إياد عبد الرحمن: "نظام الآغوات" اعتداءٌ على الطبيعة الإنسانية
لا يتجه الكاتب السعودي إياد عبد الرحمن (1987) في روايته "إهانة غير ضرورية"، منشورات تكوين 2023، نحو التوثيق. ذلك أنه بعودته نحو التاريخ يبدو كمن يكتب لغايةٍ فنية خالصة. وما رجوعهُ للبحث في الظروف التي رافقت تجنيد الأطفال الأفارقة وتسخيرهم للعمل في الأماكن المقدسة، سوى رغبة في الخروج في وجه كل ما يسلب المرء كرامته وأحلامه.
في الرواية أبطالٌ لهم زلاتهم وآثامهم. قد يُسقطهم الجهل في بؤرٍ تئدُ مصائر أبنائهم، وآخرون يسقطهم الحب في الآثام. بينما يدفعهم الحرمانُ إلى الانزواء بعيداً من الالتزام بأعراف الجماعة. في حين تسير حيواتهم الحقيقية في الكواليس، وتحت ستار العتمة، ووراء جدرانٍ عصية على اكتشاف ذواتهم في عالم مملوء بالمهاجرين. هو عالم واقعي لكنه ممهورٌ بالفقد والحرمان، بيد أن الشخصية المحورية في القصة، الطفل "آدم"، تدور حول صبيّ حبشي؛ وهي قصة متخيّلة لطفلٍ فتح عينيه على العالم فوجدَ نفسه قرباناً. إذ تحوّله والدته إلى مخصي وتهِبهُ لمسيرة مضنية من أراضي الحبشة حتى الحجاز. كل ذلك يجري بناءً على حلم راود الأم، وبالتالي فإننا نجد أن ما حدث في حياته؛ من اللحظة التي تُسلب فيها ذكورته، وحتى لحظة مماته بعد ستين عاماً، قد قام بناءً على رؤية؛ أي أن مصيره تعلّق بنوع من هواجسَ ذاتية خاصة بأمه، والتي دفعتها إلى اعتناق فكرة أن لديها ابناً مباركاً، وبالتالي عليها التضحية به. ذلك الوهم يصنع حياة الطفل، ولم يكن مجرد سمة عادية لحياته، بل كان للوهم تأثير فاتك بمصيره. ذلك أنه يعلم من اللحظة التي يُلقى فيها على الأرض ويُجرد من ملابسه أمام الأعين، أنه سيُمضي حياته مسلوب الإرادة. يبدو ذلك جلياً من صمته حين تحمله الأم وترسله وحيداً مع قافلة نحو اليمن. وحين يراقب معاهدة تسليمه وتسلّمه، بينما يحلم وهو قابعٌ في حفرة ترابية أن يلثم البحر كبقية أطفال القافلة.
إذاً، تتناول الرواية نقداً فنياً لنظام الآغوات الذي كان قائماً في السعودية، والذي سخّر الأطفال الأفارقة لخدمة الأماكن المقدسة، قبل أن يتم التخلي عنه عام 1945 بمرسوم ملكي. لكن تلك الفترة التي عاشها آدم قبيل إقصاء نظام الآغوات، تُعرّفنا إلى بشرٍ كان التخلي جوهر عالمهم. إذ لا يبلغ الطفل التاسعة، حتى يدركَ أن جلّ ما سيمنحه العالم هو التخلي. بدءاً من رحيل والدته عنه، وحتى رحيل مونا، مرافقته في رحلة شاقة من اليمن وحتى الحجاز. ومن بعدها، تخلي صديقه محسون في اليمن. كل ذلك القهر يدفعه إلى الإذعان أمام القدر. ذلك أنه يدرك انهدام قوته بأن يكون فاعلاً، وهو ما يحيله إلى إنسانٍ مهزومٍ ومقهور. لكن، وعلى الرغم من تكوينه النفسي القائم على البتر، فإننا نكتشف في داخله عالماً من الأحلام والتطلعات. هكذا ينفذ الكاتب ببراعة نحو عالم الآغوات الداخلي؛ كيف يشعرون؟ وبماذا يحلمون؟ وكيف كانت نظرتهم حيال محيطٍ جعلهم مسخّرين لتنفيذ الأوامر. لذا، نرى آدم وفي أثناء وصوله إلى اليمن، يتلمّسُ كل الجدران التي يجدها في طريقه. الجدران التي شكّلت البيوت، والتي لم تلمحها عينٌ في الحبشة، ولم يألفها أهل قريته، تدفعه ليشعر بأن الأسوار ستشكّل حياته القادمة، وهو ما يحدث بالفعل، إذ ترتفع الأسوار من حوله مع مرور الوقت، وتشكّل فيه إنساناً حبيساً، لا حقّ له في التعبير، ما خلا الإذعان لكل ما يحدث من حوله.
يكبر آدم كواحدٍ من الآغوات المعنيين بالكنس والتنظيف، لكن القدر لاحقاً يجعله جزءاً من قصة كبير شيخ الآغوات، وهو ما يجعل منه سجاناً. إذ بعد أن يتورط الشيخ في خديعة نظام الآغوات، نكتشف مفارقةً منحت الرواية فنيتها، إذ يصبح آدم السجين سجّاناً، والضعيف في لحظة تجعلهُ الجماعة مستقوياً على سيده. وهنا، يكمن تساؤل الروائي عمّا سيفعله شابّ كبر على سلب الإرادة، وتعلمَ الانصياع لقوانين الجماعة. هكذا يتحوّل آدم في لحظة إلى حارس لشيخٍ يتسول البحثَ عن أسرته، ويمسي الشاب الخليّ من أسرته مسخّراً للبحث عن أسرة شيخه.
توقظ قصة الشيخ في آدم كل ما مات فيه؛ طفولته في قريته، وآلام بتر أجزاء من جسده، ورحلته الشاقة نحو الحجاز. وعلى اعتبار أنه المؤتمن على حياة الشيخ، نجده يهرب به نحو مكة، وفي الحقيقة هي رحلةٌ تبرهن على انعدام قابلية انتمائه إلى عالم الآغوات، ورفضه نوبات الغضب التي كانت تعتريه من جراء قسرهِ على حياة الزهد والانصياع، الأمر الذي يُطورُ في داخله مخيالاً ينفّس عبره بقتل ما يؤذيه مجازاً، فنجده يتمرس على قتل الأيادي التي كانت تصفعه، ويكتم الأصوات التي كانت تعيده إلى واقعه بقوة جبرية. هكذا تتناول رواية عبد الرحمن كل ما كان مسكوتاً عنه، لتكشف جزءاً من عالم كان مجهولاً، وتعري حرمان المرء من حقه في رثاء نفسه. ومنه تكشف عن آثار العبودية الممتدة لدى جماعة الآغوات، إذ يبدو أن كل ما جرى في حياة الحبشي هناك أشبه بسلسلةٍ من الإهانات، وهو ما يحيلنا إلى العنوان الذي استلهمه الكاتب من قصيدة للكاتبة الأميركية مايا أنجلو: " بأن ما يعيشه شخص أسود هو إهانة غير ضرورية"، وبالتالي فإن حياته بدأت من عالم يعدّه غير مقبول.
هكذا يلعب الجهل لعبته بمصير آدم، وهذا لا يعني أن القصة كانت قصة الطفل وحده، بل هي حكاية الإخصاء المعنوي والفكري قبل أن يكون جسدياً، والذي نجده في نهاية المطاف يجعل الجماعة تنقلب على نفسها. إذ يتحول الضغط الذي تمارسه على الأفراد والذي يخوّلها النفاذ إلى حيواتهم إلى مسوغٍ للهرب والتخلي عن الالتزام بها. ذلك ما يدفع بآدم والشيخ إلى الهرب، حيث يكتشف عوالم لم يخطط لرؤيتها، فيسقط في قصة حب مبتورة الآمال، وتزلقه مشاعر وآثام كمن يبحث عن ذاتٍ لا يمتلكها. نراه في النهاية وحيداً. وحيداً من غير أن تكون الوحدة خياراً، إنما مصيره الذي صنعه الآخرون، هكذا تنتهي الحكاية عند رجل في الستين من عمره، محطم، ولا يحمل من العالم سوى مأساة طفل عاش من غير طفولة، وشابٍّ شاخَ من غير أحلام، وحتى محاولاته في التأقلم مع العالم الذي رسمه الآخرون له، جعلتهُ نموذجاً لإنسانٍ مُعتَدى على كرامته؛ اعتداءً يقرّ به هدمُ نظام الآغوات في نهاية الأمر، لكنه يبقى غائراً في ذاكرةِ ضحاياه.