التغريبة الفلسطينية: البلاد بين جحيم الطغاة ونار الغزاة
التغريبة الفلسطينية يمكن أن ننسبها لجنس الرواية التاريخية التي حاولت التركيز على نضالات الشعب والمعارك التي خاضها.
-
"التغريبة الفلسطينية" لوليد سيف
التغريبة الفلسطينية لوليد سيف العمل الملحمي الذي استعارته الدراما واستفادت من قوة حضوره وأعطته بعداً جماهيرياً كون الدراما تمتاز بسرعة الوصول إلى الناس وأكثر التصاقاً بالشارع العربي وخاصة لناحية إحياء القضية التي يراد طمسها وإخفاء تاريخها والتعمية عن الحقّ الأخلاقي فيها، إذ كثّف وليد سيف في الجزء الأول من "أيام البلاد" من نصّه الروائي بدايات نشوء الوعي الشعبي وتفتّحه على أخطار المؤامرة التي استهدفت الأرض الفلسطينية والسيطرة عليها وطرد أهلها في بدايات القرن الماضي، والدور الأساسي لحكومات الانتداب الإنكليزي والعصابات الصهيونية في هذه المؤامرة والصراع غير المتكافئ بين ثوّار ينتمون لبيئة ريفية تواجهت مع أقوى جهة استعمارية هُيّئت بالتدريج للقضم المتواصل من الأرض العربية وتسليمها للصهاينة، حيث صوّر البيئة الاجتماعية لواقع الشعب الذي يرزح تحت سياط الفقر والجهل حيث تستشري الأمّية بشكل كبير ولا يحالف الحظ بالتعليم إلّا ما ندر منهم، بسبب الكلفة العالية للمدارس وعدم توفّرها في القرى.
هذا بالإضافة إلى حاجة كلّ أسرة لقوة عمل كلّ فرد من أفرادها، وقد جسّدها الكاتب من خلال أسرة أبو صالح الشيخ يونس كشريحة مثّلت أغلب الأسر الفلسطينية حيث سلّط الضوء على الصراع الطبقي بين بقايا الإقطاع الذي سيطر على أراضٍ واسعة ويسعى للاستحواذ على المزيد منها، بالإضافة إلى سيطرته على معاصر الزيتون وطحن الحبوب؛ شخصية "أبو عايد" والمختار "أبو عزمي". وعند أي نزاع تتدخّل حكومة الانتداب لوضع يدها على الأراضي المتنازع عليها ومنحها فيما بعد لليهود لإقامة المزيد من المستوطنات عليها، ناهيك عن الضرائب المتصاعدة التي يفرضها الإنكليز على السكان حتى يجبروا الناس على بيع أراضيهم وتسليمها لليهود فيما بعد.
هذا الواقع القاهر خلق بيئة ثوريّة حملت السلاح ضدّ القوات الإنكليزية والعصابات الصهيونية السائرة في ركابها، وكان الريف الفلسطيني هو خزّان بشري للمقاتلين الثائرين على الظلم والاضطهاد، وهنا كانت ثورة عام 1936 في توثيق تاريخي لأهمّ مفاصل الصراع وما أفرزته من وعي لدى الشخصية المحورية في نص وليد سيف "أحمد أبو صالح" بضرورة التحاق الجيل الأصغر بسلك التعليم في وعي بعيد النظر لأهمية إزاحة الجهل عن واقع هذه الفئات المستضعفة من جهة ووسيلة للارتقاء الاجتماعي من جهة ثانية.
وهذا ما اتضح باتساع آفاق الوعي لدي شخصية "علي" الذي جاء العمل على لسانه بصفته الراوي وجاء أغلبه على صيغة مذكّرات كتبها وما ساقه العلم من إمكانية الاطلاع على الجرائد المحلية والعالمية ومخالطة طبقة أخرى من المتعلمين والدارسين، فالتخلّف الاجتماعي كان البيئة الخصبة التي سمحت للجهل بالتغلغل بين أبناء الشعب وعدم درايتهم بأساليب الصراع والتكتيك له، إذ لا تكفي الرجولة والحماسة وحدهما لمقارعة أعتى جبروت للقوة الاستعمارية، لذا فإنّ تفكيك البيئة الاجتماعية كان أسلوب الكاتب لكشف ذلك الواقع وخاصة واقع المرأة، فالمرأة وإن كانت أساسية في عمل الحقل وتلبية احتياجات الأسرة إلّا أنّ العرف الاجتماعي يقرّ بعدم حاجتها للتعليم وأنها مرتهنة للزواج وخدمة زوجها وأبنائها وحسب.
كذلك بالإضافة إلى تضييق منافذ الحياة عليها فـ "أحمد أبو صالح" رغم روحه الثورية العالية ومكانته كزعيم وطني مشارك بالثورة ولكنه يعيب على زوجته استماعها إلى الموسيقى أو التفكير بارتياد منتزهات على عادة أهل المدن، وهنا كانت فرصة لإيضاح ذلك التباين بين مجتمع المدينة المنفتح نوعاً ما ومجتمع القرية، ويعيبون كذلك على الأخت التي تقاسم إخوانها في الميراث، والإضاءة على جرائم الشرف الظنية تلك التي يبرّرها المجتمع للحمية الذكورية، وقد كان مصرع "جميلة" على يد أبناء عمها الذين لم يهزّهم فقر حالها وسرقتهم لميراثها ولكن هزّهم تقوّلات كيديّة عنها ثبت بطلانها وزهقت روحها لأجل تهمة باطلة. ولكنْ ثمّة تساؤل هنا ماذا لو صدقت ادّعاءاتهم هل يحقّ لهم إزهاق روحها والسيطرة على مصيرها يا ترى؟؟! نعم هو تناقض المجتمع وتخلّفه في فهمه للشرف والحبّ والعلاقات الإنسانية التي تكون ضحيتها المرأة دائماً.
يتتبّع وليد سيف نمو وعي شخوصه في عكس حالة "أحمد أبو صالح" وقصوره بالمسألة الاجتماعية من حيث لبس المرأة وتعليمها وسماع الأغاني والتردّد على دور السينما وسماع الموسيقى، ولكنه بالقضية الوطنية متطوّر وبعيد النظر وخاصة عندما ينبذ الكلام التنظيري ويتجه إلى الفعل الحقيقي وهو المقاومة، فالخطباء والزعماء أبطال الكلام وحسب ولكنّ الدم أبلغ وأمضى.
فالثورة واندفاعتها لا يمكن أن تستمرّ بلا سلاح والسلاح من أين؟ طبعاً نستطيع استغلال الخلافات الدولية ولكن عندما تتفق المصالح تقف الثورة عاجزة عن استكمال مشروعها، وهذا في كلّ مكان. ففي السياسة كما وردت على لسان "أبو عزمي" لا مصالح دائمة ولا عداوات دائمة، وهذا الجهل بتكتيك المعارك وسياسة التحالفات أوصل الثورة إلى طريق مسدود، وهذا ما كان في ظلّ تكالب القوى الاستعمارية وتسليم حكومة الانتداب فلسطين للصهاينة وإصدار وعد بلفور عام 1948 وصدور قرار التقسيم الذي رفض من قبل جميع الأطراف.
تكثر العبارات المسكوكة في نصّ وليد سيف تلك المأخوذة من أمثال شعبية أو عبارات اختزنت تجربة اجتماعية وثبت حضورها في الذاكرة الجمعية في تكثيفها معنى مكتمل بذاته يكشف عن نمط العلاقات والوعي التي تتحكّم بتلك البيئة وكنوع من الإغراق في المحلية لينقل لنا روح البيئة الشعبية على غرار:
"اللي يكبّر حجره ما بيبدأ"
"لك اللحم وانا العظم"
"قاضي الولاد شنق حالو"
"حساب القرايا ليس على حساب السرايا"
"ياما تحت السواهي دواهي"
"أسد علي وفي الحروب نعامة"
"اللي بيدري بيدري واللي ما يدري يقول كف عدس"
"الأيد قصيرة والعين بصيرة"
بالإضافة إلى توشيح النص باللهجة الريفية الفلسطينية المحبّبة ورصده للأغاني الشعبية والأهازيج التي لوّنت العمل بالفولكلور الفلسطيني العفوي الجميل.
التغريبة الفلسطينية يمكن أن ننسبها لجنس الرواية التاريخية التي حاولت التركيز على نضالات الشعب والمعارك التي خاضها دحضاً للرواية القائلة بأنهم هم من باعوا أراضيهم وتخلّوا عنها، تشهد خلافها معارك جبع ـــــ بيت امرين ـــــ بلعا في مستهلّ أيلول/سبتمبر عام 1936 وليس آخرها ثورة البراق. فالرواية التاريخية نحتاجها دائماً لأنهم ما زالوا يزوّرون التاريخ بعد أن أخذوا الجغرافيا وادّعوا أنّ لهم تاريخاً وجذوراً فيها.
هكذا كانت معاناة شعب فلسطين بين نار الطغاة وجحيم الغزاة القادمين من جحيم أوروبا ليصنعوا في فلسطين جحيمهم الآخر ضدّ الفلسطينيين.