النضال بالرمز.. كيف يجابه الفلسطينيون محاولات طمس هويتهم؟
من حنظلة إلى مفتاح العودة، وصولاً إلى نصف بطيخة.. لماذا، وكيف يناضل الفلسطينيون ضد محاولات "إسرائيل" طمس هويتهم؟
لك أن تتخيل دولة ألمانيا، بحجم قوتها، عسكرياً وصناعياً واقتصادياً، يهز أركانها ذلك "المثلث الأحمر"، الذي أصبح رمزاً للمقاومة الفلسطينية في وجه عدوان الاحتلال الإسرائيلي، منذ بدء الحرب على قطاع غزة، ويستنفر أعضاء حكومتها وبرلمانها لإقرار قانون يجرم استخدام هذا الرمز.
الأمر لا ينسحب على ألمانيا التي أحرقت اليهود بصورة جماعية خلال عصرها النازي، بل لاحقت أجهزة الأمن في الولايات المتحدة وأوروبا كل من يرفع العلم الفلسطيني، أو أي رمز يشير إلى التضامن مع القضية الفلسطينية، كالـ"كوفية"، وصولاً إلى نصف البطيخة، وحتى مصادرة الملابس التي تحمل تلك الرموز في الساحات والشوارع العامة، أمام عدسات الكاميرات.
هذا الرعب الغربي يجده الرسام التشكيلي، سائد الجنيدي، مبرَّراً، وخصوصاً أن الفنان الفلسطيني نجح، على رغم التضييق الإسرائيلي ومحاصرة الهوية الفلسطينية، بتقديم بدائل رمزية تحمل رسائل تجاوزت في معناها حد التضامن لتصبح لاحقاً أداة لـ"مقاومة المحتل فكرياً وعقائدياً".
الجنيدي، وهو رسام فلسطيني مقيم بالأردن، قال في حديث إلى "الميادين الثقافية" إن المتتبع للفنانيين الفلسطينيين ما بعد هزيمة عام 1967، وبداية سبعينيات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، يستطيع إدراك أن رسومهم كانت تركز على التعبير عن الهوية الثقافية وترسيخها في أذهان الشعب الفلسطيني، في وقت كانت سلطات الاحتلال تمارس كل أشكال التضييق، بدءاً بإغلاق المعارض الفنية، ومنع إنشاء معاهد أو مراكز متخصصة للفنون.
وأضاف الجنيدي أن غياب الاعتراف بالهوية أصبح الموضوع الرئيس في أغلب رسوم الفنانين الفلسطينيين، وبقيت الحال عليه حتى منتصف التسعينيات، ليتباين بعدها الأمر، ويتحوّل إلى تجسيد روح المقاوم الفلسطيني وثقافته عبر الصورة "مثل تلك الصورة التي انتشرت على نطاق واسع لطفل يحمل حجراً في وجه دبابة إسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى"، مشدداً على أن الصورة لم تحلّ محل الرموز، بل بقيت العلامةَ الفارقة، بحسب وصفه للقضية الفلسطينية حتى اليوم.
أشهر الرموز الفلسطينية وتاريخها
"المثلث الأحمر"، الذي استخدمته وما زالت حركة "حماس" عند نشر فيديوهات عمليات استهداف الآليات الإسرائيلية، أو جنود جيش الاحتلال خلال معركة "طوفان الأقصى"، هو أحدث الرموز التي جابت العالم، في إشارة إلى التضامن مع الفلسطينيين بصورة عامة، والغزيين بصورة خاصة.
إلا أن المثلث واحد من عشرات الرموز الفلسطينية التي أصبحت وسيلة ليس للتضامن فقط، بل أيضاً لمقاومة الاحتلال، فكرياً وثقافياً، وأبرزها وربما أقدمها "المفتاح" الذي حمله الفلسطينييون معهم عند تهجيرهم من منازلهم عام 1948، وبقي حتى اليوم رمزاً يؤكد على حق الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم في الأراضي المحتلة، وتمسكهم بالأرض على رغم طول أمد الاحتلال.
بعد حرب عام 1967 ظهر منع الاحتلال الإسرائيلي رفع العلم الفلسطيني علناً في كامل الأراضي المحتلة، وعدّ رفعه جريمة في غزة والضفة الغربية، وهذا ما دفع الفنانين الفلسطينيين إلى البحث عن بديل، تمثّل بـ"البطيخة" التي تحمل عند تقسيمها ذات ألوان العلم الفلسطيني، وكان الفلسطينيون يضعون، وفق كتب التاريخ، نصف "البطيخة" على نوافذهم وأبواب منازلهم، بديلاً من رفع العلم.
"حنظلة" ناجي العلي أيضاً ما زال رمزاً أيقونياً للمقاومة الفلسطينية والنضال الفلسطيني في عالم الرسوم الكاريكاتورية السياسية. كذلك، حمل هذا الرمز رسالة استنكار لصمت العالم الدولي عن جرائم الاحتلال، والظلم والقهر اللذين يعيشهما الفلسطينيون، عندما جعل الطفل اللاجئ يعطي ظهره للعالم.
وعند تأكيد عدالة قضيتهم، وحبهم الحياة والسلام والاستقرار، وأنهم ليسوا طلاب حرب أو صراع، كان "غصن الزيتون" هو رمز الفلسطينيين الذي يرفعونه في وجه الاحتلال والعالم، وكان أول من رفع هذا الرمز هو الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عام 1974، في خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
التحايل على القيود
لا شك في أن للكلمة وقعها وتأثيرها في النفوس، وأدّت، وفق ما يقول الشاعر الأردني، ليث المقابلة، دوراً محورياً في الحراك النضالي للشعب الفلسطيني منذ الاحتلال الإسرائيلي، عبر آلاف المجلدات الروائية والشعرية والأدبية التي توثق للقضية الفلسطينية بكل أبعادها، إلا أن الرمز، بحسب وصف المقابلة، كان وسيلة أسرع لإيصال الفكرة والرسالة، على عكس الكلمات التي تحتاج إلى وقت وجهد وأدوات أحياناً لإظهارها.
وقال المقابلة إن حظر الكتب التاريخية والمجلدات الشعرية، ومنع طباعتها أو تداولها، كانا أمراً سهلاً على الأنظمة في فترة ما قبل ظهور الإنترنت. لذلك، حظيت الرموز الفلسطينية بانتشار أوسع، وكانت تحمل دلالات لا تقل أهمية عن الكلمة، "كما هي الحال مع حنظلة الذي كان يعكس معاناة الفلسطيني وصموده في الوقت نفسه".
ويّعُدّ المقابلة أن الرموز، عبر كل أشكالها ومراحل ظهورها، كانت مثالاً على "كسر" كل القوانين والتعليمات التي وضعتها "إسرائيل" وبعض الأنظمة العربية على الهوية الفلسطينية، و"التحايل" عليها، والتضييق على توثيق واقع الحال وإظهاره للعالم.
في عصرنا الحالي استمر العقل العربي في ابتكار وسائل للتحايل على القيود، وتجلى ذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي المنتشرة حالياً على نطاق واسع، والتي شجعت، من خلال التضييق على المحتوى الفلسطيني، مستخدميها على إعادة إحياء رموز القضية الفلسطينية للتعبير عن التضامن مع ما يجري في سكان قطاع غزة، كما يقول مهندس الاتصالات، أمجد خريسات.
وأوضح خريسات أن منصات التواصل الاجتماعي وضعت "خوارزميات" وكلمات مفتاحية في نظامها لمنع انتشار المحتوى الفلسطيني منذ إنشائها، ووسعت دائرة قيودها بعد الـ7 من أكتوبر، وخصوصاً في ظل اتساع رقعة التضامن مع الفلسطينيين حول العالم.
وقال خريسات إن آلاف الأشخاص والصفحات في "فيسبوك" و"أكس"، تم حظرها كلياً أو لفترة محدودة بسبب نشر كلمات تعبر عن التضامن مع غزة والمقاومة الفلسطينية، "لكن سرعان ما استدرك كثيرون منهم الأمر، وبدأوا نشر رموز عوضاً من الكلام، كالكوفية ومفتاح العودة، أو رسوم كاريكاتورية"، مبيّناً أن هذا الأمر تغلّب، إلى حد كبير، على خوارزميات "مِيتا" وأخواتها.