أيّ هويات ثقافية في عالم مُعَولم وافتراضي؟
بين اقتصادٍ معولَم وتضخم الفضاءات الافتراضية... كيف يصبح موضوع الهوية الثقافية قضية استراتيجية وسياسية، وربما وجودية؟
لم تعد الهوية الثقافية مجرد مسألة وجودٍ رمزي أو تمايز حضاري لمجموعة من المجموعات البشرية، أو لمجتمع متفرد في وجوده ومتميز عن غيره، بل باتت في قلب التوترات الكبرى التي تصوغ العلاقات الدولية، والتحوّلات الاجتماعية، والتفاعلات الرقمية في القرن الــ 21.
إذ بين الانغماس المتسارع في اقتصادٍ رمزي معولم، والتضخم المطرد للفضاءات الافتراضية التي أصبحت تضطلع بدور المحيط الاجتماعي الأساسي للفرد، تصبح الهوية وحدة تحليل حيوية تتجاوز بعدها الأنثروبولوجي أو الفولكلوري، إلى قضية استراتيجية وسياسية، بل وربما وجودية.
هوية مركّبة وتجانس رمزي.. الرقمنة وتفكيك الثوابت
-
تحوّل الفضاء الرقمي إلى بنية تحتية لإنتاج المعنى
تقوم الهوية الثقافية تقليدياً على فكرة التجانس الرمزي ضمن جماعة مرجعية (أمة، طائفة، لغة، جغرافيا)، لكنها في ظل التحولات المعولمة، تجاوزت "الجوهر الثابت" لتتحوّل إلى بنية ديناميكية تتشكّل في التفاعل المستمر مع "الآخر"، سواء كان هذا الآخر ماثلاً في الواقع المادي أو ماثلاً في الفضاء الرقمي.
ووفق منظور ما بعد الحداثة، لم تعد الهويات جوهراً بقدر ما هي "سرديات"؛ بمعنى أنها تُبنى عبر الخطاب، والتأويل، والتمثيل، كما يطرح المفكرون أمثال عالم الاجتماع البريطاني – الجامايكي، ستيوارت هول، وأستاذ علم الاجتماع الإسباني، مانويل كاستيلز. فالهويات صارت مشروعات متحركة، تُعاد صياغتها باستمرار تبعاً لتغيّر السياقات، والأزمات، وأدوات التفاعل الاجتماعي.
في صيغتها النيوليبرالية، أنتجت العولمة منظومة رمزية تقوم على تصدير نموذج معياري للثقافة "الصالحة للاستهلاك الكوني": ثقافة شعبوية، سريعة، بصرية، قائمة على الإشباع الفوري، ومنزوعة من سياقها التاريخي والاجتماعي.
لقد أصبح الإعلام -لا سيما التلفزيون والمنصات الرقمية- حاملاً جوهرياً لهذا النموذج، الذي أنتج مع الوقت وعياً شُبكياً متشابهاً إلى حد بعيد، تُهيمن فيه ثقافة المركز على ثقافات الأطراف. فالهويات الضعيفة أو غير المُمكننة إعلامياً تجد نفسها في موقع الدفاع أو التهميش، بينما تتضخم الهويات المُعَولَمة التي تملك رأس المال الرمزي والمعرفي، بما في ذلك اللغة الإنكليزية (تحديداً)، والرموز الأميركية، والأطر الفلسفية الغربية بصورةٍ خاصة.
في هذا السياق، تحوّل الفضاء الرقمي، الذي بدأ كأداة تواصل، إلى بنية تحتية لإنتاج المعنى، ولإعادة تشكيل مفهوم "الذات" نفسه. ففي هذا الفضاء، تُنتج الذات لا باعتبارها "ابنةً لجماعة مرجعية"، بل بوصفها "مُنتِجَة لذاتها" في كل لحظة، وفق ممارسات يومية من النشر، والمشاركة، والتمثيل البصري.
بعبارة أخرى، أصبح الفضاء الرقمي ساحة عرض للهوية أكثر منه مجالاً لتعميقها. يتماهى الأفراد مع تمثيلات رقمية محدودة، قائمة على الصورة لا على السردية، وعلى الانطباع اللحظي لا على التراكم الرمزي. هذا الانزياح يفتح الباب أمام التفكك الداخلي للهوية، بل وأمام التشيؤ الذاتي، حيث تتحول الذات إلى "منتَج رقمي" قابل للتسويق والتعديل وفق اتجاهات السوق والمنصة.
ماذا عن الشباب كفاعلين في هذه البيئة؟
-
لا يمكن التعويل على نموذج "الدفاع عن الهوية" وحده لأنه قد يقود إلى التصلب والانغلاق
الشباب، لا سيما في المجتمعات ذات التركيبة الهشة أو ما بعد الاستعمارية، هم الحلقة الأكثر عرضة لهذه المفارقة: من جهة، يُطلب منهم الحفاظ على الهوية القومية، اللغوية، أو الدينية؛ ومن جهة أخرى، يَغمرهم فضاء رقمي مليء بالخطابات العابرة، والمغريات الهوياتية البديلة. هذا الانقسام يُنتج حالة من "القلق الوجودي"، الذي يتجلى في التمرد الرمزي، أو في التماهي المفرط مع الهويات الرقمية، أو حتى في النزوع إلى أشكال من التطرف كسبيل للثبات واليقين.
وهو ما نراه اليوم في تنامي الحركات الشعبوية، أو العودة إلى السرديات القومية، أو حتى الميل إلى الانغلاق الهوياتي كرد فعل على الضغط العولمي، وهي جميعاً ظواهر تُشير إلى أن فقدان التوازن الهوياتي يولّد ردات فعل راديكالية.
في ظل هذا التشظي الرمزي، لا يمكن التعويل على نموذج "الدفاع عن الهوية" وحده، لأنه قد يقود إلى التصلب والانغلاق. وربما يكون ما نحتاجه هو نموذج "الهويات التفاعلية"، الذي يقترح آليات للتفاعل الخلّاق مع العولمة الرقمية من دون الذوبان فيها.
ويتطلب هذا النموذج إعادة الاعتبار للهوية كمنظومة سردية قابلة للتجديد لا كحزمة مغلقة من القيم. والاستثمار في البنى التربوية والثقافية لإعادة تمكين الأجيال من أدوات التأويل والفهم النقدي للذات والعالم. بالإضافة إلى تحويل الثقافة المحلية إلى رأس مال رقمي من خلال دعم المحتوى الثقافي بلغات متعددة، وتصديره بطريقة تنافسية ضمن المنصات العالمية. وهذا ما يمكن أن يتواءم مع تبني سياسات ثقافية هجينة تتيح الاندماج في الفضاء العالمي، من دون التفريط بالخصوصيات الرمزية العميقة للمجتمعات.
نهضة الهوية
-
الهوية في العالم المعولم والافتراضي باتت "ما نصبح عليه باستمرار"
في الآونة الأخيرة، ونتحدث هنا عن سنوات، نحا البعض منحى الحديث عن "نهاية الهويات" في عصر السيولة الرمزية التي وصفها زيغموند باومان، بينما يرى آخرون في الوقت نفسه أننا نعيش لحظة "نهضة هوياتية" موازية، قوامها التمسك بالرموز، والعودة إلى الجذور، كرد فعل على العولمة الزاحفة.
وبما أن العولمة، تحديداً في بعدها الاقتصادي، تواجه ما يمكن وصفه بالحرب، للسيطرة عليها، وفي قلبها، فإن المسألة الهوياتية التي تنشط في فضائها تكتسب أيضاً أسئلةً كبرى جديدة.
إلا أن القراءة الأكثر عمقاً تقترح أن ما يحدث ليس نهاية أو بعثاً، بل تحولاً في البنية: انتقال من الهويات العمودية، المتوارثة والمفروضة من الأعلى، إلى هويات أفقية، تُصنع من القاعدة، ويشارك الفرد في صياغتها.
الهوية في هذا العالم (المعولم والافتراضي) لم تعد "ما نحن عليه"، بل "ما نصبح عليه باستمرار". إنها ليست حالة جاهزة بل مشروعاً دائماً، يخضع لمفاعيل السياسة، والتكنولوجيا، والذاكرة، والمخيلة. وتحقيق التوازن في هذا السياق لا يعني الثبات، بل القدرة على التنقل المرن بين المرجعيات من دون انفصال عن الجذر أو انبهار بالسطح.
بهذا المعنى، فالهويات التي ستصمد هي تلك التي لا تكتفي برد الفعل، بل تنتج فعلها الخاص، وتعيد تشكيل ذاتها ضمن نظام عالمي مفتوح، لكنها تفعل ذلك من موقع الفاعل لا التابع، ومن موقع المُنتِج لا المستهلك.