الفرح .. السعادة النابعة من الداخل

الثري في بؤس وقد اختفى لديه الأمل الذي يعيشه الفقير كي يصبح غنياً. لكن بؤس الغني مضاعف، فلا يمكنك أن تجد أفقر من الثري؛ فهو فقير على نحو مضاعف.

  • كتاب
    كتاب "الفرح .. السعادة النابعة من الداخل" للمعلم الهندي أوشو.

الفرح هو الطبيعة الأساسية للحياة، يفترض المفكر التأملي أوشو في كتابه أن الفرح هو البعد الروحي للسعادة، حيث يبدأ المرء بفهم قيمته الجوهرية  ومكانه في الكون. تقبّل الفرح هو قرار «السير مع التيار»، لتكون ممتناً لكونك على قيد الحياة ولجميع التحديات والفرص التي مُنحتها، بدلاً من وضع شروط أو مطالب للحصول على تلك السعادة.

تبدأ السعادة عندما تتوافق مع حياتك، عندما تشعر بقدر كبير من الانسجام يصبح معه كل ما تفعله مصدر سعادة بالنسبة إليك. وتتوصل فجأةً إلى إدراك أن التأمل يلحق بك. وإذا أحببت العمل الذي تمارسه وسعدت بأسلوبك في الحياة، فأنت متأمّل. وعندئذ لا يلهيك شيء. أما عندما تلهيك الأشياء، فإن ذلك يُثبت فقط أنك لست مهتماً فعلاً بها.

كتاب "الفرح: السعادة النابعة من الداخل" للمفكر الهندي التأملي أوشو، هو عبارة عن أحاديث وتسجيلات صوتية ألقاها أوشو. يقع الكتاب في 175 صفحة من القطع الكبير، صادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

السعادة كما يراها أوشو

يعتقد أوشو في كتابه هذا أن  الكائن البشري الحقيقي يتجرأ على التحرّك مع الأمور التي تسعده. وإذا بقي فقيراً، فإنه يكون قد بقي كذلك؛ لا يشتكي من وضعه، ولا يحمل أي ضغينة.. يقول: «لقد اخترت طريقي  كما اختارت الطيور والفراشات والأزهار، ولا بأس إذا لم أستطع أن أصبح غنياً! فأنا غني لأنني سعيد». لكن الكائنات البشرية انقلبت رأساً على عقب. لن تعود أنت نفسك. على الفور تنسى كلّ شيء، تنسى القيم الذاتية لحياتك، وسعادتك، وفرحك، وبهجتك. وتختار دوماً أمراً من الخارج وتساوم عليه مع شيء من الداخل. تربح الخارجي وتخسر الداخلي لكن ما الذي ستفعله؟ فحتى لو وضعت العالم بأسره عند قدميك وخسرت نفسك، وحتى لو استحوذت على كل ثروات العالم وخسرت كنزك الداخلي، فما الذي ستفعله بكل هذه الثروات؟ ذلك هو البؤس.

يقول الناس عندما يجدونك تعيساً: «تأمل تسعد». و «صلِّ تسعد؛ اقصد المعبد كن متديّناً، كن مسيحيّاً أو هندوسيّاً تسعد». هذا كله هراء. كن سعيداً، والتأمل يلي. كن سعيداً، والتدين يلي. «فالسعادة هي الشرط الأساسي». 

لكنّ الناس لا يصيرون متديّنين إلا تعساء ـ وعندئذ تكون ديانتهم زائفة. حاولوا أن تدركوا سبب تعاستكم. يأتيني كثيرون يقولون إنهم تعساء ويريدون مني أن أمدهم ببعض من تعاليم التأمّل. فأقول لهم في البداية إن الأمر الأساسي يتمثل في فهم الأسباب الحقيقية لتعاستكم. وإذا لم تزيلوها فلن يعود عليكم التأمل بالكثير من الفائدة، لأن الأسباب الحقيقية للتعاسة ستبقى قائمة.

وما الأمر الآخر الذي تمتلكونه لتراهنوا عليه؟ إنه بؤسكم فقط. وتتمثل لذتكم الوحيدة في التحدّث عنه. انظروا إلى أولئك الذين يتحدثون عن بؤسهم؛ كم أصبحوا سعداء، فهم يدفعون ثمن ذلك؛ يذهبون إلى المحلّل النفسي للتحدّث عن بؤسهم - ويدفعون كلفته يسعدون جداً لأن هناك من يستمع إليهم بانتباه.

يكرّر الناس، المرة تلو الأخرى التحدّث عن بؤسهم. بل إنهم يبالغون فيه، فيجمّلونه، ويجعلونه يبدو أكبر من حجمه الطبيعي. لماذا؟ لأنه ليس لديهم سوى بؤسهم على المحك، لكنّ الناس يتمسكون بما هو معروف بالمألوف والبؤس هو كل ما عرفوه؛ تلك حياتهم. ليس لديهم ما يخسرونه، لكنهم يخافون كثيراً من خسارته.

السعادة، بحسب أوشو تأتي أولاً والفرح كذلك، والفلسفة التي تؤكد قيمة الحياة تحتل الصدارة. استمتعوا ! وإذا لم تستطيعوا الاستمتاع بعملكم، فبدّلوه. لا تنتظروا! فأنتم طوال هذه الفترة، إنما تنتظرون شيئاً لن يأتي أبداً. فالمرء ينتظر فقط ويهدر حياته. فمن تنتظرون؟ 

يؤكد أوشو في كتابه أن لا أحد يستطيع أن يقرّر عنكم، فكل وصاياهم، وكل أوامرهم، وكل أخلاقياتهم تؤدّي إلى عرقلة مسيرتكم. عليكم أن تقرّروا عن أنفسكم، وأن تتحكموا في حياتكم، وإلا فستقرع الحياة بابكم ولن تجدكم أبداً. إنكم تحيون دوماً في مكان آخر.

يتوقف ما نسمّيه «السعادة» على الشخص المعني. فالإحساس بالمتعة يمثل سعادة للشخص النائم، الذي يعيش متنقلاً من لذة إلى أخرى. فقط ينتقل مسرعاً من إحساس إلى آخر. يعيش من أجل الإثارة الصغيرة؛ وحياته سطحية جداً. لا يمتلك عمقاً ولا نوعية. يعيش في عالم من الكمّ. ذلك أكثر سموّاً وأكثر عمقاً بكثير من المتعة التي تكتسبها من الطعام أو الجنس. هذا له عمق. لكنه لا يمثل أيضاً الذروة التي لا تبلغها إلا وأنت مستيقظ تماماً، عندما تصبح (كمثال غوتام بوذا)، ويغادرك كل رقاد ويزول كلّ حلم، عندما يمتلئ كيانك كله بالنور، وتختفي الظلمة ومعها تتلاشى الأنا.

ينتهي كل توتر وغمّ وقلق. تصير في حالة من الرضى التام. تعيش في الحاضر؛ ولا تعود تحيا في الماضي أو في المستقبل. أنت هنا تماماً. في هذه اللحظة كل شيء. الآن هو الزمن الوحيد، وهنا هو المجال الأوحد. وفجأة تسقط السماء بكليتها في داخلك. إنها الطوبى. إنها السعادة الحقة.

تعتمد اللذة على الآخرين. فيما لا تعتمد السعادة إلى هذا الحدّ عليهم، وتبقى مع ذلك منفصلة عنك والطوبى ليست معتمدة على الآخرين كما أنها ليست منفصلة عنهم؛ إنها كينونتك بالذات، طبيعتك.

  • المعلم الروحي الهندي أوشو.
    المعلم الروحي الهندي أوشو.

نظرة بوذا إلى السعادة

يقول غوتام بوذا: هناك لذة وطوبى أيضاً، تخلَّ عن الأولى تمتلك الثانية.

تأملوا في ذلك بأعمق ما تستطيعون، لأنه يحتوي على واحدة من الحقائق الأساسية. ويتعيّن فهم الكلمات الأربع التالية، والتمعن فيها وهي: الأولى اللذة والثانية السعادة؛ والثالثة الفرح والرابعة الطوبى.

يشير أوشو في كتابه "الفرح: السعادة النابعة من الداخل"، إلى أن اللذة ماديّة، فيزيولوجية، إنها أكثر أمور الحياة سطحية؛ هي دغدغة. قد تكون جنسية، أو تتعلق بحواس أخرى، وربما تتحوّل إلى هوس بالطعام، لكنها متجذرة في الجسد.

اللذة تعتمد على الآخر. فإذا أحببت امرأة، وكانت هي لذتك، عندئذ فستصبح سيدتك. وإذا أحببتِ رجلاً وكانت تلك لذتك وشعرت بالتعاسة واليأس والحزن من دونه، فقد جعلتِ نفسكِ عبدة له. أوجدتِ سجناً، ولم تعودي حرّة. وإذا سعيتَ وراء المال والسلطة فستصبح بالتالي معتمداً عليهما. فالرجل الذي يواصل تكديس المال، وإذا تمثلت لذته في الحصول على المزيد والمزيد منه، فسيصبح أكثر فأكثر تعاسة، لأنه كلّما حصل على المزيد أراد أكثر، وكلّما امتلك أكثر زاد خوفه من فقدانه.

اللذة خارجية، وهي بالتالي خاضعة للظروف الخارجية. وهي ليست إلا دغدغة. كما  أن للطعام لذة، فما الممتع في الحقيقة؟ المذاق فقط لبرهة، وعندما يعبر الطعام حلمات التذوّق على لسانك، تشعر بما تعدّه لذة. إنه تفسيرك. قد يبدو اليوم لذة، ولا يكون في الغد كذلك؛ وإذا تناولت الطعام نفسه يومياً، فإن حلمات التذوّق تتوقف عن الاستجابة له، وسرعان ما ستسأمه.

هكذا يصبح الناس سئمين. أنت قد تطارد رجلاً أو امرأة، وفي اليوم التالي تحاول البحث عن طريقة للتخلّص منه أو منها الشخص هو نفسه، ما من شيء تغير! فما الذي حدث في تلك الأثناء؟ لقد سئمت الآخر، لأن اللذة كلها تمثلت في استكشاف الجديد وها إنه لم يعد كذلك؛ فأنت على إلمام بمجاله. ملم بجسده، وبمعالمه، وبملامسه، وها هو ذهنك يتحرق شوقاً إلى شيء جديد.

نظرة مكيافيللي إلى السعادة

نصح مكيافيللي طالبي اللذة بأنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. لا تنتظر أبداً أن يهاجمك الآخر وإلا فسيكون قد فات الأوان. هاجمه قبل أن يفعل هو! إنها الطريقة الفضلى للدفاع. ويتبع الناس ذلك، سواء عرفوا بشأن مكيافيللي أو لم يعرفوا.

وبالتالي، ليست اللّذة هدف الحياة ولا يمكن أن تكون ذلك أولاً.

أما الثانية التي يتعيّن فهمها فهي السعادة. اللذة جسدية، أما السعادة، فنفسية. السعادة أفضل بعض الشيء، أكثر رقيّاً قليلاً، وأسمى إلى حد ما... لكنها لا تختلف كثيراً عن اللذة. يمكنكم القول إن اللذة هي النوع الأدنى من السعادة، التي هي النوع الأرفع من اللذة - وجهان لعملة واحدة. اللذة بدائية قليلاً، حيوانية؛ والسعادة أكثر رقياً وأكثر إنسانية بعض الشيء، لكنها اللعبة نفسها تُمارس في عالم الذهن. فأنت لا تهتم إلى حدّ كبير بالأحاسيس الجسدية، بل بالنفسية. لكن الأمرين غير مختلفين في الأساس.

الثالثة هي الفرح وهو روحاني. يختلف، تماماً، عن اللذة أو السعادة. ليست له أي علاقة بالخارجي، بالآخر؛ إنه ظاهرة باطنية. لا يتوقف الفرح على الظروف؛ إنه ملك لك. وهو ليس دغدغة ناتجة من الأشياء؛ بل هو حال من السلام، من الصمت، حال تأملية. الفرح روحاني.

تعني الطوبى أنك بلغت جوهر كيانك. وهي تخص عمق أعماقه حيث ينعدم حضور حتى الأنا، والصمت هو فقط السائد؛ فأنت اختفيت. تكون موجوداً قليلاً مع الفرح، لكن وجودك يضمحل مع الطوبى. فالأنا تلاشت؛ إنها حال اللاشيء. 

اللذة مؤقتة وتنتمي إلى الوقت إنها «في الوقت الحاضر»؛ والطوبى غير زمنية، أبدية اللذة بداية ونهاية؛ والطوبى تمكث إلى الأبد. اللذة تأتي وتذهب؛ والطوبى لا تأتي أبداً ولا تذهب أيضاً، فهي متوافرة بالفعل في جوهر كيانك. يجب اختطاف اللذة من الآخر؛ فتصبح إما مستجدياً أو سارقاً. والطوبى تجعل منك سيّداً. 

الطوبى ليست أمراً تخترعه بل تكتشفه. الطوبى هي عمق أعماق طبيعتك. وهي ساكنة منذ البداية في الذات، وأنت فقط لم تبصرها.

ما هي السعادة الحقيقية؟

السؤال الأهم بين كل الأسئلة بحسب أوشو هو: ما هي السعادة الحقيقية؟ وهل تحقيقها متاح؟ وهل هي ممكنة أصلاً، أم أنها كلّها عابرة؟ هل الحياة حلم فقط، أم فيها أيضاً ما هو جوهري؟ هل تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت أم أن هناك ما يتجاوز الولادة والموت؟ من دون الأبدي، لا مجال للسعادة الحقيقية. السعادة مع المؤقت ستبقى عابرة: فهي في لحظة هنا، لتختفي في اللحظة الأخرى وتتركك في حال من اليأس الكبير والظلمة.

وبناءً عليه، يصبح السؤال الأكثر جوهريّة وأساسية هو: ما هي السعادة الحقيقية؟ من المؤكد أن السعادة التي نعرفها ليست حقيقية؛ فهي من نوع الأحلام وتتحوّل دوماً إلى نقيضها بالذات. فما يبدو في لحظة كأنه سعادة يتحوّل في اللحظة التالية إلى لا سعادة.

السعادة وقد تحوّلت إلى لا سعادة تُظهر ببساطة أن الإثنين لا ينفصلان، ربّما أنهما وجهان لعملة واحدة وإذا بان عليك وجه من العملة يكون الوجه الآخر دوماً مختبئاً وراءه، في انتظار أن تسنح له الفرصة لفرض نفسه - وأنت تعرف ذلك. وعندما تشعر بالسعادة فإنّ في مكان ما في عمق أعماقك يسكن هذا الشعور المتربص بأن ذلك لن يستمر، وأنه عاجلاً أو آجلاً، سينتهي، وبأن الليل يهبط والظلمة ستغمرك في أي لحظة، وبأن هذا الضوء ليس إلا من بنات الخيال لا يستطيع مساعدتك، ولا الانتقال بك إلى الضفة الأخرى.

إذا مارست السعادة، فستجد نفسك دائماً في الخلف، بكل غباواتك، ورحلات الأنا الخاصة بك، وجهلك، وكل فوضى ذهنك. ولن تستطيع بهذا الذهن الفوضوي أن تخلق كوناً ولا نعمة فالنعمة تهبط دوماً من الماوراء؛ ويجب تلقيها كهدية بثقة کبرى، واستسلام تام. السعادة الحقيقية تحدث في الحال التي تُترك فيها الأمور تأخذ مجراها.

ما تسميه السعادة ليس إلا مسألة نسبيّة. وهي - في رأي بوذا - أمر مطلق. سعادتك ظاهرة نسبيّة. وما يصفه بوذا بالسعادة هو أمر مطلق غير مرتبط بأي أحد آخر، ولا يُقارن بأي أحد آخر، وهو ببساطة لك، إنه باطني.

يصف أوشو سعادة الإنسان بقوله (لا يمكنني أن أنسى يوماً واحداً) ... أن هناك بضعة أمور لا منطق فيها ولا صلة لها بالموضوع لكنها تبقى بطريقة ما عالقة في ذاكرتك. لا تفهم سبب وجودها لأن هناك ملايين الأمور التي حصلت وتفوقها أهمية بكثير، ولها معنى أكبر بكثير واختفت كلها. لكن بضعة أمور تافهة خلّفت وراءها أثراً؛ ولا تستطيع أن تجد أي سبب لذلك، لكنها بقيت.

وستدهش إذا نظرت إلى العالم من حولك: ستجد أناساً في الدول الفقيرة جداً أكثر قناعة من أولئك الذين يعيشون في الدول الغنيّة. نعم، فحتى في إثيوبيا حيث يموت الناس من الجوع، ستجد أناساً على وشك أن يموتوا لكنهم لا يعانون أو يعيشون حالاً من الغم. 

لم يسبق لأحد يوماً أن نجح في ذلك، والذين حاولوا أصبحوا تعساء جداً في حياتهم وبؤساء. 

السعادة لا يمكنك إدارتها، ولا صنعها، ولا تدبيرها. فهي أمر يتجاوز مجهودك، ويتجاوزك لكنها ستحضر وأنت تنبش فقط حفرة في حديقتك وتكون مستغرقاً فيها تماماً، إذا جرى نسيان العالم بأسره بما فيه أنت.

البحث المستحيل عن السعادة

يعتقد أوشو أن السعادة حاضرة دائماً، لكنك إذا سعيت إليها، فستجد التعاسة. ببحثك عنها تضيّعها وتلك هي التعاسة، إضاعة السعادة وللتعاسة نوع من العلاقة والشراكة مع السعي. إذا «سعيت» فستجدها  وأعطى الدستور الأميركي لكل الشعب فكرة أن عليه «السعي». والبحث عن السعادة.

لكن الناس يركضون وراء كل شيء، اعتقاداً منهم أن ذلك قد يمنحهم ما افتقروا إليه.

ما من شيء سيساعد. يمكنك العيش في قصر، لكنك ستبقى على القدر نفسه من الشقاء، ربّما أكثر مما كنت عليه في كوخ قديم، يتوافر فيه على الأقل العزاء بأنك بائس لأنك في مكان رديء. يوجد عذر؛ تستطيع أن تشرح شحّك وبؤسك ومعاناتك. كما أنه يراودك أيضاً أمل في أنك ستتمكن في يوم من الأيام من تدبير منزل أفضل ليس قصراً، لكنه على الأقل منزل جيد، جميل وصغير خاص بك.

السعادة غير ممكنة بحسب فرويد

يشير المؤلف أوشو إلى أنه يجب الاستماع إلى سيغموند فرويد بانتباه شديد وبعمق كبير لا يمكن فقط رفضه على نحو قاطع. فهو واحد من العقول الثاقبة، وعندما يقول إن السعادة غير ممكنة، وعندما يقول إن الأمل بها هو الأمل بالمستحيل، فهو يعني ذلك. وهذا ليس استنتاج فيلسوف فملاحظته الخاصة للبؤس البشري هي التي قادته إلى هذه الخلاصة. وفرويد ليس متشائماً، لكنه بعدما لاحظ آلاف الكائنات البشرية وولج إلى عمق أكبر في داخل نفسياتهم، أدرك أن الإنسان خُلق بطريقة تحمل في طياتها عملية مدمجة تجعله يكون بائساً. ويستطيع في أفضل الحالات، أن يكون في وضع من الراحة، لكن ليس في وضع من النشوة على الإطلاق. ويمكنه، في أفضل الأوضاع، جعل الحياة أكثر ملاءمة، من خلال التكنولوجيا العلمية والتغيير الاجتماعي، واقتصاد أفضل، وغيرها من الأمور، لكن الإنسان سيبقى بائساً على حدّ سواء. وكيف يستطيع فرويد تصديق أن شخصاً مثل بوذا قد وُجد على الإطلاق؟ يبدو مثل هذا الصفاء كأنه حلم فقط؛ فالإنسانية كانت تحلم بشأن بوذا.

كيف يحدث ذلك؟ ولماذا ترغب بالسعادة في المقام الأول؟ وما الذي تفعله بك هذه الرغبة؟ 

في اللحظة التي ترغب فيها بالسعادة تكون قد ابتعدت عن الحاضر. ابتعدت عن الوجودي، وانتقلت بالفعل إلى المستقبل، غير الموجود في أي مكان، ولم يأتِ بعد. انتقلت إلى حلم. ولا تستطيع الأحلام أبداً أن تشبع الرغبة. ورغبتك في السعادة حلم، وهو غير حقيقي. ولن يبلغ أحد الحقيقي من خلال غير الحقيقي. فأنت ركبت القطار الخاطئ.

تظهر الرغبة في السعادة ببساطة أنك لست سعيداً في هذه اللحظة بالذات، وأنك كائن بائس. ويتطلع البائس إلى المستقبل باعتبار أنه في وقت ما، في يوم ما، بطريقة ما، سيصير سعيداً. تطلعك هذا ينبع من بؤسك؛ ويحمل معه بذور البؤس بالذات. فهو ينتج منك ولا يمكن أن يختلف عنك. إنه طفلك - وجهه سيشبهك، وسيجري دمك في جسمه، وسيمثل استمراراً لك.

هل سبق لك أن كنت تعيساً هنا والآن؟ هل من إمكانية في هذه اللحظة بالذات، لكونك تعيساً الآن بالذات؟ يمكنك أن تفكر في شأن الأمس وتصبح تعيساً. وأن تفكر في الغد وربما تصبح تعيساً. لكن هل يسعك في هذه اللحظة بالذات، في هذه اللحظة المختلجة، النابضة والحقيقية، أن تكون تعيساً؟ من دون أي ماضٍ ولا مستقبل؟ 

يمكنك جلب البؤس من الماضي من ذاكرتك إذا أهانك أحدهم بالأمس ويمكنك أن تستمر في حمل الجرح والإساءة، ويمكن أن تستمر في الشعور بالتعاسة في شأنه: لماذا حدث لك ذلك؟ لماذا أهانك الرجل؟ وأنت قدمت إليه الكثير من الخير وساعدته على الدوام، وكنت دوماً صديقاً له، ومع ذلك أهانك! أنت تفكر في أمر لم يعد له وجود. فالأمس قد انقضى.

ولا تصبح السعادة ممكنة فقط، بل إنّها قد حدثت بالفعل. فهي أمامك تماماً وأنت تضيّعها لأنّك تنظر إلى جانبيك.

السعادة هي حيت أنت

السعادة هي حيث أنت. قائمة أينما كنت. فهي تحيط بك، وهي ظاهرة طبيعية. إنها كالهواء تماماً، وكالسماء. لا يجوز السعي إلى السعادة، فهي المادة بالذات التي يتألف منها الكون. الفرح هو المادة بالذات التي يتألف منها الكون، إلا أنه عليك أن تنظر أمامك مباشرة إلى الفوري. وإذا نظرت إلى جانبيك فقد تضيّعها.

هكذا حدث الأمر مع غوتام بوذا. وهو ابن ملك، امتلك كلّ شيء، لكنه لم يكن سعيداً. وأصبح أكثر فأكثر تعاسة، فبقدر ما تملك بقدر ما تزداد تعاستك. ذلك هو بؤس الغني. وذلك ما يحدث في أميركا اليوم كلما زاد ثراؤهم، ازدادت تعاستهم؛ واحتاروا تماماً في ما يتعين عليهم فعله.

الفقراء يتيقنون دوماً من هذا: عليهم جني المال، وبناء منزل جيد، وشراء سيارة؛ عليهم أن يرسلوا أولادهم إلى الجامعة. ويوجد دوماً برنامج في انتظارهم. إنهم مشغولون لديهم مستقبل وأمل «في يوم أو في آخر...». يبقون في حالة من البؤس، لكن مع وجود أمل. الثري في بؤس وقد اختفى لديه الأمل أيضاً. بؤسه مضاعف. لا يمكنك أن تجد أفقر من الثري؛ فهو فقير على نحو مضاعف. يظل يتطلع إلى المستقبل. 

حدث أن أحد كبار الروائيين الروس مكسيم غوركي، زار أميركا. وعُرضت أمامه كل أنواع الأمور التي ابتكرها الأميركيون للترفيه عن أنفسهم، ليضيعوا فيها. وأمل الرجل الذي يتولى تنظيم جولته أنه سيسعد كثيراً. لكن كلما أُخذ غوركي في جولة ازداد الأخير تعاسة وحزناً. سأله الدليل، «ما بك؟ ألا يمكنك الفهم؟».

فقال غوركي «يمكنني الفهم، ولهذا أشعر بالحزن. لا بد أن هذه البلاد كئيبة؛ وإلا لما دعت الحاجة إلى هذا الكم الكبير من وسائل الترفيه».

وحده الشخص غير الفرح يحتاج إلى الترفيه. وكلما ازداد العالم انعداماً للفرح، احتجنا إلى وسائل الإعلام والتلفزيون والأفلام ومدن مثل هوليوود وألف شيء وشيء. نريد المزيد والمزيد من الكحول، ونحتاج إلى المزيد والمزيد من العقاقير الجديدة، لمجرد تفادي البؤس الذي نحن فيه، لمجرّد ألا نواجه الكرب الذي نحن عليه، لمجرد أن ننسى ذلك كله بطريقة أو بأخرى. لكن لن يتحقق، بنسيان ذلك، أي شيء.

ما العلاقة بين الفرح والبؤس

«ما هذا التعلّق بالبؤس؟» إنه ذو مغزى. هناك أسباب لذلك. انظر فقط إلى بؤسك، راقب، وستتمكن من إيجاد الأسباب. ثم انظر إلى تلك اللحظات التي تسمح لنفسك فيها، بين الآونة والأخرى، بأن تفرح بكونك فرحاً، ثم انظر إلى الفوارق القائمة. 

ستلاحظ بضعة أمور: تكون وأنت بائس ممتثلاً conformist. يحب المجتمع ذلك، يحترمك الناس، تحظى بالقدر الكبير من الاحترام. ويمكنك حتى أن تصبح قديساً؛ ولذلك فإن جميع قديسيك بؤساء. البؤس مكتوب بالخط العريض على جباههم وفي عيونهم. ولأنهم كذلك يعارضون كل فرح. يدينونه بوصفه مذهب متعة؛ يحكمون على كل إمكانية للفرح بأنها خطيئة. إنهم بؤساء ويودون رؤية العالم كله بائساً. والواقع هو أنه لا يمكن الاعتقاد بقدسيتهم إلا في عالم بائس! لأنه يتعين، في العالم السعيد، إدخالهم إلى المستشفى ومعالجتهم عقليّاً. إنهم مرضى.

انظر إلى بؤسك وسترى بعض الأمور الأساسية. فهو يمنحك الاحترام. يشعر الناس بالمزيد من المودّة تجاهك، والتعاطف. تحظى بالمزيد من الأصدقاء إذا كنت بائساً. إنه عالم غريب جداً، وهناك مشكلة أساسية فيه. ويجب ألا يكون على هذا المنوال، بل على الإنسان السعيد أن يحظى بالمزيد من الأصدقاء. لكن كن سعيداً وسيغار منك الناس، ويفقدون ودّهم لك. يشعرون بأنهم مخدوعون؛ لديك شيء غير متوافر لهم. لماذا أنت سعيد؟ وهكذا تعلمنا على مدى العصور آلية كبح السعادة والتعبير عن التعاسة. صار ذلك بمنزلة طبيعة ثانية.

تشتق كلمة السعادة happiness من كلمة «هاب» hap الاسكندينافية. كما أن كلمة يحصل happening مشتقة أيضاً من الجذر نفسه أي إن السعادة أمر يحدث. ولا يمكنك إنتاجها. لا تستطيع التحكم فيها، ولا فرضها. بل، في أفضل الحالات، قد تكون متاحاً لها. ولتحدث متى تحدث.

الفرح يدوم إلى الأبد؛ أما السعادة، فمؤقتة، ومصدرها الخارج، وبالتالي يمكن للخارج أن ينتزعها. عليك الاعتماد على الآخرين. وأي اعتماد بشع، وهو عبودية الفرح ينبع من الداخل، ولا علاقة له بالخارج. لا ينتج من الآخرين؛ ولا من أي شيء أبداً. إنه الدفق العفوي لطاقتك الخاصة.