حزب زياد الرحباني
يبدو أنّ زياد تعب من الحياة، فقرّر مغادرتها، وطبّق حرفياً ما كتبه في إحدى مسرحياته منذ نصف قرن.
-
من تشييع زياد الرحباني (أ ف ب)
منذ سنين طويلة، غادر زياد الرحباني، ربما طوعاً وربما "قرفاً"، الساحة الموسيقية والمسرحية اللبنانية، فعانى طويلاً المسرح والموسيقى في لبنان، بسبب غياب زياد، داءً عضالاً في القلب، في الروح، في الذائقة الموسيقية المرهفة، سرعان ما تطوّر إلى موت سريري وخدش في "طبلة الأذن الموسيقية"، أحد دلالاتهما العميقة هذا الفوران القاتل للأعمال التافهة والهابطة، والتي يصرّ مروّجوها على إقناعنا بأنها فن وموسيقى!
اليوم، يبدو أن زياد تعب من الحياة، فقرّر مغادرتها. وطبق حرفياً ما كتبه في إحدى مسرحياته، منذ نصف قرن، حين قال إن: "الإنسان ما بموت إلا لما تجي ساعتو". وربما بسبب رغبته في مغادرة الحياة، بعد أن ساءت حالته المرضية، وانعدمت رغبته في العيش، أنه طبّق أيضاً حرفياً ما كان انتقده، حين سخر على غاية الحكومات في تقديم الساعة وتأخيرها، فقدّم، هو هذه المرة، "ساعة موته" ساعات إضافية، من أجل أن يغادر الحياة سريعاً!
محبّو زياد الرحباني، محبّو "لمعاته"، محبّو "تنبؤاته"، محبّو مسرحياته، محبّو موسيقاه، عابرون للطوائف اللبنانية؛ عابرون للأحزاب اللبنانية؛ عابرون للخلافات السياسية والعقائدية اللبنانية؛ عابرون للنكد السياسي اللبناني، وللنكد الحالي الموسيقي اللبناني، وللنكد الحالي الغنائي اللبناني.
ليس غريباً مثلاً أن يجمع شعار "حي على حب زياد الرحباني"، المنتمين إلى جميع الأديان اللبنانية، وإلى جميع المذاهب اللبنانية، وإلى جميع الأحزاب اللبنانية المتناحرة على كل شيء، والمختلفة في كل شيء… حتى في التفريق بين لون الخل ولون اللبن!
ليس مفاجئاً مثلاً أن تجد شيخاً معمّماً يستمع إلى آيات بيّنات من القرآن الكريم، وإلى مواقف الغزالي أو أبي حنيفة أو ابن تيمية، أو إلى دعاء كميل، لكنه يجد متعة في الاستماع إلى مسرحيات زياد الرحباني.
هذا الحب لزياد الرحباني ليس غريباً أن تجده أيضاً مترسّخاً جداً لدى أحد الرهابنة أو المطارنة، ممن يستسيغون الاستماع إلى العظات ويستمتعون في الإنصات بخشوع إلى التراتيل الدينية المسيحية، التي تؤدّى داخل الكنائس المسيحية، لكنهم، في الوقت نفسه، يغتبطون وهم يسمعون زياد الرحباني يحلّق عالياً "على هواه"، بعيداً عن الكنيسة وعن الجامع، في أغنية "أنا مش كافر بس الجوع كافر"، وخصوصاً في المقطع الذي يعلن فيه زياد انتماءه الإنساني، قبل الديني، حين يقول ما يؤمن به كثيرون من اللبنانيين:
"يللي بيصلي الأحد ويللي بيصلي الجمعة
وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة
هو يللي دين قال وأنا يللي كافر عال
راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر"
حتى المختلفون، حد "الطلاق" السياسي، بشأن مصير سلاح حزب الله، سيجمعهم ما يشبه "الزواج الماروني" على "حب زياد الرحباني".
ليس مفاجئاً أبداً مثلاً أن تجد لبنانيان على طرفي نقيض سياسياً ودينياً وأيديولوجياً، لكنّ كلاً منهما يحفظ غيباً كلّ ما جاء في مسرحيات زياد. يحاجج كلاهما فيها بين الناس. يستلهم منها كثيراً من الافكار التي يريد إقناعك بها، أو يريد إقناع خصمة بها، ولما يرى أن منطقه ربما لن يفيد في ذلك يلجأ إلى "حبل خلاصه" زياد الرحباني... ما غيره، الذي تجتمع على "فريضة حبه" كل الأقوام والطوائف والمذاهب والعشائر اللبنانية.
في الخلاصة. إنه زياد. ربما آخر "أنبياء لبنان" الذي اجتمعت الأحزاب اللبنانية المتصارعة في ما بينها على "فريضة حبه".