بصمة نتنياهو الكربونية
نتنياهو إنسان نرجسي ووصولي يستغل الآخرين لتحقيق مصلحته الذاتية، ويُعَدُّ النجاح الشخصي أكثر أهمية بالنسبة إليه من الأيديولوجيا التي يقول إنه يسعى لتحقيقها.
أذكر حين وصل بنيامين نتنياهو لأول مرة إلى رئاسة الحكومة الاسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي، وأصبح معروفاً على الصعيد الدولي، أنّ الناظر في الثانوية، التي كنت أدرس فيها، كان يطلق عليه بلهجته الساخرة "نتن يا هوه "، ويقول لنا "النتن يا هوه" فعل كذا وكذا.
أما نحن، معشر الطلاب الأبرياء، فكنا آنذاك نضحك من دون أن نعي حجم المصائب التي كان يخبئها هذا الرجل للشعوب العربية. ويبدو فعلاً أن نتنياهو له من اسمه نصيب، فهو لم يكتف بقتل عشرات الآلاف من أهل غزة وتشريد أهلها وارتكاب جرائم تشيب لها الولدان، بل إنّ مواهبه الفطرية في الأذيّة طالت البيئة والطبيعة.
كشفت دراسة قام بها باحثون من جامعتي لانكستر وكوين ماري في لندن، ونُشرت في صحيفة "الغارديان" البريطانية، وصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، أنّ الحرب التي تشنّها "إسرائيل" على غزة تسببت بدمار بيئي هائل.
ووفقاً لهذه الدراسة، أدّت الأيام الستون الأولى من الحرب إلى انبعاث 281000 طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. وهذه الكمية تعادل تلك التي تنتجها سنوياً 20 دولة متطورة.
للوصول إلى هذه النتيجة، قام الباحثون بتقويم آثار الكربون الناتج من المهمات الجوية واستخدام الدبابات والمركبات العسكرية، بالإضافة إلى الغازات المتأتية من تفجير القنابل والصواريخ والأسلحة الأخرى.
وقدّر الباحثون أن 99٪ من الانبعاثات الكربونية تعود، بصورة أساسية، إلى الضربات الجوية والغزو البري لقطاع غزة من جانب الجيش الإسرائيلي. وخلال شهرين فقط، أطلق "تساحال" كمية من ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي تعادل احتراق 150 ألف طن من الفحم.
لقد تعلمنا جميعاً في مقررات الكيمياء والأحياء أنّ ثاني أوكسيد الكربون هو غاز ضروري للحياة (وإن كانت لا تُحتمل بوجود نتنياهو وأمثاله). لكن تراكم هذا الغاز في الغلاف الجوي يُفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري وما يرافقها من تغيّرات مناخية خطيرة تؤدي إلى ذوبان الثلوج القطبية، وازدياد الفيضانات والأعاصير والقضاء على التنوع البيولوجي.
والآن، جاء دور نتنياهو ليزيد الطين بلّة، كأن الكوكب كان ينقصه هذا الكائن المتعجرف ليسير نحو مزيد من التدهور، بيئياً وإنسانياً، فهذا الرجل مع أفراد شلته المجرمة يُشكّلون تهديداً للإنسانية جمعاء، بل لمجرّة درب التبانة بأكملها.
لكن نتنياهو، الذي يجيد التلاعب بالكلام والألفاظ ويبرع في فنون التهرب من المسؤوليات، لا بدّ من أن يجد مخرجاً من هذه الاتهامات الصادرة عن جهات علمية محضة. ربمّا سيدّعي أنّه بريء من كل ذرّة كربون تراق في الجو، وأنّ جيشه - الجيش الاكثر أخلاقية في العالم - يقوم بإنتاج كثير من ثاني اوكسيد الكربون لتزويد النباتات في فلسطين بما تحتاج إليه للقيام بعملية التمثيل الضوئي وصناعة مادتها العضوية، ولاسيما زيت الزيتون اللذيذ الذي قدّمه ذات مرة بيني غانتس هدية إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس على أنّه فخر الصناعة الإسرائيلية، في مشهد سوريالي صادم.
وهذا يعني أنّ نتنياهو، بصفته رئيس الوزراء الأكثر تحسساً من المشاكل البيئية وآلام سائر الكائنات، سيعوض من قتله للبشر بالاستثمار في الشجر والثمر. ربّما قد يقول أيضاً، في محاولة للتخفيف من وطأة الأرقام الكربونية المخيفة التي يُحقّقها الكيان، إنّه قتل 27 ألفاً من سكان غزة، وخفّف بالتالي الانبعاثات الكربونية الناتجة من وجودهم.
لا يخفى على أحد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سياسي ماكر ومخادع، يجيد استخدام الحجج الواهية والمغلوطة لتبرير سياسته العدوانية والاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني والعرب. فهو لا يتورع عن نشر الأكاذيب والافتراءات المُدعّمة بالوثائق المزورة، ولا يحترم الحقائق التاريخية والجغرافية والإنسانية.
وبين أغرب القصص التي ابتدعتها مخيلة نتنياهو، إدعاؤه أن هتلر لم يكن ينوي قتل اليهود، بل كان يرغب في تهجيرهم من ألمانيا، وأن الشخص الذي حرضه على القيام بالهولوكوست هو الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس السابق، عندما زاره في برلين.
هذا الادعاء لا يقوم على أي دليل أو شهادة، بل هو محاولة يائسة لتشويه سمعة شخصية تاريخية بارزة. فلا عجب إذاً أن نراه بعد فترة يلقي باللائمة على الفلسطينيين في ارتفاع انبعاثات الكربون، فبيوتهم ومحالّهم وأجسادهم اعترضت صواريخه وقنابله، وليس العكس.
من المؤكد أنّ نتنياهو، مصاص الدماء، لا يبالي بالتغيّر المناخي، ولا بانقراض وحيد القرن الاسود أو الغوريلا الجبلية، ولا يساوره القلق بشان السلاحف صقرية المنقار. على الرغم من أنّه تعهّد، في قمّة المناخ التي عُقدت عام 2021، برئاسة الرئيس الأميركي جو بايدن، تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتحقيق الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة في "إسرائيل"، بحلول عام 2050.
كما أكدّ أنه بحلول عام 2025، لن يتم إحراق الفحم في الأراضي المحتلة. حسناً، لا نستطيع أن نلومه، فهو التزم عدم استخدام الفحم في عمليات الاحتراق، أما الفوسفور الأبيض، الذي يتسبّب بحروق عميقة تخترق العظام وتنخرها، فغير موضوع حالياً على طاولة البحث لدى رؤساء العالم في مؤتمر كوب 28 (COP28).
في جميع الأحوال، ذهبت وعود "نتن يا هوه" المناخية أدراج الرياح بعد الحرب على غزة. ولا بُّد من الإشارة إلى أن "بيبي" معروف عالمياً بأنه يتملص من كل تعهداته والتزاماته، أي أنّ كلام الليل يمحوه النهار.
هذه الصفة الجذّابة في شخصيته أكّدها البروفسور شاؤول قمحي في دراسة تحليلية نفسية لرئيس الوزراء الاسرائيلي، نشرتها جامعة تل أبيب عام 2001 (وشهد شاهد من أهله).
ووفقاً للدراسة المذكورة، فإن نتنياهو إنسان نرجسي ووصولي يستغل الآخرين لتحقيق مصلحته الذاتية، ويُعَدُّ النجاح الشخصي أكثر أهمية بالنسبة إليه من الأيديولوجيا التي يقول إنه يسعى لتحقيقها. كما أنّه يعشق السيطرة ويفعل أي شيء للبقاء في السلطة مهما كان الثمن والتنازلات التي يمكن أن يقدّمها من أجل الوصول إلى هدفه.
نتنياهو معروف أيضاً بأنّه يمقت العرب. يُقال إن مشاعره الجياشة نحو بني قحطان وعدنان ورثها عن والده الأستاذ الجامعي بنتسيون نتنياهو، الذي كان مقرباً من زئيف جابوتنسكي. هذا الأخير هو الأب الروحي للتيار الصهيوني المتطرف، والمسؤول عن كثير من المجازر التي تم ارتكابها بحق الفلسطينيين. وهذا يعني أنّ نتنياهو مستعد لزيادة البصمة الكربونية للكيان المصطنع في فلسطين، وهو لن يتراجع قيد أنملة حتى لو وصلت حرارة الأرض إلى درجة الغليان وأمطرت السماء حامض الكبريت فوق رؤوس الجميع. المهم أن يبقى رئيساً للحكومة إلى الابد، ويتهرب بالتالي من ملفات الفساد التي تلاحقه هو وزوجته "الرقيقة" سارة.