القصّة التي قادتني للتفكير بالديناصورات!
تلطّخت الهوية السورية بأسماء الطوائف التي لا حصر لها، كما لو أننا في جُحر أرانب تتوالد كل يوم، ومعارك طاحنة على المنصات تكاد تصل لفظياً إلى مقام السلاح الأبيض.
-
"مسخ" فرانز كافكا
في بلاد تتثاءب الكراهية والعنف ونشوة سقوط الديكتاتور، يصعب إنشاء نصّ مصقول بمهارة في كيفية الاستيقاظ على شمس أخرى لا تلطخها آثام الأمس، فكلما حاولنا إزالة الضمادات عن الجسد المريض، نكتشف ندبة ما غير قابلة للإصلاح أو العلاج الموضعي.
بلاد ميؤوس منها مهما حاولتْ تجميل المشهد أو تطريزه بما ليس فيه. كان الخلاف حول اسم البلاد: هل يُكتب بالتاء المربوطة أم بالألف الطويلة، سورية أم سوريا؟ بين هذين الخندقين تفككت أقدم أبجدية في العالم إلى أحرف معلّقة في سديم لحظة ضبابية. أبجدية تناسلت إلى هويات صغرى لطالما كانت مخفيّة قسراً بوصفها خردة غير صالحة للاستعمال.
سننسى عمداً اسم "بلاد الشام"، تلك التي كان أهلها يجتازون الحدود من دون بطاقة هوية أو جواز سفر. يتناولون فطورهم في القدس ويصلّون العشاء في الجامع الأموي. يجتمع الحجيج في "شام شريف"، ثم يعبرون الحدود بموكبٍ مهيب، وفي طريق العودة يطيب لأحدهم هواء الشام، فيستقر فيها كما لو أنه واحد من سكانها الأصليين!
هكذا تلطّخت الهوية السورية بأسماء الطوائف التي لا حصر لها، كما لو أننا في جُحر أرانب تتوالد كل يوم، ومعارك طاحنة على المنصات تكاد تصل لفظياً إلى مقام السلاح الأبيض. هكذا تحضر كلمة "صرماية" عشرات المرّات، كما لو أنها ملعقة من العسل نتناولها على الريق.
لا تخلو منامات السوريين اليوم من الكوابيس. شخصياً، لا أعلم كيف استيقظ "غريغور سامسا" مسخ فرانز كافكا، مرّة أخرى في مخيّلتي، ليس كحشرة ضخمة، وإنما على هيئة ديناصور! على الأرجح بتأثير قصة أخرى أكثر كثافة تتحدث عن الديناصور، القصة التي قادتني إلى التفكير بالديناصورات، أثناء كتابة روايتي "جنّة البرابرة": ديناصور يتجوّل في الأرض الخراب، باحثاً عن أسلافه. ديناصور يشاركني قهوتي وسريري وكتبي. ديناصور يدخّن تبغ الغنيمة باطمئنان. ديناصور خرج من "الحديقة الجوراسية" في وضح النهار، وأخذ يحطّم كلّ ما في طريقه نحو الهاوية.
الديناصورات تخرج من الكتب، حتى أن القصّة التي كتبها الغواتيمالي، أوغوستو مونيتروسو، واعتبرها غابرييل غارسيا ماركيز، أعظم قصة قصيرة صادفها في حياته، كانت تلحّ عليّ بعنف، ذلك أن بطلها ديناصور أيضاً "عندما استيقظتُ من نومي، كان الديناصور لا يزال هنا".
انتهت القصة عند هذا الحدّ، بأقلّ من 10 كلمات، لكن الديناصور لا يزال هنا حقاً، وبدقة أكبر، لا أحد موجود سواه. أفكّر بمخاطبته، غير إنني لا أجد لغة مشتركة بيننا.
أذهب إلى مشاغلي الأخرى، من دون أن يغادر الديناصور الغرفة. فقد كان يسدُّ عليّ النافذة الوحيدة للضوء، النافذة التي كنتُ أرقب خلالها القنّاص المتوهَّم، وهدير الحوّامات، وأسراب الغربان، وحركة العاملة البدينة في مشغل الخياطة، في البناء المقابل.
أتتبع حركة الإبرة فوق القماش الأبيض، هل ما كانت تطرّز كفناً، أم ملاءة لسريرٍ فارغ، أم هي بينلوب أخرى، تنسج خيوط الزمن الضائع، بانتظار محارب لن يعود؟ لا يجيبني الديناصور. أظنّ بأنه في إغفاءة قصيرة، بعد أن التهمَ، في وجبةٍ واحدة، أشجار قرية كاملة، وشارعين، ومئذنة، و9 دراجات هوائية، ومكتبة، و23 حقيبة مدرسية، وحقل سبانخ، وواجهة متحف، وفناء كنيسة، وسبطانة مدفع مهجور، ومخزناً للطحين.
**
على المقلب الآخر، علينا أن نحذر ديناصورات الكتابة، وهم يستحضرون لغةً محنّطة أو لغة سائلة، ومجازات لا قيمة لها، وكأن الكوكب لم تلتهمه الحروب والثورات والأوبئة، وفوتوغرافيا "السيلفي"، ومنصات السوشال ميديا، والخرائط الجديدة، وأنواع الإذلال، أولئك الذين لم يغادروا عتبات الحكي سنتمتراً واحداً نحو هجنة السرد وأشواق الحواس.
كان سومرست موم، قد أنجز قائمة بأفضل 10 روايات عالمية لمصلحة إحدى دور النشر اللندنية، وقد كتب في مقدمته تعليقاً على محتوى هذه الروايات بقوله: "سيجد القارئ العاقل أكبر قسط من المتعة في قراءة هذه الروايات، لو تعلّم فن قفز الصفحات".
وهو ما قام به سومرست موم بنفسه، وذلك بحذف بعض الأجزاء التي رأى بأن لا ضرورة لها، من "الحرب والسلم" لليو تولستوي، و"الأحمر والأسود" لبلزاك، و"مدام بوفاري" لفلوبير، و"موبي ديك" لهرمان ملفل. علينا إذاً، أن نتعلّم القفز ونحن نقلّب صفحات معجم الكراهية، لنستعيد بلاداً كادت أن تصل إلى حافة الهلاك.