الكتابة بالقدمين.. كيف ساعد المشي الفلاسفة على إنتاج أفكارهم؟

عندما يُدمَّر كل شيء، وتختفي الحضارة، لن يبقى أمامنا سوى المشي"، يقول أحد الفلاسفة. أي دور كان للمشي عند فلاسفة وشعراء، من أمثال نيتشه ورامبو، حتى أنجزوا كتبهم؟

"أجد نفسي مرة أخرى ناسكاً، يمشي 10 ساعات بخطوات الناسك"، نيتشه.

**

في حرية أن تكون لا أحد

من البداية، ومن عنوان كتابه "المشي فلسفة" (ترجمة سعيد بوكرامي، دار معنى، 2021)، يحدد الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو، أو "فيلسوف المشي"، نقطة انطلاقه بالقول إن: "المشي فلسفة، ليس رياضة، وبمجرد أن يقف الإنسان لن يمكث حبيس موقعه".

المشي إذاً حرية، انفكاك، تخلص، تحرر، راحة، إزالة أعباء، تطهير، انفصال. المشي وحده، وفقاً لغرو، قادر على تحريرنا من أوهام الأشياء الضرورية، ويصير مملكة الضرورات القوية.

لكن أولئك الذين لم يختبروا ذلك، فإن وصف حالة المشاء ستبدو لهم عبثاً وشذوذاً أو عبودية طوعية، لأن ساكن المدينة يفسر ذلك على أنه نوع من الحرمان، في حين يراه المشّاء نوعاً من التحرر. 

قرار المشي (الذهاب بعيداً، نحو أي جهة، تجريب شيء آخر)، أمر مفهوم بوصفه نداءً من البرية. إذ نكتشف فيه ذلك النشاط الهائل لليالي المرصعة بالنجوم والطاقات الضرورية، ثم تنفتح شهيتنا الهائلة فتصبح أجسادنا مكتفيةً حد الشبع.

ينتهي المشي بأن يوقظ فينا ذلك الوجه المتمرد السحيق: تصبح شهيتنا خشنة وعصية، واندفاعاتنا ملهمة، لأن المشي يضعنا وجهاً لوجه أمام محور الحياة، وهكذا نجد أنفسنا مسحوبين بالسيل المنبجس من تحت أقدامنا. وعند المشي يفلت المرء من فكرة الهوية نفسها، ومن الإغواء بأن يكون أحدهم، من الحصول على اسم وتاريخ آخر. المشي كشف عن حلم، بحسب غرو، وهو تعبير عن رفض لحضارة متعفنة، ملوثة، مستلبة وبائسة.

لذا، فإن الحرية عند المشي تتمثل في أن تكون لا أحد، لأن الجسد الذي يمشي لا يملك تاريخاً، وإنما فحسب تيار حياة لا ذاكرة له.

الحرية القصوى للمشاء هي حرية الرافض. ينقل غرو عن عالم الهنديات واللغوي هاينريش زيمر، أحد أعظم العارفين بثقافة الهنود، 4 مراحل أو مسارات عن الحياة في الفلسفة الهندوسية، وآخرها تسمى بمرحلة "الحاج المتسول"، التي تلي "الرحلة إلى الجبل". في المرحلة الرابعة هذه يكون المشي لانهائياً حيث: حرية الانفصال التام؛ أنا لست معنياً، لا بنفسي ولا بالعالم، غير مبال بالماضي والمستقبل، لست إلا الحاضر الأبدي للمطابقة مع الذات.

نيتشه: المشي عنصراً مكوناً

صنعت حياة الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه من الانفصالات والقطائع والعزلة عن العالم والمجتمع ورفاق الطريق إلى العمل والنساء والأصدقاء والأهل. لكن، كلما اشتدت عزلته، كانت تعني عمقاً في حريته.

وكان نيتشه مشّاءً رائعاً، لا تخلو معظم أعماله من الإشارة إلى ذلك، وكان المشي في الهواء الطلق يشبه العنصر المكون لأعماله، والمرافق الذي لا يتبدل لكتابته: "لو كان بإمكاني الحصول على منزل صغير في مكان ما، سأمشي من 6 إلى 8 ساعات في اليوم، مؤلفاً أفكاراً، سأبسطها على الورق بقلمي".

من ثم، وفي المرحلة الثالثة من حياة نيتشه، من 1879 حتى 1889، وبعد خسارات هائلة والاستقالة من التدريس وضعف البصر، سيصبح ذلك المشّاء الفريد من نوعه. سيمشي، يمشي كما نشتغل، ويشتغل وهو يمشي. 

في الصيف الأول، سيمشي بمفرده 8 ساعات في اليوم ويكتب "المسافر وظله" ويقول: "كل شيء في هذا الكتاب، ما عدا ربما بعض الأسطر، تم التفكير فيه وأنا أمشي، وتسجيله على عجل في 6 دفاتر صغيرة".

التلال طاولة كتابته، والبحر قنطرته العظيمة، وحين يقع على هذا الاكتشاف، المشي، سيسأل: ماذا حصل لي كي أعذب نفسي في الماضي؟

في غضون 10 سنوات سيكتب نيتشه أعظم كتبه: "الفجر"، "جينالوجيا الأخلاق"، "العلم المرح"، "ما وراء الخير والشر"، و"هكذا تكلم زرادشت". ومن ثم سيصير فيلسوفنا ناسكاً، ويصبح المشي شرط العمل، أو العنصر المكون.

رامبو: الرجل الذي انتعل الرياح

قال الشاعر الفرنسي، آرثر رامبو، عن نفسه: "أنا أمشي على قدمي، ولا شيء أكثر من ذلك". مشى رامبو حياته كلها.

المدقق في شعر رامبو يجد مشياً كثيراً، حياة قائمة على المشي، وهي من أجله، أو المشي محركها. يتفجر الشعر من المشي نفسه، في الطرقات، ومحاولات الهروب الكثيرة، مشي للحاق بالمدن الكبرى ثم هروب منها، طريق الجنوب، ثم الصحراء. رحلات متواصلة ذهاباً وإياباً بين موانئ البحر المتوسط (مرسيليا أو جنوة). محاولات للمشي نحو الشمس. وفي غضون 5 سنوات سيتمكن هذا الفتى من تغيير الأدب برمته، وبعد ذلك، لن يكتب قصيدةً واحدة. في المقابل: سيمشي كثيراً، مرة أخرى، بعناد. وكلما انقطعت به القطارات، أكمل الرحلة سيراً على الأقدام. أما آخر فصل في حياته فسيقضي فيه عقداً بين الصحراء والجبال، وعدن وهارار، إلى غاية اليوم الذي سيشعر فيه بآلام شديدة في ركبته التي تورمت بشكل مفرط. كان آنذاك في الــ 36 من عمره.

رجل قاس بساقيه الفريدتين، كما يقول غرو عنه، ودائماً مشياً على الأقدام، عرض الأرض. وفي كل مرة سيقول:
"أنا مشّاء على الأقدام، ولا شيء غير ذلك"، ودائماً كانت في أعماقه صرخة الرحيل وغبطة الغاضب.

الكتابة بالقدمين

وفقاً لغرو، فإننا لكي نعبّر عن تقديرنا لكتاب أو شخص أو موسيقى علينا أن نسأل: هل يعرف المشي؟ يحكم غرو على الكتب وفقاً لمعيار واحد: المشي. فكتب المؤلفين المحبوسين خلف جدرانهم، المغروسين في مقاعدهم، بالنسبة إليه، عسيرة الهضم ثقيلة. ويقول إنها تولد من انتحال كتب أخرى موضوعة فوق الطاولة. إنها كتب مثل الإوز السمين: متخمة بالاقتباسات، محشوة بالمراجع، مثقلة بالهوامش. ثقيلة وبدينة، وهي تقرأ ببطء، وملل وصعوبة. أولئك المؤلفين يصنعون كتاباً من كتب أخرى، مقارنين بين سطور وأخرى، مكررين ما قاله الآخرون عما أمكن لآخرين أن يرووه.

وعلى العكس من ذلك، فإن الذي يؤلف أثناء المشي متحرر من الارتباطات، فكره ليس عبداً للمجلدات الأخرى، وليس مثقلاً بالتحقيقات، وليس رازحاً تحت وطأة فكر الآخرين. إنه الفكر المتولد من حركة، من وثبة، يحس عنده بمرور الجسم وحركة الرقص. إنه فكر يحصل ويفيض طاقة. إنه تفكير في الشيء ذاته، من دون تشويش وضباب وحاجز وجمارك الثقافة والتقاليد.

إننا لا نكتب باليد فقط، كما يقول غرو، بل لا نكتب جيداً إلا بـ "القدمين". القدم دليل ممتاز، وربما الأكثر ضمانة.

لن يبقى أمامنا سوى المشي

"ربما، عندما يدمّر كل شيء، وتختفي الحضارة بعد كارثة عظمى وعلى أنقاض الحطام المحترق لبشرية غارقة، لن يبقى أمامنا إذاً، سوى المشي"، يقول غرو.

لن يتوقف المشي مطلقاً، وإذا ما فكرنا ملياً، حتى في الخصوصية العربية، فإن الموت نفسه مشي. نمشي وراء الميت ونحن نحمله إلى بيته الأخير، نمشي خلفه، وهو يمشي معنا لكنه محمول هذه المرة. نقول له هناك: وداعاً. ونرجع مشياً على الأقدام إلى بيوتنا المؤقتة. نقطع آلاف الأميال، نمشي، نمشي إلى الأبد.

لنتخيل أن الحياة كلها تتلخص بالمشي، المشي في 3 حالات، كما يصيغ "وحش الاسفنكس" الإغريقي لغزه أمام أوديب (بطل الأسطورة الإغريقية ومسرحيات سوفوكليس) كي يصيبه بالعجز، اللغز سؤال يقول: ما هو الكائن الذي يمشي أحياناً على قدمين، وأحياناً أخرى على أربع، وأحياناً ثالثة على ثلاث؟ 

إنه لغز حياتنا كاملةً. منذ الطفولة حتى الشيخوخة. ويحل أوديب اللغز هكذا: "هذا الكائن هو الإنسان، فهو حين يكون طفلاً فإنه يدب على أربع، ولما يشتد عوده يمشي على قدمين، وحين يصبح شيخاً فإنه يمشي على ثلاث".