ريا موسى تعيد الحياة إلى فن الفسيفساء

حصلت على 5 جوائز محلية، وتطمح للمنافسة باسم مدينتها غزة الغنية بالتراث الحضاري والأثري.. كيف تعيد ريا موسى الحياة إلى فن الفسيفساء؟

ربما لا تشكّل القطع متناهية الصغر من الزجاج أو الحجارة المتناثرة أي أهمية بالنسبة إلى مُشاهدها لكن، ما إن تجتمع مكوّنةً لوحة تنبض جمالاً عبر استخدام فن الرسم بالفسيفساء سيحدث الفارق، وكأنها لعبة "بازل" قد اكتملت للتو.

في حديثها مع "الميادين الثقافية" تبتسم ريا موسى وهي تشير بأصابعها قائلة: "تلك هي القطع. وهناك تمكث إحدى اللوحات التي شارفت على الانتهاء، مستغرقة من الوقت أياماً عدة كي يتم توزيع المساحات والألوان بالشكل الأمثل، لتغدو السيدة الفلسطينية الموشّحة المتخذة من ذلك الإطار مسكناً لها بهيئتها الحالية".

"هي عدة قطع صغيرة جداً مرصوصة كالبنيان جنباً إلى جنب"، تشرح ريا أنه بتلك الآلية تتم صناعة اللوحات، عبر استخدام مواد خام مختلفة كالزجاج، أو الرخام، أو السيراميك، أو الخزف، وربما المعدن، مثبتة بلاصق لملء الفراغات بعناية، بعد رسمها على القماش أو الورق، كي تشكل في النهاية لوحة متناغمة العناصر. 

ويرجع استخدام ذلك الفن إلى مئات السنين، وفقاً لريا، كون الأجداد القدامى سئموا استخدام الألوان والنحت وغيرها من الفنون المتأثرة بالتلف أو الذوبان؛ كي يوثّقوا حياتهم اليومية أو تلك الأحداث الهامة التي يعيشونها، لتثبت تلك الطريقة جدواها في إنتاج لوحات مقاومة لعوامل الطبيعة والتغيّرات المناخية. 

 

وقد تجاوزت استخدامات الفن تلك الحدود، إذ تقول ريا إنه تم تطويعه لتوصيل الرسائل الدينية، لا سيما المسيحية، فيستطيع المتجوّل في الكنائس والمعابد استشعار ذلك من كثب، خاصة عندما ينعكس النور على الزجاج فيعطي طابعاً روحانياً للمتأمل، واصلاً إلى منطقة الراحة في الجسم، ما يساعد المرء على تصفية ذهنه وفصله عن الواقع، ولو للحظات، بغرض التعبّد.

ففي حضرة أحد تلك الأماكن الموجودة في قطاع غزة، والمسمّى بدير القديس هيلاريون، وجدت ريا ضالتها. فكرت: "لماذا لا أعيد فن الأجداد عبر مزجه بالتطور التكنولوجي الحاصل اليوم من خلال إدخاله في تصميم المنزل، أو صناعته بشكل متخصص ليصبح واجهة خارجية للمباني، بالرغم من حاجته للكثير من المال والجهد؟".

هكذا، بدأت المهندسة المعمارية من خلال عدة لوحات، إذ من الصعب إقناع العامة بأهمية ذلك الفن عبر اصطحابهم إلى الأماكن الأثرية، فقررت أن تحضره لهم سواء في البيوت أو أماكن العمل عبر لوحات تناولت موضوعات مختلفة كالطبيعة والتراث المادي والمعنوي والحيوانات وغيرها.

وتلفت ريا، أنه كان لدراستها مساقات متخصصة في التراث المعماري، وتدريبها خلال سنوات الدراسة على صيانة الأماكن الأثرية في مدينة غزة أثر كبير في إنجاح تلك الفكرة، خاصة عندما تحوّل عملها من متدربة إلى مدربة، الأمر الذي فرض وجودها بشكل مستمر، متعمّقة في فهم تفاصيل تلك الرسومات وطبيعتها.

"ليست مجرد قطع مرصوصة، بل هي بناء فني يحتاج إلى تصميم معماري متكامل"، لطالما لوّحت ريا بتلك الجملة في عدد من المجالس للدفاع عن فنها، إذ إن المجتمع يرفض في البداية كل ما هو غريب عنه، موضحة أن أسعار تلك اللوحات قد تزيد حسب حجم الحجارة المتناهية الصغر داخلها أو كبر حجم اللوحة، لتواجه مشكلة بين التسويق لفنها بسعر يستحق الجهد وما يراه الجمهور مناسباً.

وتروي ريا أنها غالباً ما تصطدم بنقص المواد الخام اللازمة للعمل على إنجاز عدد من اللوحات، بسبب عدم السماح بإدخالها إلى المدينة المحاصرة كالزجاج ذي الألوان المميزة والذي يصنع محلياً. وما يفاقم مشكلتها هو افتقارها إلى سجل تجاري خاص يسمح لها باستيراد الكميات التي تناسبها لتطوير مشروعها. 

ويهدف ذلك المشروع، بحسب حديث ريا، إلى إحياء التراث الفلسطيني عن طريق دمجه في لوحات الفسيفساء، عبر الألوان البارزة للهوية الفلسطينية كي يتم عرضها بصورة جديدة ترسخ في الذاكرة؛ منعاً لسرقتها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، مدعمة وفريقها تلك الخطوة بالعمل على مشروع التوثيق الرقمي للأماكن الأثرية في مدينة غزة. 

تستأنف ريا الحديث للبحث عن إحدى القطع المفقودة في اللوحة الماثلة أمامها، رافعةً نبرة صوتها "ها هي قد اكتملت"، مشبهة تلك الحالة بما يحدث لها عند التفتيش عن فكرة مناسبة لعمل جديد. فقد يستغرق منها الأمر أياماً، أو ربما تجدها مصادفة في إحدى جولاتها، لافتة إلى أن العمل مع فريق هو ما يدعم موهبتها في التطوير دوماً، سواء من خلال رسم المخططات الأولية أو المخرج النهائي.

حصلت ريا حتى اليوم على 5 جوائز محلية، إحداها جائزة التعاون الشبابي الريادي، ومنها تطمح لأن تحصد أخرى دولية تنافس بها فنانين من عوالم مختلفة عن مدينتها الصغيرة الغنية بالتراث الحضاري والأثري، مشيرة إلى أنها ترنو إلى إقامة معرض قريب لتظهر من خلاله جميع أعمالها إلى النور حيث تستحق.

يذكر أن تاريخ فن الفسيفساء يعود إلى آلاف السنين. فقد اكتُشفَ أول عمل في بلاد الرافدين، حيث عثر على قطع بلاط صغيرة في معبد في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ولكن كانت هذه الأعمال عشوائية نوعاً ما، ولم تبدأ الفسيفساء بتصوير مشاهد وأنماط ورموز واقعية إلا في أيام اليونانيين والرومان.