الحضارة الغربية.. حصاد العام ومعالم الحضارة البديلة

إن العالم على مشارف تحول جذري كبير، ونحن نعتقد أن نهاية الحضارة الغربية قد بدأت، وأن عهداً عالمياً جديداً قد انطلق، وأن المستقبل سيكون للإسلام.

اسمحوا لي أن أبدأ مقالي حول الحضارة من حيث ختمت مقالاً آخر لي قبل عام بالتحديد بعنوان «استراتيجية الغرب الثقافية.. الأسرة هدفاً» على موقع الميادين. إذ أعتقد أن ما جرى خلال هذا العام في المنطقة والعالم، أثبت أكثر من أي وقت مضى صوابية الرؤية التي تم طرحها في ذلك المقال، حيث أشرت فيه إلى لائحة من أهم الجرائم التي ارتكبتها الحضارة الغربية المادية بحق الإنسان والأسرة والمجتمع، وذكرت أنها، وبکل وقاحة، ترتکب کل هذه الجرائم باسم الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان!

وكتبت:  «إنني أعتقد بأن أي خطة لإنشاء مجتمع متمحور حول الأسرة لن تتکلل بالنجاح ما لم تتضمن استراتیجیةً هجوميةً واسعةً تسعى إلى فضح الحضارة الغربية. فیجب علی المفکرین وعلینا جمیعاً أن نضع المجاملات غير المجدية جانباً، وأن لا نتلاعب بعقولنا وعقول شعوبنا، وأن نبین الحقائق للناس کما هي، ونحذر مجتمعاتنا من خطر هذه الثقافة والحضارة اللاإنسانية واللاأخلاقية التي تهدد مستقبل البشریة».

إذا ألقينا نظرة سريعة إلى حصاد العام لهذه الحضارة المادية، نجد أنه مليئ بالفساد والدمار والقتل والانحلال الأخلاقي والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والحيوان والبيئة، وكلها مؤشرات على حتمية أفول هذه الحضارة المتوحشة وقرب زوالها.

إن الحملة الممنهجة الوقحة لترويج الشذوذ الجنسي التي شاهدناها في العام المنصرم، وكذلك حملة الإساءة للقرآن الكريم وتدنيس المقدسات بذريعة الحرية، وصولاً إلى الإبادة الجماعية والمجازر التي ارتكبها الصهاينة في غزة خلال الأشهر الماضية، كلها ليست سوی جزء بسيط من حقيقة الحضارة الغربية المادية  التي تسعى إلى الهيمنة على عالمنا اليوم وعلى ثقافتنا وعاداتنا، وينبغي أن نسعى للتخلص منها.

وطبعاً بين كل هذه الأحداث، كان لدماء آلاف الشهداء من أطفال غزة ونسائها الأبرياء الدور الأكبر والأكثر ثأثيراً في كشف القناع عن الوجه الحقيقي لهذه الحضارة المصاصة لدماء البشرية وفضحها أمام الرأي العام العالمي. إذ رأى العالم بأمّ عينه أن من يرتكب هذه الجرائم البشعة يعني "إسرائيل"، هي عصارة الحضارة الغربية وخلاصتها، وأن هذه المجازر ترتكب بدعم مباشر من أميركا التي تعتبر أنها القائدة لهذه الحضارة المادية والرائدة لها، وبغطاء ظالم من قبل الدول الغربية الأخرى التي تتبنى هذه الحضارة وتفتخر بها وتروج لها. نعم بالمختصر، هذه هي هدية الحضارة الغربية المادية القائمة على الأنانیة والرأسمالية واللیبرالية.

لم يعد هناك اليوم مكان للشك والترديد أن الطريق الوحيد لخلاص البشرية من كل الآلام والمصائب يبدأ من إسقاط هذه الحضارة المزيفة، وهذا واجب الجميع ومسؤولية العلماء والنخب الفكرية والثقافية بالدرجة الأولى، وخاصةً الشباب المؤمن الثوري في أرجاء العالم. ومع ظهور بوادر سقوط هذه الحضارة البالية هناك أسئلة تطرح نفسها أكثر من ذي قبل، وهي كما يلي: ما هو النموذج الحضاري البديل؟ وما هي معالمه وخصائصه؟ ومن يمتلك طرحاً كاملاً ورؤيةً واضحةً حوله؟

في معرض الرد على هذه الأسئلة نقول بكل حزم وصراحة: إن الإسلام المحمدي الأصيل هو الحل الوحيد، وإن الحضارة الإسلامية الحديثة هي البديل الفريد عن الحضارة الغربية الآيلة نحو السقوط، وإن صاحب هذا المشروع الفكري في عصرنا وقائد هذا المشروع الإلهي العالمي لخلاص الإنسان هو الإمام السيد علي الخامنئي، وهو يملك رؤية حضارية شاملة وعميقة ومنسجمة وأصيلة ومعاصرة، وواقعية وإبداعية وثورية حول مستقبل العالم والبشرية.

إن الإمام الخامنئي من موقعه كقائد ومفكّر يجمع بين النظرية والتطبيق، يرى أن المقومات الأساسية لإرساء الحضارة الإسلامية الحديثة متوفرة لدى الشعوب المسلمة، وأن تحقيق هذا الهدف ممكن بالاعتماد على طاقات الأمة الإسلامية ولا يجوز أن ننظر إلى هذا الأفق بنظرة متسرعة أو متشائمة.

ويقول سماحته: «ينبغي على كل مسلم في الوقت الحاضر أن يكون هدفه تكوین حضارة إسلامية. الشعوب الإسلامية لديها إمكانات وطاقات هائلة لو تمت الاستفادة منها لبلغت الأمة الإسلامية ذروة عزتها. يجب أن نفكر بهذا، هدفنا النهائي تأسيس حضارة إسلامية عظيمة».

بناء الحضارة الإسلامية الحديثة في منظور الإمام الخامنئي هو المرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل الثورة الإسلامية والهدف النهائي لها، وتسبقه هذه المراحل الأربع: المرحلة الأولى إطلاق النهضة الإسلامية، والمرحلة الثانية تشكيل النظام الإسلامي، والمرحلة الثالثة تأسيس الدولة الإسلامية، والمرحلة الرابعة إنشاء المجتمع الإسلامي. 

لذلك يؤكد سماحته: «عندما نقول بأن هدف الثورة الإسلامية هو الحضارة الإسلامية الحديثة، لا ينبغي أن نهبط مستواها بحيث نجعلها ظاهرة سياسية. الثورة الإسلامية حاولت تغيير العيش والحياة. نحن لم نقرر فقط تشكيل مجتمع ثوري، بل أردنا تكوين ظاهرة تجتاح العالم، وطبعاً شرط ذلك هو تشكيل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي»، «واليوم قام النظام الإسلامي بحمد الله وتأسس، ونحن ننتظر أن تتحقق الدولة الإسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومن ثم المجتمع الإسلامي بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومن ثم الحضارة الإسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة».

أما بالنسبة لمعالم الحضارة الإسلامية الحديثة في فكر الإمام الخامنئي، فإنها تتمثل في النقطة المقابلة تماماً للحضارة الغربية، بدءاً من مبادئها الفكرية وأسسها العقائدية وصولاً إلى ركائزها النظرية وأركانها الرئيسية. الحضارة التي نتطلع إليها تستند إلى رؤية كونية توحيدية ومعنوية تهدف إلى إسعاد الإنسان وتؤمن له تحرره من قيود عبودية الطواغيت، وتحليقه في آفاق الإنسانية طلقاً سعيداً، خلافاً للرؤية الإلحادية المادية التي تنطلق منها الحضارة الغربية وتؤدي إلى استرقاق الإنسان واستضعافه، وقد أثبتت عجزها عن إسعاده. فإلى جانب الرؤية الكونية المختلفة، وهذا الاختلاف الجوهري في المنطلقات والأهداف، يذكر الإمام الخامنئي خصائص عديدةً أخرى للحضارة الإسلامية القادمة نشير إلى بعضها:

العقلانية والعلم

خلافاً لما قد یتم الترويج له بأن النزعة الثورية تعارض العلم والعقلانية، فإن الركيزة الأساسية في تشيید الحضارة الإسلامية الثورية الحديثة هي العلم والحکمة والعقلانية. فالإسلام لا يؤيد العلم والعقل فحسب، بل يدعم التعليم والتعلم ويحث علی التعقل والتدبر، ومن خلال تزكية النفس يفك قيود الغضب وأغلال الشهوة عن أجنحة طائر العقل ويحرره لكي يتمكن من التحليق عالياً، ويزيح موانع الوهم من أمام أعين العقل لكي يرى الحقيقة كما هي.

 المعنوية والأخلاق

إن الحضارة الإسلامية من خلال نظرتها الصحيحة لحقيقة الإنسان، لا تحصره في الجسم والمادة فقط، بل تولي أهميةً كبيرة للبعد الروحي والمعنوي إلى جانب البعد الجسماني والمادي. وحسب تعبير الإمام الخامنئي، إن وجود الأخلاق والقيم المعنوية «يجعل من أجواء الحياة جنةً حتى مع وجود النواقص المادية، وعدم وجودها يجعل الحياة جحيماً حتى مع التمتع بالإمكانات المادية». ولذلك تسعى الحضارة الإسلامية إلى تكريس القيم المعنوية والفضائل الأخلاقية في المجتمع من قبيل الإخلاص والإيثار والتوكل والإيمان وحب الخير والتسامح ومساعدة المحتاجين والصدق والشجاعة والتواضع.

الحرية والاستقلال

الاستقلال يعني انعتاق الشعب والدولة مما تفرضه القوى المهيمنة في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، والحرية بمعنى حق اتخاذ القرار والعمل والتفكير لكل أفراد المجتمع، «وهذان كلاهما من القيم الإسلامية، وكلاهما عطايا إلهية للبشر»، وخلافاً للادعاءات الغربية الكاذبة، لا يمكن تأمينهما على نطاق واسع إلا في ظل قيام الحضارة الإسلامية. بينما تنتهك الحضارة الغربية سيادة الشعوب وتستغل شعار الحرية لاستعباد الإنسان.

السيادة الشعبية

على عكس الشعارات الرنانة التي تطلقها الحضارة الغربية، تتحقق السيادة الشعبية بشكل تام في الحضارة الإسلامية حصراً، وتقوم الحکومات على أصوات الناس ومع الاستناد إلى آرائهم وتطلعاتهم الحقیقية، بعيداً عن زيف استعراض الدیمقراطيات الغربية المنافقة والقائمة على أساس مصالح اللوبيات السياسية والاقتصادية والشبكة الأخطبوطية للعصابات المتنفذة.

الرفاه والتقدم

من الخصائص الأصلية والعامة للحضارة الإسلامية المرجوة استثمار أبناء البشر لجميع ما أودعه الله في عالم الطبيعة، وفي وجودهم من مواهب وطاقات مادية ومعنوية لتحقيق سعادتهم وسموهم. فإنتاج الرفاه والثروة العامة والتقدم المادي والعيش الكريم لكل أبناء المجتمع مضمون في المشروع الحضاري الإسلامي.

العدالة والقانون

إن التقدم والرفاه في الحضارة الإسلامية لیس على حساب العدالة وسيادة القانون في المجتمع، كما هو حال المجتمعات في الحضارة الغربية، إذ أن التقدم المادي الذي قد يتحقق في مجتمع ما وينتج عنه الفساد وحرمان المستضعفين من حقوقهم وإفقار الفقراء وإثراء الأثرياء أكثر وأكثر، لا يعد تقدماً في الرؤية الحضارية الإسلامية أصلاً، ولا يتم الاعتراف به أبداً.

المقاومة والجهاد

يبقى الجهاد والمقاومة عنواناً للحضارة الإسلامية القادمة حتى بعد إسقاط الحضارة الغربية المادية، إذ أن الشياطين وأعداء الإنسانية لن يبقوا متفرجين ولن يقفوا مكتوفي الأيدي ولن يتركوا الإنسان ليعيش سعيداً، وسيحيكون مؤامرات ويحاولون استعادة سيادة الطواغيت وهيمنة المستكبرين. فالجهوزية للجهاد والتأهب التام لمقاومة المتغطرسين والدفاع عن المظلومين شرط ضروري للحفاظ على الحضارة البديلة وضمان سعادة الإنسان وحريته.

لا بد من القول في الخلاصة: إن العالم على مشارف تحول جذري كبير، ونحن نعتقد أن نهاية الحضارة الغربية قد بدأت، وأن عهداً عالمياً جديداً قد انطلق، وأن المستقبل سيكون للإسلام، وهو مستقبل مشرق إن شاء الله. فينبغي الاستعداد لذلك المستقبل والتمهيد له، ومعرفة الفرص والتحديات، والنهوض بالتكاليف والمسؤوليات.