أميركا من موقع المدافع عن "إسرائيل" إلى الناطق باسمها

أقصى التعبيرات تأييدا وتماهياً مع الصهيونية هو ما أعلنه "ترامب" في جملته الشهيرة "الآن رفَعنا القدس عن طاولة المفاوضات، ولا ينبغي علينا الحديث عنها بعد الآن".

  • حرب المائة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017
    حرب المائة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017

المؤرخ الفلسطيني د. رشيد الخالدي - مؤرخ وأستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا الأميركية - اعتمد في كتابه قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017، طريقة خاصة جديدة في ارتكازه على مصدر مهم أضاف بعداً منهجياً مغايراً في الأعمال التأريخية. فهو وظَّف الذاكرة الشخصية والعائلية بوصفهما من المباني الأساسية لكتابه، فجعله "مضبطة اتهام" للسياسة الغربية المحازة بشكل نافر وغير مسبوق في التاريخ البشري.

الباحث هو أستاذ في الدراسات العربية الحديثة. لكنه أولاً وقبل ذلك ابن بيت وأسرة فلسطينيين كان لهما الدور التاريخي البارز والمعروف في المعايشة والمواجهة لبواكير خطوات الاستعمار الاستيطاني اليهودي لفلسطين، قبل أكثر من ثلاثين سنة من ظهور الكيان المغتصب.

يروي في كتابه وبطريقة مبسّطة قصة الاستعمار الاستيطاني اليهودي والمقاومة الفلسطينية منذ عام 1917، يوم إطلاق بلفور /البريطاني آرثر جيمس بلفور/ وعده الشيطاني في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، ضمن رسالة أرسلها الى اللورد "ليونيل والتر دى روتشيلد"، يشير فيها إلى "تأييد حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين..."،  وصولاً إلى عام 2017 حين اعلن الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" بكل فجاجة اعتراف إدارة الولايات المتحدة بمدينة القدس عاصمةً أبديةً  لـ"إسرائيل". وبذلك تكون اميركا انتقلت، كما يقول الخالدي، من موقع المحامي المُدافع عن "إسرائيل" إلى موقع الناطق باسمها... وذلك إثباتاً لوحدة الحال بين الطرفين والتي عبّر عنها غير مرة نائب الرئيس الأميركي "مايك بنس" بقوله: "إسرائيل هي نحن، ونحن إسرائيل".

إقرأ أيضاً: دبلوماسي أميركي: استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط وهمية وملفّقة

في الشكل والتسلسل التاريخي، يرى الخالدي أن حرب الأعوام المئة، والتي لا تزال تدور على فلسطين وشعبها، تُرجمت على الأرض في العديد من الجولات المتواصلة (لحدّ الآن): الأولى تبدأ بالحرب على فلسطين خلال حقبة الاستعمار البريطاني من 1917 إلى 1939، ثم حرب النكبة العام 1948، تلتها حرب حزيران/يونيو 1967، وتبعتهما الحرب على لبنان سنة 1982، ثم بين سنتي 1987 و1995 جاءت الحرب الإسرائيلية على الانتفاضة الأولى، بما فيها أوسلو ونظامها، والسادسة هي حروب إسرائيل ضد الانتفاضة الثانية، وسلسلة الحروب الدموية على قطاع غزة بين سنتي 2000 و2014 – والتي تجددت بصورتها الوحشية اليوم بعد سنوات على نشر الكتاب - . ويعمد الباحث إلى دراسة وتفكيك كل واحدة من جولات تلك الجرب الدائمة في فصل خاص بها، ويحلل أدوار المشاركين والفاعلين وتراكم الكوارث التي تسببت بها.

البدايات الأولى للمؤامرة 

يبدأ الكتاب بفحص مراسلات تعود إلى عام 1889 بين يوسف ضياء الدين باشا الخالدي، رئيس بلدية القدس، وهو قريب للمؤلف، و"ثيودور هرتزل" الأب التاريخي للصهيونية السياسية الحديثة.

في الفصل الأول من الكتاب وعنوانه " إعلان الحرب الأول، 1917- 1939"، يقول إنه في الجزء الأول من القرن العشرين كان يعيش في فلسطين تحت الحكم العثماني، "مجتمع عربي نشيط وحيوي يخوض سلسلة من التحولات المتسارعة مثلما كانت أحوال كثير من مجتمعات الشرق الأوسط الأخرى حوله". ويتابع توصيف الوضع الذي كان قائماً فيقول: "كان الشعور بالهوية ينشأ ويتطور لدى جزء كبير من السكان. كان جيل جدي [يوسف ضياء] يعرّف عن نفسه ويُعرف عادةً بانتمائه إلى العائلة أو الدين أو المدينة أو القرية. كانوا يعتزون بأصولهم ويفتخرون بإجادتهم اللغة العربية لأنها لغة القرآن وبإرثهم من الثقافة العربية... وقد تعرّض هذا الجيل لصدمات خارجية قوية كان لها تأثيرات عميقة على مجتمعاته وبخاصة على شعورها بالهوية... فـازدادت الإمبراطورية العثمانية ضعفاً ووجد الناس في فلسطين أنفسهم تحت احتلال جيوش أوروبية... وحُجزت بلادهم لتصبح وطناَ قومياً لآخرين". 

يرى أن الفلسطينيين "لم يستطيعوا تشكيل تحالف عربي فعّال ولم يكن لديهم جهاز دولة حديثة، على الرغم من مشاعرهم الوطنية القوية وتشكيل حركة وطنية كانت قوية بدرجة كافية لتشكيل خطرٍ على السيطرة البريطانية خلال ثورة 1936". وفي هذا السياق يشير إلى ان الصحافة الفلسطينية يومها كانت "واحدة من أهم النوافذ التي اعتمد عليها في كتابه لتبيان تصوّر الفلسطينيين لأنفسهم وفهمهم للأحداث بين الحربين". ومنحته هذه المصادر إحساساً بتطور الالتزام بالهوية بين الفلسطينيين مع ظهور مفردات مثل (فلسطين) و(الفلسطينيين). وتظهر مراجعته للصحف والمذكرات وغيرها من المصادر التي أنتجها الفلسطينيون "تاريخاً يصفع تلك الأساطير الشائعة عن الصراع التي تتركز على عدم وجودهم كشعب أو على غياب وعيهم الجماعي".

يلخص الخالدي المأزق الفلسطيني بعد سنة 1917، ويصفه بـ"المأزق الثلاثي". فقد "وجد الفلسطينيون أنفسهم، في وضع فريد، حيث "لم يكن عليهم فقط مواجهة السلطة الاستعمارية في العاصمة لندن، بل كان عليهم أيضاً مواجهة حركة استعمارية استيطانية كانت تعتمد على بريطانيا، إلا أنها كانت مستقلة عنها، ولها أهدافها القومية الخاصة المزينة بتبريرات بائسة من الكتاب المقدس، والمدعومة بقاعدة دولية راسخة وبتمويل عالمي".

بعد ذلك يتناول وعد بلفور الذي فرض الانتداب البريطاني على فلسطين حيث قررته عصبة الأمم في عام 1922 في أعقاب سقوط الدولة العثمانية. 

والجدير ذكره هنا عدم إشارة أي وثيقة في حينه إلى أهل فلسطين الأصليين من العرب الفلسطينيين، مع إغفال أيّ ذكر لحقوقهم الوطنية في بلدهم وأرضهم. وفي غمرة تلك الأحداث قامت ما يسمى "الوكالة اليهودية" بتمثيل الأقلية اليهودية في فلسطين بطريقة رسمية ومعترف بها من قِبل بريطانيا وعصبة الأمم من دون أخذ الفلسطينيين بالحسبان، وعملت كإدارة شبه حكومية على مدى السنوات الـ 26 التالية، من دون أن تكون هناك أيّ مؤسسة مماثلة لتمثيل الأغلبية العربية الفلسطينية.

يذكر الخالدي أنه خلال سلسلة المراسلات بين "يوسف باشا الخالدي" رئيس بلدية القدس و"ثيودور هرتزل"، كان الأخير يتجاهل بالكامل جميع المخاوف الرئيسية التي أثارها الباشا في إشاراته إلى السكان الأصليين غير اليهود في فلسطين، وكأنهم غير موجودين... وهو السلوك الذي بنى في الفترة اللاحقة الشعار الإسرائيلي الذي تردد في الغرب، وهو "شعب بلا أرض لأرضٍ بلا شعب". من هنا رأى المؤلف أن "الصهيونية كانت في الأساس مشروعاً استعمارياً منذ بدايتها، وأن الفلسطينيين لم يؤخذوا على محمل الجد، ونادراً ما كان يجري التشاور معهم ولا مناقشة آرائهم في الأمور التي من شأنها أن تحدد مستقبلهم".

من بريطانيا إلى أميركا

في الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه "إعلان الحرب الثاني، 1947-1948"، أضاء على عملية حلول الولايات المتحدة الأميركية محل بريطانيا في عام 1947 كقوة إمبريالية تسيطر على فلسطين، وتحركاتها لحشد الدعم الدولي لضمان تمرير قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، والذي صادق على إنشاء "دولة يهودية" على 56٪ من الأراضي العربية الفلسطينية، منتهكاً بذلك حق الفلسطينيين أصحاب الأرض وشاغليها في "تقرير مصيرهم"، وهو الأمر الذي يضمنه ميثاق الأمم المتحدة. تلت ذلك حالات عنف مدني رافقت إقامة "دولة إسرائيل"، ثم الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، والنكبة، حيث طرد نحو 700 ألف فلسطيني أو فروا إلى الدول العربية المجاورة. وعلى الإثر حدثت عملية مصادرة الأراضي التي كانت مملوكة من قِبل الفلسطينيين، وسُخِّرت لاستخدامها فقط لمصلحة الشعب اليهودي أو إضافتها إلى المستوطنات اليهودية الموجودة أو الخاضعة لسيطرة سلطة "أراضي إسرائيل" والصندوق القومي اليهودي.

إقرأ أيضاً: لماذا يفشل الأميركيّون في السّياسة الخارجيّة؟

ويستطرد المؤلف لتوصيف قصة النكبة والشتات الفلسطيني وصعود قوى دولية جديدة، فيرى أن الشعب الفلسطيني دخل حرب 1948 منهكاً، فـ"الفلسطينيون ظلوا مفرّقين وممزّقين سياسياً، وبقي كثيرون من زعمائهم في المنفى أو في السجون البريطانية، وفشلوا في القيام بما يكفي من التحضيرات والاستعدادات للعاصفة القادمة". ويتابع: "حدث أمران مهمان يشيران إلى العقبات التي ستواجه الفلسطينيين، أولهما: علاقتهم مع كثير من الأنظمة العربية والتي كانت محفوفة بالمخاطر بسبب ارتباط الزعماء العرب ببريطانيا. وهذا يعني أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من الاعتماد على أيّ تأييد حقيقي من تلك الأنظمة العربية الضعيفة آنذاك".

ثم يشير إلى "خيبة أمل الفلسطينيين المريرة بعدم ذكر فلسطين في البيان الرسمي التأسيسي للجامعة العربية، واحتفاظ دول الجامعة بالسيطرة على اختيار ممثلين عن فلسطين... فعجز أهل البلد عن تشكيل تحالف عربي فعال ولا حركة وطنية قوية بدرجة كافية لمواجهة  السيطرة البريطانية خلال ثورة 1936".

"النكسة"

الفصل الثالث من الكتاب كرّسه الخالدي لمرحلة حرب عام 1967 تحت عنوان "إعلان الحرب الثالث". تحدث عن "الدور الاستعماري المستجد للولايات المتحدة الأميركية من خلال موافقة إدارة الرئيس "ليندون جونسون" على الضربات الاستباقية الإسرائيلية على كل من مصر والأردن وسوريا في حرب 1967، وكذلك من خلال دعم واشنطن الكامل لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رقم 242، وهو النص الأممي الذي شرّع غزو القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، من دون ان يأتي على أيّ ذكر لفلسطين أو للفلسطينيين وحقوقهم".

وبشيء من الحسرة والأمل يكتب فائلاً: "تمكنت أرتال المدرعات الإسرائيلية في ستة أيام من احتلال سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان. إلا أن كل ذلك حرَّك شرارة انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية"، فـ"كانت الحرب بعثاً غير عادي للوعي الوطني الفلسطيني ومقاومة إنكار إسرائيل للهوية الفلسطينية". 

وفي معرض آخر يقول: "لعب كتّابٌ وشعراء في الشتات الفلسطيني ومن داخل فلسطين دوراً حيوياً في النهضة ثقافياً وسياسياً من أمثال قسطنطين زريق وإدوارد سعيد، وإميل حبيبي، وغسان كنفاني ومحمود درويش وفدوى طوقان وتوفيق زيّاد بالإضافة إلى غيرهم ممن ساعدت أعمالهم على إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية، حيث أظهروا إصراراً عنيداً على استمرار الهوية الفلسطينية وصمودها في وجه احتمالات محبطة ورهيبة". وأدت الهزيمة إلى "شعور الفلسطينيين بالحاجة إلى تنظيم أنفسهم، سياسياً وعسكرياً، بعد انتصار المقاومة الفلسطينية في معركة الكرامة العام 1968... ونجحوا في فرض وجودهم على خريطة الشرق الأوسط".

وفي نص آحر يقول الكاتب: "نتيجة الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987" استعادت منظمة التحرير الفلسطينية دورها بالتدريج، فقدّمت "مثالاً رائعاً للمقاومة الشعبية ضد الاضطهاد، وكانت نصراً صريحاً للفلسطينيين في حرب الاستعمار الطويلة التي بدأت عام 1917". وينتقد الخالدي اتفاق أوسلو 1993 بالقول: "كان الفشل في التوصل إلى اتفاق أفضل من حصول الاتفاق الذي نتج عن أوسلو. كان الاحتلال سيستمر مثلما هو الآن على كل حال، إنما من دون غطاء حكم ذاتي فلسطيني، ومن دون تخفيف العبء المالي عن إسرائيل لشؤون حكم وتسير أمور شعب من ملايين البشر، ومن دون (التنسيق الأمنى) الذي كان من أسوأ نتائج أوسلو". وبحسب الخالدي، كان معنى اتفاق أوسلو الأمني، هو، "تجنيد منظمة التحرير كمتعهد ثانوي للاحتلال".

غزو لبنان

 في الفصل الرابع يتحدث الخالدي عن غزو لبنان عام 1982، تحت عنوان "إعلان الحرب الرابع 1982"، فيقول: "ظهر للعيان تواطؤ الولايات المتحدة مع العدوان الإسرائيلي، ودعمها لغزو لبنان بقيادة "مناحيم بيغن" للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى القومية الفلسطينية". ويَعُدّ الغزو "عملية إسرائيلية أميركية مشتركة، عملت الولايات المتحدة على تزويد إسرائيل بالسلاح ودعمت طرد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت إلى تونس". ويستنتج: "على مرّ قرن كامل من بداية الحرب على فلسطين كانت العاصمة الأميركية المُرتكز الذي لا يمكن الاستغناء عنه في حرية تصرف إسرائيل، وظلت واشنطن ملتزمة بالمشروع الصهيوني الاستعماري مثلما كان اللورد بلفور قبل مئة سنة".

ويبدو هذا الفصل الأقرب إلى حياة المؤلف حيث عاش في بيروت 15 عاماً مع عائلته، ويقدم أدلة دامغة على قرار الحكومة الإسرائيلية الواعي بإرسال ميليشيات مسيحية إلى مُخيّمي صبرا وشاتيلا بقصد واضح للتحريض على المجزرة التي شهدها المخيمان البائسان، وذلك استناداً إلى وثائق تم تسريبها من أرشيف "دولة إسرائيل" في عام 2012، بالإضافة إلى ملاحق سرية من "لجنة كاهانا" لم يتم نشرها في التقرير الأصلي.    

إعلان حرب أميركي ــ إسرائيلي

في الفصل الخامس من كتابه يبسط رد الفعل الإسرائيلي الوحشي على الانتفاضة الفلسطينية  الأولى، والتوسع المستمر للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، واتفاقيات أوسلو التي تم ترتيبها على أساس العلاقات السياسية والديبلوماسية والعسكرية الوثيقة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة والتي لم تحلّ أيّ مطالب فلسطينية أساسية، كالسيادة الوطنية، وإنهاء الاحتلال والاستعمار، وحق العودة للاجئين، واتفاقية بشأن القدس، والحدود المرسومة، وحقوق الأرض والمياه"، وبالتالي كانت تلك الاتفاقيات بمثابة "إعلان حرب أميركي ــ إسرائيلي آخر على الفلسطينيين حظي بموافقة دولية لتعزيز مشروع الحركة الصهيونية".

ترامب والقدس 

يغطي الفصل السادس أربع صفحات من العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة: من رد الفعل العنيف ضد الانتفاضة الثانية، والهجمات العسكرية الإسرائيلية الثلاث على غزة في الأعوام 2008 و2012 و 2014، بحيث إن عدد القتلى الهائل والدمار الكبير للمباني والبنية التحتية نتج من الأسلحة الفتاكة التي قدمتها الولايات المتحدة إلى "إسرائيل".

ثم يتناول المؤلف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني بعد دخول السلطة الفلسطينية، فيقول: "أصبحت الأحوال في الواقع أسوأ بالنسبة للجميع، ما عدا قلّة من الأفراد كانت لهم مصالحهم الاقتصادية أو الشخصية المُتداخلة مع السلطة الفلسطينية فاستفادوا من تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، ثم يشير إلى عدة عوامل أشعلت الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر من عام 2000، "... أبرزها ازدياد سوء أوضاع الفلسطينيين بعد أوسلو، وخيبة الأمل في التوصل إلى دولة، والتنافس الشديد بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس". 

وبشأن دور الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" في عام 2017 يقول: "ظهرت السياسة الكولونيالية الأميركية وارثة لرعاية المشروع الصهيوني ووصلت إلى أقصى تعبيرات الفجاجة، تأييدا وتماهياً مع الصهيونية الاستيطانية معلنة اعترافها بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل"، وهو ما اختصره "ترامب" في جملته الشهيرة "الآن رفَعنا القدس عن طاولة المفاوضات، ولا ينبغي علينا الحديث عنها بعد الآن".

الخاتمة 

يُشكل كتاب "حرب المائة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917-2017"، متابعة أمينة من داخل المجتمع الفلسطيني لتاريخ "الاستعمار الدموي الاستيطاني الإسرائيلي - الأميركي، ومقاومته، ويشكّل فرصة عقلانية للمساءلة والمراجعة حول الواقع المعقد الذي آلت إليه القضية الفلسطينية في مختلف أبعاده وجوانبه بعد قرن من الحرب على الفلسطينيين... بقدر ما يُضيء على صمود الشعب الفلسطيني ومرونته". ومن خلال عرضه يُساعد على الاسترجاع والتثبيت لبعض ما تمت تَنحِيَتُهُ وتَجاهله في التاريخ من جهة أولئك الذين يُسيطِرون على فلسطين التاريخية، ويفضح تداعي السَّردية التي اعتمدوها في سبيلهم لطمس حق الفلسطيني في ارضه.

يمثّل الكتاب خروجاً على أعراف الكتابة في التأريخ الأكاديمي الذي يفهم التاريخ باستقلال عن الذات الباحثة. فالخالدي يرى أنّ الذاكرة الشخصية والعائلية تساعد على سرد وجهة نظر مفقودة ومهمشة عن قصة مقاومة فلسطين ضد استعمارها الاستيطاني، ورؤية ثاقبة في مجال الفهم الجديد في ميدان تدوين العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، ويقّدم الصراع بصورة مغايرة تماماً عن أغلبية الروايات السائدة، مُعتمداً على أرشيف أسرته والقصص التي تنتقل من جيل إلى جيل، بالإضافة إلى تجاربه الشخصية كناشط في مجالات متعددة، وكشخص شارك في المفاوضات بين الجماعات الفلسطينية والإسرائيليين، فسيتذكر أحداثاً شَهدها بنفسه، إلى مواد ووثائق امتلكها وبعض العائلات، بالإضافة إلى شهود عيان متنوعين.

بهذا كان يُعرّي حقيقة تجاهل القوى الدولية الإمبريالية ــ البريطانية والأميركية والغربية عموماً ــ التي تحالفتْ ضدهم، والدور الإجرامي الذي أدّته ولا تزال في بناء عملية الاستعمار الاستيطاني، وينوّه بالمرونة والصمود اللذين أظهرهما شعب فلسطين، والظروف الشاقة بل المستحيلة التي صارعها مما يستحق الإشادة. ولا يفوته التركيز على دور الولايات المتحدة الأميركية في دعم الكيان الصهيوني، بقدر تركيزه على المشروع الاستيطاني الصهيوني ومقاومة الشعب الفلسطيني له.

وفي نقد مرير للدور الرسمي العربي يقول: كان الملوك والرؤساء العرب يتنافسون على التحدث باسم فلسطين، كلّ لغايات خاصة، وبعيداً عن تفعيل أي جهد حقيقي لتحرير فلسطين أو مساعدة الفلسطينيين. فقد كانوا خاضعين للنفوذ البريطاني، حتى إن "جورج مارشال" وزير الخارجية الأميركي بعد الحرب الأولى أشاد بـ"الميول التصالحية" للملك عبد العزيز بن سعود إزاء فلسطين. 

ويستنتج في الختام قائلاً: " إن فشل الضحية وسياساتها الغبية لا يترتب عليه فقدان الضحية عدالة قضيتها".