بين بيروت وغزة.. دروسٌ في الصمود والحذر
على غزة أن تتعلم من تجربة بيروت، وأن تدرك أن الصمود وحده ليس كافياً، بل يجب أن يكون مقروناً بالحذر واليقظة في كل خطوةٍ تقدم عليها.
مرت 4 عقودٍ ونيف على خروجي فجر الــ 28 من شهر آب/أغسطس 1982 من بيروت الحبيبة على متن الباخرة "شمس المتوسط"، التي حملت معها أحلام وآمال المئات من المقاومين والمدافعين عن المدينة وعن قضية الشعب الفلسطيني. كانت تلك الأيام حافلةً بالصمود والتحدي.
قضيت فترة الحصار أعمل في جريدة "المعركة" التي كانت تنقل صوت المقاومة وأخبارها من قلب المعركة، وكذلك في جريدة "النداء" اللبنانية. إلى جانب ذلك، كنت جزءاً من كتيبةٍ من المناضلين العرب التي كانت في مقر الجامعة الأميركية في بيروت، إذ كنا ندافع عن شاطئ بيروت من محاولات التسلل الصهيوني. إلى جانب مواجهة العدوان، كنا نجري العديد من النقاشات التي دارت حول كل خطوة وكل قرار، في محاولة لقراءة مستقبل المقاومة ومستقبل قضيتنا.
اليوم، ونحن نستذكر تلك الوقائع الأليمة، لا بد من أن نتوجه بالنصح إلى المقاومة في غزة التي تخوض معركتها الخاصة في مواجهة العدو نفسه الذي لا يحترم اتفاقياته. إن الدرس الذي تعلمناه من بيروت، ومن تجربة مدريد وأوسلو، هو أن القوة وحدها هي الضامن الوحيد لاحترام الحقوق والاتفاقيات، فالعدو الصهيوني لا يعرف إلا لغة القوة، وأي مفاوضاتٍ تجرى معه يجب أن تكون من منطلق قوةٍ وصلابةٍ، مدعومةً بإرادةٍ صلبةٍ واستعدادٍ للمقاومة.
وهنا، يتردد في ذهني صوت الشاعر أمل دنقل في قصيدته الشهيرة "لا تصالح"، حين قال:
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ
إن المقاومة في غزة مطالبة بأن تكون أكثر يقظة ووعياً في مفاوضاتها، وألا تثق بالوعود التي لا تستند إلى ضمانات ملموسة، فالتاريخ قد أثبت أن الاتفاقيات مع هذا العدو غالباً ما تكون حبائل ينسجها لتمرير مشاريعه وتحقيق أهدافه على حساب حقوقنا الوطنية. على غزة أن تتعلم من تجربة بيروت، وأن تدرك أن الصمود وحده ليس كافياً، بل يجب أن يكون مقروناً بالحذر واليقظة في كل خطوةٍ تقدم عليها.
لقد عايشنا في بيروت ملحمةً من أروع ملاحم الصمود في وجه حصارٍ قاسٍ فرضه العدو الصهيوني، وصمدنا 80 يوماً قاتلنا خلالها بقلوبٍ ملؤها العزيمة والإيمان بالنصر. كانت بيروت، بكل ما تحمله من رمزية، ساحةً لأشرس معارك الكفاح، حيث التقينا المناضلين من مختلف الفصائل الفلسطينية والعربية، ووقفنا جنباً إلى جنبٍ في وجه آلة الحرب الإسرائيلية.
على متن الباخرة "شمس المتوسط"، كنت محاطاً بقياداتٍ فلسطينيةٍ من فصائل متعددةٍ، كلهم يحملون عبء المقاومة على أكتافهم. كان هناك من حركة فتح خليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو إياد)، ونمر صالح (أبو صالح)، والعقيد سعيد موسى مراغة (أبو موسى)، واللواء سعد صايل (أبو الوليد). ومن الجبهة الشعبية - القيادة العامة، كان هناك طلال ناجي، ومن جبهة التحرير الفلسطينية كان الشهيد محمد عباس (أبو العباس). هذه الشخصيات وغيرها كانت تمثل العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية. ورغم الحزن الذي كان يغمرنا لفراق بيروت، كان لدينا إصرارٌ على مواصلة الكفاح.
من بين الشخصيات التي كانت على متن السفينة أيضاً، الفنانة الكبيرة نادية لطفي، التي تعمقت علاقتي بها خلال فترة الحصار في بيروت. كانت قد جاءت ضمن وفدٍ مصري لكسر الحصار، قادماً من ميناء الإسكندرية إلى بيروت، ضم المخرج علي بدرخان، والكاتبة فتحية العسال، وعضو البرلمان أبو العز الحريري.
وأصرت نادية لطفي على أن أرافقها في رحلة الذهاب من طرطوس إلى دمشق بالسيارة، بدلاً من الذهاب مع المقاتلين إلى المعسكر المؤقت. كانت تلك اللحظات مليئة بالمشاعر المختلطة، من وداع مدينة صمدت ببسالة، إلى استقبال مستقبل مجهول، ولكن مليء بالأمل في النصر.
لكن، ورغم كل هذا الصمود، جاءت الحوارات التي قادها المبعوث الأميركي فيليب حبيب، بوساطة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق صائب سلام، لتفضي في نهاية المطاف إلى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت. كان ذلك الخروج مؤلماً، حملنا فيه معنا وعداً بتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وعداً بأن نعود ونحقق حريتنا وحقوقنا الوطنية، إلا أن الواقع أثبت أن تلك الوعود كانت سراباً؛ فبعد سنواتٍ من الحوارات والمؤتمرات، جاء مؤتمر مدريد للسلام، ومن ثم اتفاق أوسلو الذي أفضى إلى كيان مسخٍ في رام الله، يسمى بالسلطة الفلسطينية، كيان بلا سيادة حقيقية ولا سلطات تذكر، مكبل باتفاقيات لم تحترمها "إسرائيل" يوماً، فالكيان الصهيوني لا يحترم اتفاقيات ما لم تكن تلك الاتفاقيات مدعومة بالقوة والمقاومة.
إن طريق النضال طويلٌ وشاق، والتجارب الماضية خير دليلٍ على أن الحقوق لا تسترد إلا بالقوة، وأن الأمل في تحقيق الحلم الفلسطيني لا يزال حياً ما دام هناك مقاومون يدركون دروس التاريخ ويستعدون لكل ما هو قادم.