أول مرشدة سياحية في غزة: 4 حضارات تحت الحصار والعدوان
على الرغم من الاحتلال الإسرائيلي والظروف الأمنية والاجتماعية، تصطحب ناريمان خلة السياح عبر التاريخ الغني لغزة. من هي ناريمان؟ ولماذا قررت العمل مرشدة سياحية؟
تلتقط ناريمان خلة إشارات الاستفهام المرسومة على وجوه أفراد الوفود السياحية، خلال تجوالهم على المباني الأثرية المختلفة في غزة. فمرورهم عبر حِقَب زمنية مختلفة عايشها القطاع المحاصر على مدى 4 عصور، هي اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، يخلق لديهم فضولاً حول ماهيّة المدينة التي بُنِيت على أنقاض 4 حضارات مختلفة.
تروي ناريمان لـ"الميادين الثقافية" أنّها عادةً ما تمنح الزوار دقائق من الصمت ليتفحصوا بأعينهم مقتنيات المكان، وما أن ينتهوا تستقبلهم بابتسامة تتوسّط محيّاها برفقة السؤال المعتاد: "أتريدون أن أبدأ أنا، أم أترك المجال لأسئلتكم؟".
"متحف قصر الباشا": المعلم الأثري الأهم في القطاع
اعتادت ناريمان أن يطلق السيّاح وابلاً من الأسئلة دفعةً واحدةً، وما أن ينتهون حتى يجدونها تجيبهم عنها جميعها، مع شروحٍ وإضافات، وذلك كلّه في قالبٍ سردي قصصي ممتع، تتشابك فيه أطراف الحكايات المتسلسلة.
وكما هو الحال مع الزوّار، أبت المرشدة السياحية إلا أن تمارس مهمتها المعتادة خلال اصطحاب "الميادين الثقافية" وقرّاءها في جولةٍ قصيرةٍ، للتعرّف على أحد المعالم السياحية الهامة في البلدة القديمة في غزة، هو "متحف قصر الباشا" ومَلاحقه.
يعود تاريخ إنشاء مبنى "متحف قصر الباشا" إلى عهد الدولة المملوكية، وفقاً لناريمان، التي اهتمّت ببناء قصرٍ في كل منطقة، يرافقه مسجد هو "المسجد العمري"، وحمام أي "حمام السمرة"، وسوق هو "سوق القيسارية". وتلفت إلى أنَّ المتجوِّل في أحياء البلدة القديمة يستطيع مشاهدة تلك المرافق، لكن مع بعض التغيّرات التي فرضها كلٌّ من الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، والتي غيّرت هوية المكان.
توضح ناريمان أنَّ القصر كان موصولاً بالمباني الأثرية السابقة الذِّكر من دون أية فواصل، لكن مع بدء الانتداب البريطاني وتنفيذ مخططه الاستعماري لإحلال الصهاينة في البلاد، تمَّ الاستيلاء على المتحف وتحويله إلى مركز شرطة، ومن ثم مدرسة، فيما دُمِّرت حديقته بالكامل لفتح شوارع جديدة، كـ"شارع الوحدة" الموجود حالياً، وقد طال الأمر البيوت الأثرية القديمة خلال الحرب العالمية الأولى، كخطوةٍ متقدّمةٍ تهدف إلى تدمير المعالم السياحية في البلدة القديمة.
كان القصر موصولاً بالمباني الأثرية المحيطة به، لكن مع بدء الانتداب البريطاني وتنفيذ مخططه الاستعماري لإحلال الصهاينة في البلاد، تمَّ الاستيلاء على المتحف وتحويله إلى مركز شرطة، ومن ثم مدرسة، وفصله عن محيطه.
إلى أن أكمل الاحتلال الإسرائيلي ما بدأه الانتداب الذي أتى به، ففي عهد موشيه ديان، وخلال سيطرة الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، قام بسرقة عددٍ من أرضيات الفسيفساء المتواجدة في دير "القديس هيلاريون"، القائم وسط قطاع غزة، ونقلها إلى "المتحف الإسرائيلي" في القدس المحتلة، بالإضافة إلى استيلائه على العديد من القطع النقدية والفخارية، التي تعود إلى أزمنةٍ مختلفةٍ عايشها القطاع، بحسب ما بيّنت ناريمان، يُضاف إلى هذا كلّه الخراب الذي تُحدثه قوات الاحتلال الإسرائيلي في كلِّ عدوانٍ تشنّه على قطاع غزة.
مهنة صعبة في ظل الاحتلال
تجعل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة من مهمة المرشد السياحي أصعب في المدينة المحاصرة، فكونك تعيش في مكانٍ دُمِّر الكثير من معالمه الأثرية، وسُرِق ما تبقّى منه، فإنَّ الجهد سيكون مُضاعفاً لملاحقة كافة القصص المدفونة. فناريمان، بحسب ما روت لـ"الميادين الثقافية"، تطرق باب الوزارات والمراكز الرسمية وغير الرسمية منذ أن تولّت وظيفتها، بهدف الحصول على مخطوطات أصيلة توضح جميع الأماكن الأثرية في غزة، والمقتنيات التي تحتويها، لتروي الحكاية كاملةً خلال مرافقتها للوفود من الأجانب وأصحاب البلاد.
تتابع ناريمان قائلةً إنّه، بالإضافة إلى ما سبق، ليس من السهل أن تعمل فتاةٌ في غزة كمرشدة ترافق الوفود السياحية، في ظلِّ نظرة المجتمع التي تطالبها بالتوقّف وترك تلك المهمة للشباب، إلا أنّها بعزيمتها القوية انتزعت حقّها وفرضت على الجميع تقبّلها، لكنَّ قصّتها لم تبدأ من هنا.
بالعودة إلى أصل الحكاية، كانت ناريمان مجرد طالبة في قسم التاريخ، تنوي بعد التخرج أن تعمل معلِّمةً في أحد المدارس الحكومية، امتثالاً لما تفرضه العادات، لكنَّ فكرة العمل مرشدة سياحية لاحت لها بعد أن أنهت مقرَّراً عن الدولة العثمانية في الجامعة، حيث قرَّرت أن تبحث في جميع الفترات الزمنية المتعاقبة على غزة، وبفضل شغفها وعملها الدؤوب أتيحت لها وظيفة مؤقتة في وزارة السياحة والآثار، ثم عُيّنت في "قصر الباشا"، إلى أن أصبحت مديرته اليوم.
ليس من السهل أن تعمل فتاةٌ في غزة كمرشدة ترافق الوفود السياحية، في ظلِّ نظرة المجتمع التي تطالبها بالتوقّف وترك تلك المهمة للشباب، إلا أنّ ناريمان انتزعت بعزيمتها القوية حقّها، وفرضت على الجميع تقبّلها.
وكانت القراءة المعمَّقة رفيقة ناريمان على مدار تلك الرحلة، بالإضافة إلى ما تجنيه من خبرات بسيطة، تعرّفت من خلالها على الرموز التي تعود إلى فتراتٍ مختلفةٍ في تصنيف القطع الأثرية النقدية، فالقطع اليونانية يُرسم عليها صورة الإسكندر المقدوني، والبيزنطية يُرسم عليها حروفا "mk" أو صليب، أما الإسلامية فيُكتب عليها "لا إله إلا الله"، والعثمانية تُختم برمز الطغراء، والمملوكية والأموية يُكتب عليها أسماء السلاطين.
وكذلك الحال بالنسبة إلى قطع الفخار، إذ توضح ناريمان أنَّ هناك علاماتٍ تميّز كلَّ عصرٍ، فاليوناني يُحاط بطبقةٍ ملوَّنةٍ، والروماني يمتاز بالترتيب الفائق، أما العصور اللاحقة فلم تهتمَّ بصناعته كالعصور السابقة.
وعي متزايد بالأهمية الأثرية لغزة
يعثر المزارعون على الكثير من القطع الفخارية، ويهرعون إلى وزارة السياحة والآثار حالما ينتابهم الشك في احتمالية أن يكون ما عثروا عليه قطعاً أثرية، بعدما أصبحوا يدركون أنَّ المدينة المحاصرة بُنيت على رفات عدّة مدنٍ أثرية، فيما يُعتبر اهتمام السكان أقل نوعاً ما، سواء بالسياحة الداخلية أو معرفتهم بأصول القطع التي تصادفهم، بالرغم من الجهود المبذولة في عملية التثقيف.
جميع تلك المعلومات تنقلها ناريمان للزوار الذي يشغلون أكثر من ثلثي يومها، فغالباً ما ينتهي دوامها الرسمي فيما تستمر أسئلتهم، خاصَّةً الأجانب الذين يكون لهم ردُّ فعلٍ مختلفٍ، فهم يتعجّبون دائماً من كيفية احتواء المدينة الصغيرة على ذلك العدد من المواقع الأثرية الهامة، وكيف يضم "متحف قصر الباشا" وحده ذلك الكمَّ من المقتنيات الأثرية، التي قد يصلح عددها لتُوزَّع على متحفين منفردين، لو تواجدت خارج قطاع غزة.
يعثر المزارعون على الكثير من القطع الفخارية، ويهرعون إلى وزارة السياحة والآثار حالما ينتابهم الشك في احتمالية أن يكون ما عثروا عليه قطعاً أثرية، بعدما أصبحوا يدركون أنَّ المدينة المحاصرة بُنيت على رفات عدّة مدنٍ أثرية.
تهوى ناريمان التعامل مع كافة الوفود التي أصبحت تطلب مرافقتها، خاصَّةً من يرغبون بالتعمّق في معرفة الهوية الفلسطينية، وكذلك الأطفال الذين يعدّون الفئة الأكثر تفاعلاً بين كافة الفئات الأخرى، حيث يمتلئ عيونهم بالحب للمكان، وشغف الاستماع إلى المزيد من القصص التي شهدتها البلاد عامَّةً، مع ربطهم للمعلومات بشكلٍ جيّدٍ ومناقشتها.
تأمل ناريمان في أن ينتهي الحصار عن مدينة غزة، ليستطيع الزوّار الذين يشاهدون تلك المواقع الأثرية عبر الإنترنت والتطبيقات المختلفة زيارتها عن قرب، وتصبح السياحة مصدرَ دخلٍ كباقي دول العالم، يتثنّى من خلالها تطوير البيوت والأماكن الأثرية التي تحتاج إلى ترميم، وكذلك الكشف عن مواقع جديدة والتنقيب داخلها.
يُذكر أنَّ قطاع غزة يحتوي ما يقارب 40 موقعاً أَثَرِياً، تقع جميعها ضمن صلاحيات عمل وزارة السياحة والآثار، إلا أنَّ العمل على اكتشافها والمحافظة عليها لا يلقى الاهتمام المطلوب، يعود ذلك في جزءٍ أساسي منه إلى الواقع المعيشي المتأزّم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، الذي خلّفه الاحتلال الإسرائيلي وحصاره المفروض على المدينة منذ أكثر من 15 عاماً.