الدولة الثورية والإدارة الإسلامية في الوصايا العلوية

العدالة والتقوى هما السمتان الأساسيّتان في الدولة الإسلامية والإدارة الثورية. فأيّ نموذج أرقى وأنقى وأعلى وأفضل وأكمل وأجمل من الحكومة العلوية وقائدها الإمام علي بن أبي طالب.

  • ة

من الإشكاليات التي تطرح كثيراً لدى بعض الباحثين والمحللين السياسيین حول إيران، فرض التعارض والتضاد بين «إيران الثورة» و «إيران الدولة»، فيبنون نظرياتهم وتحليلاتهم على هذه الفرضية وقد يحتارون في فهم الواقع الإيراني لهذا السبب. بينما هذا الفرض خاطئ من الأساس، ولا يوجد أيّ تعارض بين مفهومَي الثورة والدولة في النظرية السياسية الإسلامية القائمة على أداء الجمهوریة الإسلامية في إيران، إذ إنّ الدولة هي مرحلة من مراحل الثورة في الفكر السياسي لدى الإمام الخميني والإمام الخامنئي، فالثورة يجب أن تبني دولة، والدولة يجب أن تكون ثورية، والدولة الثورية مرتبطة بمفهوم «الإدارة الإسلامية» أكثر من أيّ شيءٍ آخر.

بعد مرحلتي «النهضة الإسلامية» لإسقاط نظام الطاغوت وإقامة «النظام الإسلامي» كنظامٍ بديل، واللتين قادهما الإمام الخميني الراحل، یقود اليومَ الإمامُ الخامنئيُ الثورةَ الإسلاميةَ في أصعبِ مراحلها الخمس وأكثرها أهميةً في إطار العمل على إرساء «الحضارة الإسلامية»، ونقصد هنا مرحلةَ تأسیسِ «الدولةِ الإسلامية». ولفهم أهمية هذه المرحلة يكفي أن نعرفَ أنّ «المجتمع الإسلامي» المنشود لن يتحقّقَ بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا بعد تأسيس الدولة الإسلامية، وهذا يرجع إلى الدور الكبير الذي تلعبه الدولة في صِناعة المجتمع. (فالناس على دين ملوكهم).

لذلك يقول الإمام الخامنئي: "علينا أوّلاً -نحن المسؤولين في الدولة والمؤسسات- أن نصبح إسلاميين، وعندها سيتأثّر الناس بأعمالنا، ويتحوّلون إلى مسلمين حقيقيين، وسيغدو المجتمع إسلامياً بالمعنى الحقيقي للكلمة. فبعد أن تتشكّل الدولة الإسلامیة ستکون مسؤولیّتها والتزامها تحقيقَ المجتمع الإسلامي".

كما يقول سماحته: "إنّ المرحلة الثالثة من مراحل الثورة الإسلامية وهي التي نعيشها اليوم، هي «تأسيس الدولة الإسلامية» أي تأسيسُ دولةٍ وفقَ معاييرَ ونماذجَ إسلاميةٍ بالكامل. وما لم تتحقّق هذه المرحلة بشكل كامل، لن يحين دور «تأسيس المجتمع الإسلامي»، ويبقى موضوع نمط الحياة الإسلامي ضمن مستوى ترويج الخطاب نظريًّا في المجتمع فقط. فلا تزال أمامنا مسافةٌ شاسعةٌ حتى نتمكّن من تأسيس دولة إسلامية. وبعد أن تَنشأَ الدولةُ الإسلاميةُ سيحين الوقتُ لإرساء المجتمع الإسلامي". 

تأسيسُ الدولةِ الإسلامية يعني إيجادَ تشكيلاتٍ وهيكليّةٍ إداريّةٍ إسلاميّةٍ للبلاد علی مستوی جمیع السلطاتِ والمؤسسات. فإذا کان النظامُ الإسلاميُّ هو الإطارُ والقالبُ المناسبُ لتحقيقِ أهدافِ الثورة، فالدولةُ الإسلاميةُ عبارةٌ عن المضمونِ والمحتوی المنسجمِ مع هذا القالب. فلا يكفي مجرّدُ رسمِ هيكليةٍ وخريطةٍ جميلةٍ لإدارةِ البلاد. هذه الخريطةُ تحتاجُ إلی التنفيذِ العملي، وتلك الهيكليّةُ بحاجةٍ إلی التطبيقِ الفعلي حتی تُثبتَ فاعليّتَها وتقومَ بحلّ مشاكل الناس فعلاً، وإلا سوف تبقی حبراً علی ورقٍ وقالباً من دون قلب.

هنا يتركّزُ الكلامُ حولَ الشروطِ الضروريةِ لتأسيسِ الدولة الإسلامية، سواءً على مستوى التشكيلات الإدارية والهيكلية التنظيمية، أو على مستوى المسؤولين والمديرين والعاملين في هذه التشكيلات العظيمة. النزاهة الاقتصاديّة ومحاربة الفساد، والالتزام بالقانون، والحكمة والعقلانية في القرارت والأعمال، والاعتماد على الإمكانات الذاتيّة في البلاد وغيرها من الشروط المهمة تعدّ من أهمّ المعايير والمؤشّرات الأساسية للدولة الإسلامية، لكنّ «العدالةَ» كسمةٍ رئيسية، تسودُ على كلّ السماتِ الضروريةِ الأخرى التي تجعلُ من أيّ دولةٍ دولةً إسلاميةً حقيقية. 

كما أنّ من بين كلّ المواصفات اللازمِ توفّرُها في مديري الدولة الإسلامية مثل السلامةِ العقَديّةِ والأخلاقية والكفاءةِ العلميةِ والعملية، وروحيّةِ الزهدِ وخدمةِ الناس لدى المسؤولين، تُعتبر «التقوى» الصفة الأساس والأهمّ في تكوين شخصية أيّ مدير نموذجي على طِراز الثورة والدولة الإسلامية. والتقوى على صعيد المديرين والمسؤولين، ليست مجرّدَ القيامِ بالواجباتِ الفردية مثل الصلاة والصوم وعدم الرضوخ للأهواء والشهوات، وإنّما تَشمُل الالتزامَ بالتكاليف الاجتماعية ومقاومة الظالمين وعدم الاستسلام لهيمنة المستكبرين. وكلما كانت المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أكبر يحتاج إلى درجة أعلى من التقوى. إذ إنّ «التقوى في الشؤون الاجتماعية والسياسية والقضايا العامة أصعبُ وأهمُّ وأكثرُ تأثيراً وخطورةً بدرجاتٍ ودرجات»، كما يعبّر الإمام الخامنئي.

إذاً العدالة والتقوى هما السمتان الأساسيّتان في الدولة الإسلامية والإدارة الثورية. فأيّ نموذج أرقى وأنقى وأعلى وأفضل وأكمل وأجمل من الحكومة العلوية وقائدها الإمام علي بن أبي طالب، لكي يكون قدوةً في العدالة وأسوةً في التقوى ومثالاً للإدارة الثورية والدولة الإسلامية المرجوّة؟! فالدولة الإسلامية النموذجية هي الدولة العلوية، والإدارة الثورية الإسلامية هي الإدارة العلوية، والمدير الإسلامي النموذج هو عليّ.

من هذا المنطلق، اغتنم الإمام الخامنئي منذ تولّیه قيادةَ الثورةِ الإسلامية فرصةَ لقائِه السنوي برئيس الجمهورية والوزراء وسائر أعضاء الحكومة لتسليط الضوء على وصايا الإمام علي الموجّهة للمسؤولين والمديرين والعاملين في الحكومة العلوية. فالقائد يحضر دائماً هذا اللقاء السنوي وبيده نسخةٌ من كتاب نهج البلاغة، وفي الجزء الأوّل من الحديث يقرأ مقاطع من نهج البلاغة اختارها بعناية خاصّة، فيشرحها لهم لتكون هذه الوصايا مصباح طريقهم ودستوراً أعلى وميثاقاً مشتركاً بين المسؤولين في الجمهورية الإسلامية في إيران.

إنّ هذه «الوصايا العلويةَ» التي طُرحت في تلك الجلسات كانت بهدف التذكير وتربية المديرين ورجال الحكم في النظام الإسلامي والسيرِ بهم نحو بِناء الدولة الإسلامية الحقيقية. وهذا هو الإمام الخامنئي، القائد الإلهي الذي يأمر بوضع لوحة من كلام الأمير على حائط غرفة مكتبه، خُطَّ فيها: «من نصب نفسه للناس إماماْ فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره»، لتكون وصية الإمام علي دائماً نصب عينيه قبل غيره.