المثقف والاستبداد الرقمي

لا يُختزل دور المثقف في إنتاج الأفكار فحسب، بل هو حارس للضمير الجمعي، وقنديل ينير دروب المجتمعات وسط عتمة التيه. إنه الجسر بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة والرؤية. فالمجتمعات التي تهمش صوت المثقف تُحوِّل نفسها إلى جسد بلا روح.

  • في عصر الهيمنة الرقمية يصير دور المثقف أكثر إلحاحاً لتطوير أدوات جديدة لاختراق الحجب وخلق فضاءات موازية تعيد تعريف الحرية
    في عصر الهيمنة الرقمية يصير دور المثقف أكثر إلحاحاً لتطوير أدوات جديدة لاختراق الحجب وخلق فضاءات موازية تعيد تعريف الحرية

في زمنٍ يعلو فيه صوت السلعة على صوت الفكرة، وتُختزل الحياة في أرقام تتهادى على شاشات باردة، يغيب أصحاب الكلمة الجريئة، أولئك الذين يحملون مرايا تُري العالم وجهه الحقيقي بلا زيف. الفلاسفة والمفكرون والأدباء والشعراء، كلُّ صاحب رأي يخترق السائد، يُحاصرون في كهوف الصمت، بينما تُفتح أبواب الفضاءات العامة على مصاريعها للسطحيين والتافهين، كأنَّ العالم قرر أن يستبدل الحوار بالصراخ، والفكر بالضجيج. 

لا يُختزل دور المثقف في إنتاج الأفكار فحسب، بل هو حارس للضمير الجمعي، وقنديل ينير دروب المجتمعات وسط عتمة التيه. إنه الجسر بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة والرؤية. فالمجتمعات التي تهمش صوت المثقف تُحوِّل نفسها إلى جسد بلا روح، يسير بلا بوصلة، ويقبل بالواقع المُعطى كقدَرٍ لا يمكن تغييره. المثقف الحقيقي ليس من يعيش في أبراج عاجية، بل من ينزل إلى الساحات العامة حاملاً مشعل النقد، ليُظهر التناقضات ويكشف الأوهام، ويُذكِّر الناس بأنهم قادرون على صنع مصيرهم إذا ما امتلكوا إرادةَ الفهم. 

لم يعد التهميش مجرد مصادفة عابرة، بل صار أمراً مُمنهجاً تُشرف عليه آليات خفية، تخدم سلطة رأس المال المهيمن وثقافة الاستهلاك التي حوَّلت الإنسان إلى رقم في معادلة السوق. فوسائل الإعلام، التي يفترض بها أن تكون منابر للتنوير، تحوّلت إلى مسارح للتفاهة، تُكرس ثقافة الاستعراض، وتُبعد كلَّ صوت يزعج هيمنة النظام القائم. هنا، تُختطف الكلمة الحرة، وتُحشر في زوايا النسيان، بينما تُرفع أصوات المُروِّجين للوهم كأنها حقائق مطلقة. 

الرأي النقدي ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة حياتية كالتنفس. فكما يُنقِّي الجسد نفسه من السموم بالدورة الدموية، تُنقِّي المجتمعات نفسها بالنقد الذي يكشف أمراضها الخفية: الاستبداد، التفاوت الطبقي والاجتماعي، الانحدار الأخلاقي. النقد هو ذلك الصوت الذي يرفض أن يصادق على الظلم، حتى لو كان مُعبَّأً بشعارات برَّاقة. وهو السلاح الذي يحمي الجميع من تحوُّل السلطة إلى مُطلَقة، ومن تحوُّل الثقافة إلى سلعة تُباع في السوق السوداء. من دون هذا الصوت، تتحوّل الحياة العامة إلى مسرح للعبث، حيث تُغتال الحقيقة في وضح النهار، ويُدفن العقل تحت ركام الإلهاءات. 

الغريب أن التكنولوجيا، التي وُعِدَ بأنها ستكون جسراً للحرية، صارت أداة للقمع الحديث. فخوارزميات التواصل الاجتماعي، المبرمَجة على قياس الإعجابات والمشاركات، لا تخدم إلا ما يُشبه إجماعاً مزيفاً. كلُّ رأيٍ يخرج عن السرب يُحذف أو يُحجب، ليس لأنه باطل، بل لأنه يهدد النظام القائم. وهكذا تُصادِر الآلة الرقمية الفكر النقدي، وتُعيد إنتاج الاستعمار بأشكال جديدة: استعمار العقول عبر تحجيمها في سجن الاستهلاك والابتذال. 

عندما ينسحب المثقفون من الحياة العامة، تتراجع العدالة وتتقدَّم المصالح الضيقة. التاريخ يشهد أن كلَّ تحوُّلٍ إنساني عظيم بدأ بفكرة أطلقها مثقفون تجرأوا على طرح الأسئلة المحرَّمة: من روسو الذي تحدث عن العقد الاجتماعي، إلى مالكوم إكس الذي كسر قيود التمييز العنصري، إلى أنطونيو غرامشي الذي رأى في المثقفين "المنظمين للوعي". هؤلاء لم يكتفوا بالتفكير، بل حوّلوا الفكر إلى فعل يهزّ أركان الظلم. إن وجودهم في الواجهة يعني وجود بصيرة تواجه القوة العمياء، ووجود ضمير يقلقل هدوء المستفيدين من الوضع القائم. 

في الماضي، كانت السلطات تقمع المفكرين في السجون أو المنافي، أما اليوم، فيكفي أن تسكتهم بجعلهم بلا جمهور، بلا منصة، بلا تأثير. يُحاصَرون بالصمت، بينما تُغمر الساحة بفيضٍ من "المؤثرين" الذين يبيعون الوهم في علب ملوَّنة. الفيلسوف الذي يتحدث عن العدالة يُنعت بالحالم، والأديب الذي يسبر أغوار الإنسان يُوصف بالمعقد، والشاعر الذي يرفض أن يرقص في سوق النفاق يُتهم بالغموض. 

في عصرِ الهيمنة الرقمية، حيث تُصادِر الخوارزمياتُ الحقَّ في الاختلاف، يصير دور المثقف أكثر إلحاحاً. عليه أن يطور أدوات جديدة لاختراق الحجب، وأن يخلق فضاءات موازية تُعيد تعريف الحرية. النقد اليوم ليس مجرد مقالة أو قصيدة، بل هو مقاومة يومية ضدّ آلات تحاول تحويل الإنسان إلى مُستهلِكٍ سلبي. المطلوب مثقفون شجعان يرفضون أن يكونوا "براندات" في سوق الأفكار، ويعيدون تأسيس الخطاب العام على قاعدة أخلاقية: أن الحقَّ لا يقاس بعدد الإعجابات، وأن القيمة لا تحددها خوارزميات السوق. 

لكن التاريخ يخبرنا أن الأفكار العظيمة وُلدت دائماً من رحم المقاومة، وأن صوت الحكمة لا يموت، حتى لو أخفته الظلمات. فها هي أصوات سقراط وكانط ونيتشه ونجيب محفوظ ومحمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي تعود من بين طيات المخطوطات لتذكرنا بأن الفكر الحقيقي لا يُقتلع، بل ينام قليلاً لينهض من جديد. 

المجتمع السويُّ هو الذي يصغي إلى من يزعجه، لا إلى الذي يسكته. فالأفكار النقدية هي التي تمنع الثقافة من التحوُّل إلى مقبرةٍ للموتى، وتبني حصوناً ضدّ الانهيار. لن ننجو كبشر إلا إذا آمنّا بأن المثقف ليس عدواً، بل هو الطبيب الذي يُشخِّصُ الداء قبل أن يستشري، والبوصلة التي تُنبئنا بالعواصف قبل أن تقع. فليكن صمت العقلاء اليوم دافعاً لنا كي نصرخ بأعلى الأصوات: لا حياة بلا فكر، ولا مستقبل بلا ضمير.

اخترنا لك