"إسرائيل"إلى نهايتها: قصّة مخاوف الآباء المؤسّسين

هناك 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في روسيا. فقد ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600 %.

  • كتاب
    كتاب "إسرائيل"إلى نهايتها

"إسرائيل" الى نهايتها، كتاب جديد للأستاذ سركيس أبو زيد، يلقي الضوء على موضوع نهاية "إسرائيل" المتجذّر في الوجدان الصهيوني. فحتى قبل إنشاء الدولة، أدرك عدد من الصهاينة الأوائل أنّ مشروعهم مستحيل ولن يستمرّ، وأنّ الحلم الصهيوني سيتحوّل إلى كابوس. لذلك نجد الشاعر الإسرائيلي "حاييم جوري" يتوقّع أن كلّ إسرائيليّ يُولد وفي داخله السكين الذي سيذبحه، فهذا التراب (الإسرائيلي) الفلسطيني لا يرتوي، ويُطالب دائماً بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى. 

ورغم أن موضوع "النهاية" لا يطرحه ولا يناقشه أحد في "إسرائيل"، فإنه يطلّ برأسه في الأزمات، وعلى سبيل المثال، حين قرّرت محكمة العدل الدولية عدم شرعية جدار الفصل العنصري، ازداد الحديث عن بداية النهاية، وبعد هزيمة تموز، ازدادت شدة الكابوس أكثر فأكثر.

كتاب ("إسرائيل" إلى نهايتها) للمؤلف الأستاذ سركيس أبو زيد، يؤكد فيه المؤكّد عن النهاية المحتومة لدولة مارقة، صنعتها ظروف دولية تأمرت على تركة الرجل المريض قبيل الحرب العالمية الأولى. الكتاب صادر عن دار أبعاد للطباعة والنشر في بيروت، مع مقدّمة للصحفي والكاتب حسن حماده.

كتاب (إسرائيل إلى نهايتها)، يقتبس فيه المؤلف الرواية التاريخية التي كانت الهاجس الأول عند الأب المؤسس للكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون، الذي عاش ومات وهو مقتنع بحتمية زوال هذا الكيان بعزائم الأجيال الفلسطينية الجديدة. معروف أن للكيان الصهيوني ثلاثة آباء: حاييم وايزمن وديفيد بن غوريون وناحوم غولدمان. الأول انتزع "وعد بلفور"، والثاني قاد العمل العسكري على الأرض وأمر بالمجازر وبالتهجير بحقّ الفلسطينيين، والثالث نظّم حملات المستوطنين وجمع الأموال ونسج العلاقات الدولية.

قلق المؤسّسين الأوائل

وبحسب الرواية التاريخية، يروي ناحوم غولدمان، في كتابه "المفارقة اليهودية"، تفاصيل لقاء مطوّل مع بن غوريون في سنة 1956، يُمكن وصفه بلقاء البوح الخطير: "نحن الذين قمنا بالسطو على بلدهم أي فلسطين، لقد انتزعنا منهم بلدهم، صحيح أنها وعد من الله لنا؟!.... لكن ذلك يعود إلى 2000 سنة خلت، ماذا يعني لهم ذلك؟!... هل هذه غلطتهم؟... إنّهم لا يرون سوى شيء واحد، لقد جئنا وسرقنا بلدهم".

أما مضمون هذا البوح فكان في نظر الاثنين بمثابة "سر دولة" يجب حفظه بأمان، بعيداً عن أي كان، إذ هو ينقض بالكامل، بل يدمّر، مرتكزات العقيدة الصهيونية، التي يقوم عليها مشروع "الملاذ الوطني" لليهود، وفق ما جاء في رسالة الوعد المشؤوم. حتى كبار المسؤولين الإسرائيليين لا يجوز أن يعلموا به، إذ هو يبرّر الرفض الفلسطيني المطلق لهذا الكيان، فكيف إن عرف به الآخرون؟! 

إقرأ أيضاً: اغتيال الزّمن المقبل

يروي ناحوم غولدمان الوقائع ويصف بدقة الوضع النفسي لبن غوريون. لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري، فإن سألتني ما إذا كان سيتمّ دفني، في إثر موتي في دولة "إسرائيل" لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتني ما إذا كان ابني عاموس الذي سيبلغ الخمسين من عمره العام (1956)، سيكون له الحظ بأن يُدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك 50/50)... قاطعه غولدمان مذعوراً: "كيف لك أن تنام على هذا التوقّع". فأجابه: "من قال لك إنني أعرف ما هو النوم يا ناحوم".

الخطر الديمغرافي

يلحظ المؤلف في كتاب (إسرائيل إلى نهايتها)، أنّ الخطر الديمغرافي أي وجود الشعب الفلسطيني في وطنه، وتكاثره الطبيعي خطر على "الكيان" وعلى وجوده كدولة يهودية. إذ يبلغ عدد السكان في "أرض إسرائيل الغربية" (أي فلسطين) وفق إحصاء 2016، 5,3 ملايين يهودي و5,3 ملايين عربي و300 ألف مهاجر روسي غير يهوديّ. والميزان الديمغرافي يسير لصالح العرب لارتفاع نسبة التكاثر الطبيعي لديهم. 

كذلك لا يمكن الرهان على هجرة يهودية مرتفعة إلى "إسرائيل" ولا على هجرة طوعية مرتفعة للفلسطينيين من بلادهم، ومن غير المتوقّع أن تقوم "إسرائيل" بطرد الفلسطينيين كما فعلت في سنة 1948، لأنّ الظروف مختلفة والمقاومة موجودة، والدول العربية لن تسمح بذلك. (مخططات الترانسفير متنوّعة لكن تطبيقها دونه صعوبات).

وتثير المعطيات الديمغرافية الفلسطينية في جوار فلسطين أيضاً، وليس فقط في فلسطين، قلق "إسرائيل"، إذ يعتبر بعض المختصين: "أنّ عدد الفلسطينيين في ما يطلق عليه الإسرائيليون "أرض إسرائيل التاريخية" التي تشمل فلسطين والأردن، يبلغ 9 ملايين، ومن المتوقّع أن يصل عددهم بعد عقد ونصف العقد إلى ما بين 14 و15 مليوناً، مقابل 6,3 ملايين يهودي في "إسرائيل". 

الهجرة المعاكسة من "إسرائيل"

وفق المعطيات الأخيرة للهجرة المعاكسة التي تقدّمها تقارير ومعلومات من وزارة الداخلية الإسرائيلية، يكشف المؤلف أبو زيد في كتابه أن الأسباب الرئيسية للهجرة المعاكسة تنبع في الأساس من أسباب اقتصادية، كالبطالة وغلاء المعيشة ونسب الضرائب العالية. ففي "إسرائيل" تصل نسب ضريبة الدخل إلى 49% من المعاش، بينما تصل في روسيا إلى 13%. 

كذلك زادت الحروب الإسرائيلية على لبنان وسوريا من عدد الراغبين في ترك "إسرائيل"، فبحسب مسؤول وحدة الهجرة والاستيعاب في مركز الحكم المحلي في "إسرائيل" ميخائيل جنكر، هذه الحرب زادت من عدد المتقدمين بطلبات لمغادرة "إسرائيل"، في إشارة إلى ارتفاع حالات الضغط والتوتر وسط الجمهور الإسرائيلي مع تركيز أكبر على "أوساط القادمين الجدد". 

إقرأ أيضاً: ألكسندر سولجينيتسين والعقلية اليهودية

كذلك ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600 %. وفي هذا النطاق، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخّراً بأن 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في الاتحاد الروسي. 

ومن جهة أخرى، أشار مكتب الإحصاء المركزي في روسيا إلى أن 28500 إسرائيلي من أصول روسية عادوا إلى بلدهم الأصلي منذ بداية العقد الماضي، فيما تشير تقديرات السفارة الإسرائيلية بموسكو إلى أن آلافاً أخرى من الإسرائيليين يعيشون في روسيا بموجب تأشيرات دخول عادية، ولم يتقدّموا بطلبات هجرة، ولذلك فإن معطيات مكتب الإحصاء الروسي لم تشملهم. وبحسب معطيات في وزارة الداخلية الإسرائيلية، فإن 775 إسرائيلياً تقدّموا بطلبات للتنازل عن جنسيتهم الإسرائيلية، والعدد إلى ازدياد.

هجرة الأدمغة

كتاب (إسرائيل إلى نهايتها) يشير إلى أحدث بحث إسرائيلي عن الموضوع وهو ظاهرة "هجرة العقول" نُشر في أيار/ مايو 2016، قام به إريك غواد وعمر مواب من كلية الاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس، اتضح أن "إسرائيل" تواجه في السنوات الأخيرة ما يُسمّى بظاهرة "هجرة العقول"، ووفق معطيات البحث، فإن 2,6 من اليهود ما بين سن 25 إلى 40 عاماً يعدُّون "مغادرين" وفق لجنة الإحصاء المركزية في "إسرائيل" مقابل 1% من ذوي الثقافة المحدودة. 

إنّ نسبة الهجرة وسط السلك الأكاديمي من حملة شهادات "البروفيسوراه"، يصل إلى 6,55%، يتبعهم الأطباء بنسبة 4,8% والمهندسون والباحثون بـ 3%. وقد وجد معدّا البحث أن نسبة الهجرة تسير بشكل طردي مع ارتفاع سنوات التعليم.

علامات السقوط 

هكذا تنبّأ مؤسس الدولة العبرية دايفيد بن غوريون: أن "إسرائيل" تسقط بعد أوّل هزيمة تتلقّاها، لقد خسرت "إسرائيل" حرب تموز عام 2006، أمام حزب الله باعترافها هي وباعتراف كل دول العالم، وفشلت فيها بكل المقاييس، وما تقرير فينوغراد والبلبلة والصدمات والتصريحات والاستقالات سوى تعبير عن هذه الهزيمة. فإن هزيمة حرب تموز ضد لبنان، أدّت إلى تدهور الوضع الاجتماعي، فقد أظهرت نتائج بحث خاص أُجري حول آثار حرب لبنان على الفقر، بأن هذه الحرب ستدفع نحو 42 ألفاً إلى ما دون خط الفقر كل سنة خلال السنوات الثلاث المقبلة. 

وأظهر البحث أن عدد الفقراء سيبلغ نحو مليون و650 ألف نسمة، لذا عاد هاجس النهاية والزوال، وبعد الصمود اللبناني في وجه الهمجية الإسرائيلية، وبعد إبداع المقاومة اللبنانية في التصدّي، فقد اكتشف الصهاينة حدود القوة. فالانتصارات العسكرية لم تحقّق شيئاً، لأنّ المواجهة مستمرة ما يؤدي إلى ما أسماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون "عقم الانتصار".

يلاحظ المؤلف في كتابه (إسرائيل إلى نهايتها)، أنّ أحد عناوين الأزمة الكيانية الإسرائيلية هو الاقتصاد. وباختصار كانت "إسرائيل دولة (الكيبوتز)" أو التعاونية الزراعية، وتتسم بدرجة عالية من الدفء والتجانس الاجتماعي، ثم أصبحت دولة برجوازية تُديرها الشركات العملاقة ومصانع السلاح والإلكترونيات، وبرزت بالتالي الفروق الطبقية، وصار الركض وراء المنفعة والجاه والصالونات والمتعة شأناً عادياً حتى بالنسبة للجنرالات. 

انحراف وتعثّر في القرارات

يعتبر قادة الرأي الصهاينة أن انحراف القائد في "إسرائيل" عن يهوديّته سيؤدي إلى حالة من الانهيار والاندثار، ويجري الحديث بشكل متزايد في "إسرائيل" عن خلل أو ثغرات في عملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمصيرية الكبرى، والقرارات التي اتخذت خلال العقد الأخير لم تعرض للبحث أو الفحص الاستراتيجي العميق والدقيق، والدليل على ذلك خطة فك الارتباط والانفصال أحادي الجانب عن الفلسطينيين في قطاع غزة، وقرار الانسحاب أحادي الجانب من لبنان في صيف العام 2000، وقرار الذهاب إلى الحرب ضد لبنان في 2006. كلّ هذه القرارات اتخذت من دون بحث عميق متعدّد الجوانب والأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

تجدر الإشارة إلى أن كتاب (رسالة للقائد) للكاتب الاسرائيلي الصهيوني المتطرف "يحسكل درور" يشير إلى انحدار في ميول الجيل الجديد وخاصة الشباب في "إسرائيل" نحو القيم اليهودية والصهيونية، وذلك بسبب فراغ الساحة اليهودية من زعماء روحيّين صادقين ذوي قيمة سلوكية عالية مقبولة في المجتمع ولدى الشعب اليهودي. ويؤكد المؤلف هذه الحقيقة في فصل كامل بعنوان (البوصلة الأخلاقية اليهودية والصهيونية من خلال القيم الإنسانية)، حيث يصوّر في هذا الفصل أن الأخلاق والقيم اليهودية في تراجع وفي أزمة، ولهذا فإن التحدي يكون في الحفاظ على يهودية الدولة والأجيال.

وبالنسبة للعديد من علماء الاجتماع وأساتذة الفلسفة في الجامعات الإسرائيلية، فإن "عهد الصهيونية كدين جامع للإسرائيليين انتهى"... "النظرية الصهيونية والقيم المرتبطة بها، التي شكّلت الصمغ للمجتمع الإسرائيلي تحديداً في سنواته الأولى، لم تعد كذلك"... "الرغبة بالتشبّه بالقيم الاجتماعية والسياسية الأميركية باتت الأمر الأساسي المشترك بين الإسرائيليين"... 

"عصر العقائدية والأيديولوجيا تراجع أيضاً في إسرائيل لصالح القيم الفردية، ولصالح الخاص على حساب العام، مع بقاء الشروخ الاجتماعية المهدّدة للهوية الإسرائيلية العامة على حالها، وسط استمرار التقاطب بين المتديّنين والعلمانيّين والشرقيّين والغربيّين، والأشكيناز والسفرديم، وازدياد الاستقطاب الطبقي، واستمرار الصراع مع الفلسطينيين مع النقاش الحاد، الذي يخلقه بين اليسار واليمين، ووجود أقلية فلسطينية داخل إسرائيل تشكّل للبعض منهم تهديداً استراتيجياً". هذا التفسّخ في نظرية الدين الجامع لبني "إسرائيل"، له أثر كبير في تزايد الهجرة المعاكسة من أرض الميعاد.

أزمة المشروع الإسرائيلي

يشير المؤلف في كتابه إلى الأزمة العاصفة بـ "إسرائيل" اليوم، وهي ليست أزمة عابرة أو طارئة، بل أزمة تختزن الكثير من التناقضات التي تشير إلى أي مدى بات المشروع الإسرائيلي يعيش في مأزق استراتيجي وتكتيكي في آن معاً. فـ "إسرائيل" اليوم تواجه سلسلة من الفضائح التي تحيط بزعمائها، وباتت وكأنها مستنقع غير أخلاقي مع تلاحق قضايا الفساد والسلوكيات المشينة (اختلاس، تلاعب بالأموال العامة، فضائح جنسية)... من جانب كل مؤسسات الحكم في الدولة: الرئيس، رئيس الحكومة، الوزراء وأعضاء الكنيست، قضاة خانوا الأمانة، حاخامات قاموا بأعمال مشينة، رئيس أركان الجيش وقائد عام الشرطة لم يقوما بواجباتهما، سلطات الضريبة، وموظفون في مجالات أخرى.

كما أنّ هناك شعوراً متزايداً بالفساد المستشري، ذلك أن هذا النظام غير قادر على توفير سياسة اجتماعية مقبولة، تقلّل من الفقر وعدم المساواة والبطالة، كما أنه لم يحدث أن أظهر الشارع الإسرائيلي، الأغنياء والفقراء، اليمين واليسار والوسط، احتقاراً تاماً للحكومة كما هي الحال الآن. وتكشف حالة التمييز الطبقي والإثني بين الإسرائيليين دليلاً على حالة من التشتّت والتمزّق والصراع داخل "إسرائيل"، وتنامي تأثير اليهود الشرقيّين السفارديم، وزحفهم نحو قيادة دولة "إسرائيل".

يلاحظ المؤلف، أنّ (الروس المواطنين الذين قدموا من روسيا إلى إسرائيل)، يمثّلون حالة عصية على الهضم والفهم في "إسرائيل"، كما يصفهم تقرير حالة التميّز، فلا هم یهود ولا هـم إسرائيليون غربيون إشكيناز ولا هم شرقیون سفارديم، إنهم فقط "روس" ينتمون إلى المافيا والفودكا والشيوعية السابقة والقيصرية واليهودية الروسية المتميّزة أكثر مما ينتمون إلى "إسرائيل".

تناقضات منذ قيامها

مشكلة "إسرائيل" أنها أيضاً فريدة من نوعها في التناقضات التي نشأت معها منذ قيامها، فهذه الدولة ادّعت العلمانية في حين أنها دولة دينية في قوانينها ورموزها والأيدلوجية التي حكمت قيامها. وهذه الدولة التي اعتبرت نفسها واحة الديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، تعتبر نفسها دولة يهودية، ما يجعل منها دولة عنصرية، كونها تُمارس التمييز ضد السكان من مواطنيها بسبب الدين والقومية.

باختصار، ثمة تناقضات مستحكمة في "إسرائيل" من نوع التناقض بين العلمانيين والمتدينين، والشرقيين والغربيين والعرب واليهود، وبين كون "إسرائيل" مركز اليهودية أم أحد مراكزها، وبين اليهودية كهوية قومية والإسرائيلية كهوية قومية متعيّنة، وبين أنصار التسوية ومعارضيها.

فوق كل ذلك فإن "إسرائيل" ظلت محكومة بتناقضاتها الخارجية، فهذه الدولة، بسبب طبيعتها الاستيطانية العنصرية، لم تستطع إجراء مصالحة تاريخية مع أصحاب هذه المنطقة (العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً). إذ ظلت تعتبر قيامها حقاً مطلقاً، بتبريرات سياسية وعنصرية. هكذا رفضت "إسرائيل" تحديد حدودها الجغرافية لدواعٍ أمنية، كما أنها رفضت الاندراج في التاريخ الثقافي للمنطقة، برغم أنها مهد الديانة اليهودية، مفضّلة اعتبار نفسها امتداداً للغرب، وجزءاً من حضارته!

التدمير الذاتي

يعتبر المؤلف أن "إسرائيل" تمرّ حالياً بمرحلة خطيرة من التدمير الذاتي، ثمة زلزال داخل "إسرائيل" على كل المستويات: انقلاب في بنية التفكير الإسرائيلي العام، من شعور بتفوّق وقدرة "إسرائيل" على تحقيق أهدافها متى أرادت وشاءت بواسطة قوتها العسكرية، إلى سيادة قناعة وشعور عام بالعجز وعدم الثقة بعد الآن في هذه القدرة، سقوط نظرية الأمن والاستقرار، الجيش لم يعد يملك المعنويات، زيادة الانقسام السياسي، انقسام الأحزاب السياسية التاريخية، وازدياد الشعور العام بحال الفراغ على مستوى القيادة، إلخ... 

إقرأ أيضاً: رئيس جهاز "الموساد" السابق: "إسرائيل" تقترب من نهايتها

"إسرائيل" باتت تفتقد إلى قيادات قادرة على إخراجها من مأزقها، الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة سوداوية، كما أن التماسك الاجتماعي والسياسي ووحدة المجتمع تضعضعت" وقوة الجيش التي تشكّل الأساس في كل ذلك، أصيبت بعطب خطير. حتى الآن أجّلت "إسرائيل"، أو بالأحرى تهرّبت من الأسئلة المصيرية المطروحة عليها، منذ قيامها. وقد نجحت في ضبط تناقضاتها وأزماتها الداخلية والخارجية، لكن إلى متى، من يضمن بقاء هذه المعطيات كما هي، ولا سيما بعد انتصار المقاومة في لبنان وتعاظم الانتصارات في الإقليم، هذا ما يُشكّل هاجس "إسرائيل" الوجوديّ اليوم.

قد تنجح "إسرائيل" في عسكرة مجتمعها وإعادة بناء قوة ردعها، لكن هل يمكن أن تنجح في إعادة ضخ مبادئ بروتوكولات حكمائها وأيديولوجيتها التاريخية، التي قام على أساسها بنیان دولة "إسرائيل الكبرى"، في مجتمع فقد وحدته الفكرية والعقائدية وبات على شفير التشتّت من جديد؟ سؤال في صميم الحلم اليهودي، الذي يُواجه اليوم أكبر خطر وجودي. هذه الأسئلة الوجودية جاءت بعد نفي كل الأساطير، وفرضت الأسئلة الوجودية نفسها من خلال المقاومة على الكيان الإسرائيلي المأزوم.

ومن هذه الأساطير "أرض الميعاد" أو "أرض إسرائيل" و"الشعب المختار" و"النقاء العرقي" و"المحرقة النازية"، وهنا كَبُرَ شعور المحتلين وخوفهم من زوال الكيان المصطنع. كما ازداد شعورهم بالخطر على بقائهم ومصيرهم، وذلك نتيجة تغيير موازين القوى وتداعيات الصراع المصيري. وقد عبّر عدد كبير من الإسرائيليّين عن خوفهم وقلقهم على وجودهم. وبدأوا يشعرون بأنّ "إسرائيل" قد اقتربت من نهايتها وهي "تلفظ أنفاسها الأخيرة". وستزول "إسرائيل" حتماً، لأن العدالة محقّة ولا تزول والحقّ لا يموت.