا غرابة إذاً، إن وجدنا أن معظم الإبداعات الإنسانية الخالدة كانت صنيعة أزمنة صعبة حرجة.كأن الكائن البشري الهش الزائل لا محالة، يواجه قدره المحتوم، خصوصاً حين تتعالى قرقعة السلاح وأزيز الرصاص، بالفنون الخالدة. "هزمتك ياموت الفنون جميعها، مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، النقوش على حجارة معبد هزمتك، و انتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلود. فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد".
صحيح لم يكتب محمود درويش "جداريته" في غمرة حرب وقتال، بل في لحظة مواجهة فردية مع الموت، لكن ما ينطبق على الفرد في هذه الحال يصح في الجماعة، فالثقوب التي تتركها القذائف والرصاصات في العمارات والأبنية لها ما يعادلها في الوعي و الذاكرة. ذاكرة الذين عاشوا الحرب ملأى بالثقوب، أحياناً يخال لنا أننا عشنا أكثر من حياة، أكثر من زمان في أكثر من مكان.
تجبرنا الحرب أحياناً على الفرار، على الهجرة، على التنقل من مكان إلى آخر، تقتلعنا من أمننا وأماننا واستقرارنا لترمي بنا في المجهول. فلا نعود نعلم حقاً متى وأين وكيف عشنا. فما بالك بمن تناسلت الحروب من (وفي) أعمارهم كما تتناسل الأرانب.ما إن تنتهي معركة حتى تبدأ أخرى، وما إن يتوقف هدير حتى يتعالى سواه، وما إن تشرق شمس حتى تتعالى سُحب دخان.
الخوف، الخوف. كاذب مَن يزعم أن الحرب لا تخيفه، لا يخشاها و لا يخشى أهوالها. لا نتحدث هنا عن تجار الحروب والمحن والذين يديرونها من بُعد، و لا عن المرتزقة الذين يعتاشون منها. نتحدث عن الناس، البشر الآدميين الذين روّضوا الوحش الكامن في النفس البشرية وانحازوا إلى إنسانية الإنسان، وما زالت تبكيهم دمعة طفل يتيم وأم ثكلى.
***
"لا أعرف كيف نجوت،
لم أمت لكنني رأيتُ مَن مات،
رأيتُ القتلى أكثر حياءً من القتلة".
كتبتُ هذه الجملة في إحدى قصائدي من وحي واحدة من الحروب الكثيرة التي عشتها، لكن ما من حربٍ مرّت علينا تشبه حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ما مِن إجرام مماثل، وما من همجية معاصرة كالهمجية الصهيونية المرعية من قبل نظام عالمي سقطت كل أقنعته، وبان على حقيقته، وهو الذي وُلِد أصلاً من رحم حربين عالميتين أزهقتا أرواح ملايين الأبرياء.
أكتبُ وأفكّر لا فقط في الذين قضوا، بل في أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة، في المشاهد المروّعة التي وقعت أمام أعينهم، في فلذات الأكباد التي خسروها، الأشلاء التي حملوها في الأكياس البلاستيكية، الأحبة الذين لم يعثروا على أثر لهم، الذكريات التي طُمرَت تحت ركام البيوت المهدمة، عيون الأطفال الجاحظة رعباً وخوفاً، والأمهات اللواتي فقدن أطفالهنّ لحظة ولادتهن.
أي ندوب سوف تنحفر في أعماق قلوبهن؟ أي أسى سوف يترسّب في قاع الأرواح المثقلة؟ وهل من أحد يستطيع لوم هؤلاء غداً حين يمتشقون بنادق الثأر والانتقام، وهم أصلاً أصحاب الحق وشهود الحقيقة وشهداؤها.
ماذا عسانا نفعل نحن معشر الكلمة سوى أن نجعل كلماتنا أجراساً تُقرَع دائماً لتذكّر بجرائم المحتل، وتحول دون طمسها ونسيانها، وأن نرسّخ رواية أصحاب الحق في مواجهة رواية أصحاب الباطل مهما امتلك هذا الباطل من قوة، ومهما قلّ مناصرو الحقّ. فالكلمة التي لا تستطيع أن تكون رصاصة في إمكانها على الأقل أن تكون ضمادة وبلسماً.