إيعات، الكُنيسة، بعلبك.. أين المفرّ يا رب؟
إيعات الآن صارت شجرة تين تحترق. صار الآلاف من أهلها "طُفّاراً" من الوحوش الضارِية التي تعربد في سماء إيعات، ليلَ نهارَ، لتصطاد أهلها كما كنتَ، يا صديقي، تصطاد طيور الدُّوري في شجرة تين بيتنا.
هل مرّ يوم تخيّلتُ فيه أننا قد نصبح أيضاً مثل عصافير الدوري، التي مرت طفولتي أراقبها من شبّاك غرفة الجلوس في منزل أهلي في إيعات، "تُنَقْوِدُ" أكواز التين من الشجرة، التي كان المرحوم أبي يرويها قليلاً من ماء "النربيش"، وكثيراً كثيراً من ماء قلبه.
نحن الآن، في بعلبك الهرمل، في إيعات، في الكُنيسة، في حدث بعلبك، في النبطية وصور وجبيل، في كل بقعة من هذا البلد، الذي صار يشبه شجرة التين في دار أبي الإيعاتي، بتنا نشبه كثيراً جداً جداً عصافير الدوري، التي كانت تغطّ بين أغصان شجرة منزلنا الإيعاتي، لتجد أمانها، وراحتها، ومهجَعاً دافئاً تبوح فيه بحبها.
نحن، الآن، صرنا عصافير دوري في شجرة تين تحترق. نُشوى بنار لهيبها، ولمّا نفر من جحيمها، يقنصنا الإسرائيلي بصواريخ "ذكية"، محشُوَّة حقداً وباروداً غبياً، يتصيّدنا، فأين يا ربي المفر؟ أين المفر؟
لمّا كنت طفلاً، كان أصدقاء طفولتي يحبون صيد طيور الدوري، وكنت أنا، عكسَهم، أحبّ مشاهدتها "تُنَقْوِدُ" أكواز التين. ودُوريّ ودُوريّة، من سَربها، يتسللان إلى خُلوة خلف إحدى أوراق التين الخضراء الكبيرة، و"يُنَقْوِدُ" كلّ منهما منقار الآخر، يتبادلان الحبّ والعتاب والعناق والهموم والأمنيات والهواجس. دُورِيّ وقع في حب دُورِية، ووجدا في شجرة تين دارنا "دارَ الأمان" التي تَقيهما عَينَ كلِّ دُوري"عَزول"، وعَينَ كل صياد من قريتي إيعات، مُولع بالصّيد، ويحبّه، لأن الصيد، كما قال المرحوم أسعد خشروف في مسلسل "ضيعة ضايعة"، "يَجْري في دَمّه جَرْيْ"!
أنا لم أكن من طِينة هؤلاء، الذين يحبّون الصيد ولا كان يجري في دمي، لا مثل نهر، ولا مثل سرسوقة ماء. كانوا يصفونني بأني عاشق الدوري. قال لي أحدهم، وهو يحمل بارودة صيد اسمها "الأم حَبّة"، و"يُنَطْوِطُ" حول شجرة التين قي دارنا الإيعاتية: "لو كنتَ طيرَ دُوري لاصطدتك. طيور الدوري خُلقت لنصطادها ونستمتع بمذاقها، وليس لتنظر إليها من خلف نافذة غرفة الجلوس. ليس لتتصورها عاشقاً وعاشقة يتبادلان الحب. هما يختبئان من بارودتي "الأم حبة"، وليس من عيون العذّال، ولا يتبادلان الحبّ يا روميو زمانك".
"لو كنتُ طائرَ دوري لاصطدني"
ليتنا كنا جميعاً تحت رحمة بارودة "الأُم حبّة"، التي كنتَ تتباهى بها يا صديق طفولتي، وأنت تتجوّل في طرقات إيعات تبحث عن طيور الدوري والسُّمّن لتصطادها، نتيجةَ وَلَع طفولي بالصيد، وليس نتيجة حقد أعمى يُولد مع من يقتلنا منذ طفولته، وتتمنطق حول كتفك بارودةُ "الأُم حَبّة" صاحبة الضمير، والتي لا تفعل مع طيور الدوري سوى جَرحها، فقطْ لتروي وَلَعَك بالصيد.
لقد بتَنا الآن كلنا طيورَ دوري، ولستُ أنا وحدي، كما كنتَ تتنمّرُ علي، لأني أحب طيور الدوري؛ أحب "نَقْوَدَتَها" أكوازَ التين؛ أحب رؤيتَها في شجرة تين بيتنا؛ أحب كل دُوريّ ودُوريّة يختليان بنفسيهما، يمارسان "نَقْوَدَةَ" منقار كلّ منهما، وأموراً أخرى كانت معرفتها محرَّمةً علينا، نحن الأطفال، ثمّ لمّا كبرنا صرنا نعرفها.
تَخَيَّلْ يا صديقي، كانت شجرةُ تين واحدة، في بيت واحد في إيعات، ملجأً وأماناً و"بيتَ حُب" لعشرات، قل لمئات، قل لآلاف طيور الدوري. كانت كل طيور الدُّوري، التي تعبُر سماء قريتي إيعات، التي هَجَرها الآن سكانُها وأهلها، وربّما هجَّ الأمواتُ أيضاً من تحت قبورها، تجد أمانَها في شجرة التين في منزل أبي. وها إن إيعات الآن صارت شجرة تين تحترق. صار الآلاف من أهلها "طُفّاراً" من الوحوش الضارِية التي تعربد في سماء إيعات، ليلَ نهارَ، لتصطاد أهلها كما كنتَ، يا صديقي، تصطاد طيور الدُّوري في شجرة تين بيتنا.
قبل أيام تصيَّدَتِ الوحوش الضارية الإسرائيلية الطائرة، عائلتين في قرية الكُنيسة البعلبكية. رمت حقدها على منزلين في الكُنيسة فاحترقا واحترق من فيهما. يتمّ شواؤنا قبل صيدنا!
نصير جثثاً محترقة، ملتصقة جلودنا بالجدران، بالأبواب، بالشبابيك، بالكنبات، بالفَرْشات التي يكون الأطفال نائمين مرعوبين فوقَها.
حدث بعلبك، أيضاً، اصطادت "الكواسرُ الضارية" الطائرةُ، الهائجةُ، بنتُ الحرام، سكانَها.
تحوّل الجميع في بعلبك، وفي كل قرى بعلبك، في إيعات، في الكنيسة، في ريحا، في الحدث، في كل القرى حولها، إلى عصافير دوري.
وثمة صيادٌ ابنُ حرام، وليس ابنَ حلال مثلك يا صديقي، يَحُوم في السماء، عينُه الحاقدة لا تشبع من القتل، لا يملأها حتى التراب، يصطادنا كلنا.. كلنا يا صديقي، الرجال، النساء، العجائز، الأطفال، حتى الهررة الأليفة داخل منازلنا، وحتى بقرة مسكينة هنا، ونعجة درويشة هناك، وديك ودجاجة في خمّ، أو قُن هنالك،.. يصطادنا كلنا، بل يشوينا قبل أن يصطادنا. تخيَّلْ، يا صديقي، نُشوى قبل أن يتمّ اصطيادُنا. حوَّلنا كلّنا إلى طيور دوري!
فيا ربي.. أين المفرّ؟