أفرام نوروف في غزة عام 1834: أهلها ينعمون برغد العيش
في رحلتيه إلى الشرق، زار الكاتب الروسي أفرام نوروف فلسطين وتوقّف في غزة، فكيف وصفها وحكى عن سكانها؟
انتقل الكاتب الروسي، أفرام سيرغيفيتش نوروف (1795-1869) من الجيش إلى السياسة، فعُرف كرجل دولة بعدما شارك في "الحرب الوطنية العظمى" (ضد نابليون) سنة 1812 وحاز على وسام بطل الحرب، ثم تنقّل بين مناصب رسمية في الإمبراطورية الروسية، وغدا وزيراً للتعليم العامّ (1853-1858) ومستشار الإمبراطورة الخاصّ إلى جانب كونه عضواً في مجلس الشيوخ.
يسجّل له أنه بدأ عملية إنشاء أولى المؤسسات التعليمية العامّة للإناث في روسيا بعدما كان التعليم الرسمي حكراً على الذكور، وقد عارض بشدة أنظمة معاهد المعلمين، التي اعتبرها شكلاً من أشكال "الوصاية والتنظيم القسري".
يعتبره الباحثون مؤسس علم الآثار التوراتي الروسي، وقد ترك أعمالاً قيّمة في الرحلات، أهمها "رحلة إلى مصر والنوبة عامي 1834 و1835"، وقد صدر هذا الكتاب في جزئين عام 1840 في سان بطرسبورغ.
في زيارته إلى الديار المقدّسة في المشرق، تجنّب وصف الأماكن التي زارها الحجّاج الآخرون وكتبوا عنها، وحاول ربط آيات من أسفار "العهد القديم" بكلّ مكان يزوره في بلادنا مسترسلاً في قصص تفرّد ببعضها.
زار نوروف فلسطين في رحلتيه إلى الشرق، الأولى سنة 1834 والثانية التي وصفها في كتابه "القدس وسيناء: الرحلة الثانية إلى الشرق" سنة 1861، وصدر بعد وفاته. أما الكتاب الذي سنورد منه مشاهدات نوروف فحمل عنوان "رحلة إلى الأرض المقدّسة عام 1835"، وصدر في سان بطرسبورغ في مجلدين سنة 1838. وهو كتاب نادر جداً اليوم، أرفقه الكاتب بعدد من الرسومات التوضيحية، فحظي بعناية خاصة من رجال الدين الأرثوذكسيين في روسيا القيصرية ولا يزال يشكّل مرجعاً للباحثين.
أرض الفلسطينيين
-
أفرام سيرغيفيتش نوروف (1795-1869)
في طريقه من سيناء إلى القدس، وصل نوروف إلى بلادنا ربيع 1834، يقول بعد تركه العريش راكباً نحو غزة:
"في الثامنة من صباح 26 آذار/مارس، عبرنا من أفريقيا إلى آسيا. ها هي أرض كنعان، الأرض المقدّسة، أمامنا. غمرني شعورٌ لا يوصف بالبهجة. تسلّقت تدريجياً تلالاً رملية ذات نباتات متناثرة، ظهرت خلفها قطعان غنم، يرعاها أطفال عرب. من جانب البحر، ظهرت سلسلة عالية من الرمال العارية، وكانت الحرارة شديدة. بعد ساعتين ونصف الساعة من الركوب، وللمرة الأولى منذ تركنا دمياط، انفتح أمامنا سهل مزروع بالحبوب، مما أظهر التباين في المشهد بينه وبين بوادي البدو التي خلّفناها وراءنا. أول المسافرين الذين قابلناهم كانوا من الحجاج. ركبت فتاة جميلة الطلعة في المقدّمة على حمار، وخلفها جلست امرأتان جنباً إلى جنب فوق جمل تحت مظلة. كانتا ملفوفتين من الرأس إلى أخمص قدميهما برداءين أبيضين. وسار ربّ الأسرة، وهو رجل عجوز، في الخلف وبيده عصا. "إلى أين تذهب هذه الأسرة عبر البوادي والصحاري.. أإلى نور الحقيقة؟"، سألت نفسي مع تنهّد عميق. بعد ذلك، مررنا بقرية بين الجبال، تُزرع فيها أفضل المحاصيل. وبعد رحلة استغرقت 3 ساعات ونصف الساعة من العريش، دخلنا وادياً حيث رأيتُ عمودين رخاميين مكسورين وبئرين حجريتين، إحداهما قديمة جداً. كانت قطعان الإبل تجوب قمم الجبال، وفي الأسفل، إلى جوار البرك التي تجمع فيها ماء المطر، توقّفنا للاستراحة نحو ساعة...".
وعن وصوله إلى رفح، يضيف نوروف: "باتت الطريق من هنا أكثر استواءً وخضرة. بعد 3 ساعات من السير، يظهر البحر. وتوجد عدة سهول مزروعة. وبعد ساعة، يظهر عمودان منعزلان يقفان على تل. هذه هي بقايا مدينة رفح القديمة. قبل الوصول إليهما بقليل، يوجد عمود آخر إلى جانب الطريق. هذه هي المدينة الأولى في سوريا المجوّفة على الطريق من مصر.. رسمتُ مشهد رفح. عند النزول من التل، يمكن رؤية بئر قديمة عميقة في الوادي، لم تجف حتى الآن، وثلاثة أعمدة مقلوبة، من الرخام الرمادي مثل الأعمدة المنتصبة، تشكّل مثلّثاً، وأحدها كبير جداً. من رفح تبدأ أرض الفلسطينيين، على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. أما البوادي التي تمتد إلى الجنوب الشرقي فتنتمي إلى شبه الجزيرة العربية...".
بساتين على مدّ النظر
-
غلاف كتاب "رحلة إلى الأراضي المقدّسة" في عام 1835
يحشو نوروف نصّه بالاقتباسات التوراتية، مما يؤخذ عليه، حيث أراد تطويع كلّ معلم يصادفه في طريقه ليتلاءم مع موروثات "العهد القديم"، لكن يمكننا أن نأخذ بمشاهداته الشخصية التي دوّنها، يتابع مساره من رفح، ويقول: "هنا الطريق أكثر جبلية ورملية، وهي شاقة في الحرارة. المسافة من رفح إلى خان يونس أقل من ساعتين. وخان يونس هي يينيسوس التي تفرّد هيرودوتس بذكرها. إنها بلدة مهمة إلى حد ما، محصّنة ببرج وأسوار. وهي تقع على مرتفع فوق وادٍ. تنتشر حولها البساتين والحدائق الخضراء المحاطة بسياج من الصبار (التين الشوكي) بدلاً من الأسوار الحجرية، وقد لفتت خضرتها انتباهنا بعد سيناء الصحراوية التي مررنا بها. عندما اقترب نابليون من خان يونس مع فرقة صغيرة من جنوده كاد هنا أن يقع أسيراً في أيدي العرب. من هنا يمكن أن نشاهد على مدّ النظر حقولاً خضراء مزروعة... على بعد ساعة من خان يونس، تنتهي سلسلة التلال الرملية الساحلية؛ وتبدأ التربة الغنية الصالحة للزراعة وتليها سهول واسعة مزروعة، تنتشر فيها أشجار التين العربي.
قبل نحو 3 ساعات من الوصول إلى غزة، يمكن رؤية قرية دير البلح على شاطئ البحر وسط بستان النخيل... وهناك عملات معدنية صكّت في هذه المدينة تعود إلى عهد كاراكلا (الأمبراطور الروماني الذي حكم من سنة 211 إلى 217 م.) تظهر غزة قبل الوصول إليها بساعتين وهي تقع على مرتفع. عبرنا مجرى نهر جاف عميق يسمّى وادي غازي (غزة)، يمرّ عبره جسر حجري قديم البناء ذو عدة أقواس. كان يصبّ في البحر جنوب غزة. بالقرب من مدينة غزة نفسها، من جهة البحر، تظهر مرة أخرى سلسلة من التلال الرملية، وتصل بساتين المدينة إليها. إلى اليمين تلتصق بغزة بلدة كبيرة لا تقل في مظهرها عن المدينة نفسها، ومقابلها جبل مرتفع إلى حد ما تظهر عليه أطلال ومسجد...".
في غزة: بساتين مزهرة وسهول وبحر لامتناهي
-
مدينة غزة بريشة الفنانين الروسيين الأخوين غريغوري ونيكانور تشيرنيتسوف سنة 1842
دخل نوروف مع القافلة المرافقة له ووصف ما رآه قائلاً: "دخلنا غزة عبر بوابة ذات أعمدة جانبية حجرية فقط، ويمكن رؤية الأماكن التي كانت فيها أعمدة الحواجز. لم أعرف إلى أين أذهب، فتوجّهت إلى الكنيسة اليونانية، وأرسلت الفرمان الذي بحوزتي إلى المتسلّم (موظف رسمي عثماني، رئيس الناحية). بقيت مع قافلتي نحو ساعة في فناء الكنيسة وتمكّنت من مشاهدة هذه الكنيسة الأثرية. في وسطها يوجد مغطس رخامي. أحاطت حشود من العرب المسيحيين بقافلتنا. كانت ملابسهم جميلة جداً وفاخرة، وكان الرضا بادياً على وجوههم. بعد مشاهدة الفقر والإرهاق المنتشرين في كلّ مكان في مصر، كان من المريح رؤية أشخاص يتمتعون بخيرات الحياة ورغد العيش هنا. تجدر الإشارة إلى أنّ ساحة فناء الكنيسة كلها مرصوفة بألواح رخامية. علمت لاحقاً أنّ هذا الرخام أخذ من معبد الإلهة السورية مارنا.
جاء حارس المتسلّم إليّ ودعاني للانتقال إلى منزل سيده. كان هذا المنزل في الماضي قصراً لعمّال الخلفاء المسلمين، وهو ذو طراز معماري عربي خالص. جميع جدرانه الخارجية مغطاة بالرخام الملوّن، وفيها زخرفات رائعة، وتزيّن الجدران نقوش من آيات القرآن، ليس الجدران فحسب بل كذلك الأبواب والنوافذ. ولكنه بات في حالة من الإهمال. ففي الغرف، استبدل السجّاد بحصر الخوص، وملأت الحجارة آبار المياه... وفي غزة تمكّنا من رؤية مشاهد رائعة أخرى في المساجد والحمامات. كما أنّ بقايا الجسور الرخامية والأعمدة القديمة دخلت في بناء المنازل الحديثة".
ويضيف في موضع آخر "تقع غزة الحالية حيث كانت القلعة في السابق. وقد شغلت المدينة القديمة مساحة شاسعة، وباتت تضمّ تلك البلدة الكبيرة التي رأيناها قبل دخولنا المدينة. يبلغ عدد سكانها نحو 3 آلاف نسمة. تتقاطع فيها طرق القوافل بين سوريا ومصر، ما يوفّر لسكانها الكثير من النشاط. تبادلنا الزيارات مع المتسلّم، الذي لم يتخذ من القصر المذكور مسكناً له بل وضعه تحت تصرّفي الكامل.
قضيت معظم الوقت على شرفة القصر التي تطلّ على المدينة بأكملها والمناطق المحيطة بها. كانت الحدائق والبساتين المزهرة، والسهول والبحر اللامتناهي، وأكوام الجبال الزرق الداكنة تتناوب أمام عيني. استيقظت في الصباح الباكر، ورأيت الشمس تشرق من وراء الجبال، أي من ناحية القدس، فوجّهت صلواتي الصباحية إلى حيث كانت تشرق الشمس التي لا تغيب. عندما ودّعنا متسلّم غزة، أصرّ على أن أترك له مذكّرة أعبّر فيها عن رضاي عن استقباله.
طلب منا البدو الذين رافقونا من مصر، أن نسمح لهم بمغادرة غزة على وجه السرعة ليعودوا إلى باديتهم. فقد كانوا يخشون أن تحتجز السلطات جمالهم لاستخدامها في عمليات نقل تابعة للحكومة. وهنا في غزة، انتهت الرحلة على ظهور الجمال. شكرنا هذه الحيوانات الضخمة الطيبة، استبدلناها بفرح بخيول سورية نشيطة وغادرنا غزة عند الساعة العاشرة صباحاً".