"وادي الحوارث"... كيف احتل الصهاينة فلسطين بدعم بريطاني؟
تقوم رواية "وادي الحوارث" على طرفي معادلة المواجهة بين أهالي القرية الذين جُرِّدوا مما يمتلكونه من قوة وبين الإسرائيليين المهاجرين الوافدين المدعومين بإسناد بريطاني.
أعتزّ كثيراً، وأفتخر بأنني تابعت الروائي الفلسطيني توفيق فياض، وهو أحد أهم أعمدة السرد الروائي العربي. لقد تابعت إصداراته الروائية والقصصية والمسرحية، منذ أعماله الإبداعية الأولى، وفرحت بها لأنها استطاعت أن تكتب الوقائع والأحلام الفلسطينية بروح فنية مدهشة وساحرة، فهي تماشي التاريخ الفلسطيني منذ عام النكبة 1948، وما فيه من أحداث، حتى هذه الأيام، بعد أن صار الوعي الفلسطيني جبهة عصية على التحييد والمحو والتشويه، مثلما صار الأدب الفلسطيني وثيقة وطنية يقدمها الإبداع بما يرومه من تصوير للأمكنة والدفاع عنها وحراستها، ومن تظهير للقيم النبيلة، والحذق الفني، في آن واحد.
هنا، أقف عند رواية توفيق الفياض "وادي الحوارث"، الصادرة حديثا عن دار العربية في تونس، والتي يجلو فيها الصراع الشرس والمر مع المهاجرين الإسرائيليين الوافدين على البلاد الفلسطينية من معظم أصقاع العالم قبل عام النكبة 1948، وعبر طرق ومنافذ سرية وغير مشروعة إن لم تكن شيطانية، وبدعم وتسهيلات غربية، وتبريرات واهية لا صدقية لها على الإطلاق، فلقد دخل معظم المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وطوال وقت الانتداب البريطاني تحت مسمى "رخصة عمل"، أو التنقيب عن الآثار، ومعرفة النباتات، ودراسة حال المجتمع الفلسطيني، وكانت مرجعيات هؤلاء المهاجرين مؤسسات وهيئات دولية زودتهم بمثل هذه الوثائق كي يستوطنوا في البلاد الفلسطينية، واعتمدتهم من أجل تلك الغايات، لكن أحداً منهم لم يعد إلى البلاد التي هاجر منها، لأنّ الغاية الحقيقية لهم جميعاً كانت الهجرة إلى البلاد الفلسطينية للاستيطان فيها تحت ما سمي بالعودة إلى أرض الميعاد.
رواية توفيق فياض "وادي الحوارث" هي واحدة من روايات أدب النكبة، التي أوقفت شواغلها كلها لتتبع آثار الظلم الذي وقع على الفلسطينيين بسبب تهجيرهم من قراهم ومدنهم، وتوطين الإسرائيليين المهاجرين في أمكنتهم، والاستيلاء على أرضهم وأملاكهم، وهذا ما عرف بـ"القرى الفلسطينية المهجّرة".
"وادي الحوارث" رواية تسرد الأحداث التي جرت، والوقائع المؤلمة التي تجلّت عن رحلة العذاب والاعتقال والطرد التي عرفها أهالي قرية فلسطينية اسمها المحرم، واقعة في الجليل الفلسطيني، وتابعة إدارياً لمدينة عكا، وما كابده الأهالي من مواجهات عنيفة مع الإسرائيليين الذين راحوا يبنون إحدى مستوطناتهم قرب القرية، ثم محاولاتهم طرد الأهالي والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، وتم لهم هذا الأمر بدعم من قوات الاحتلال البريطاني.
تقوم الرواية على طرفي معادلة المواجهة بين أهالي القرية الذين جُرِّدوا مما يمتلكونه من قوة، وبين الإسرائيليين المهاجرين الوافدين المدعومين بإسناد بريطاني، له شقان، الأول هو الجيش البريطاني، والثاني هو الشرطة البريطانية، وكلاهما كان أهل قسوة وبطش وحيف وظلم للفلسطينيين، وأهل لين وإسناد ومساعدة لليهود، من أجل إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، عبر الادعاء أنّ هذه الأراضي هي أملاك عثمانية (جفتلك) غير مسجلة بأسماء أشخاص أو عائلات فلسطينية.
ثلاثة أقانيم تقوم عليها هذه الرواية، أولها: الفلسطينيون، أهل قرية المحرم. ثانيها: الإسرائيليون المهاجرون إلى البلاد الفلسطينية، وثالثها: الجانب الإنكليزي الذي اتخذ موقع الوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ عام 1917 حتى عام 1948، فكان الظالم والقاتل والسجان والطارد للفلسطينيين من قراهم ومدنهم من جهة، والأب الراعي للمهاجرين الإسرائيليين، والعين الساهرة كي لا تقاوَم المستوطنات الإسرائيلية، وحتى تنتشر وتعم الأراضي الفلسطينية من جهة ثانية.
تصوّر رواية "وادي الحوارث" إرغام الجيش الإنكليزي أهالي قرية المحرم على ترك بيوتهم وأراضيهم بالقوة، ونقلهم بوساطة سيارات الجيش الإنكليزي إلى مناطق أخرى، ومنها منطقة مرج بني عامر، ومنطقة غور بيسان، وتسليم بيوت القرية وحقولها إلى المهاجرين الإسرائيليين، الذين وفدوا إلى البلاد الفلسطينية عن طريق البحر من بولونيا. ولأن لا أحد من أهالي القرية يقبل مثل هذا الظلم، فإن القتل، والاعتقال، والسَجن، طالت رجالها وشبانها وشيوخها ونساءها. وهنا تقف الرواية عند وجوه المواجهة وأحداثها المتوالية بين قوات الجيش الإنكليزي والمهاجرين الإسرائيليين من جهة، وبين شبان القرية ورجالها وشيوخها ونسائها من جهة أخرى، وبذلك تتجلى المعادلة في ثنائية غير متكافئة، الأمر الذي أدى، بعد محاولات، إلى تنفيذ فعل الإرغام الإنكليزي بالقوة الباطشة، بعد مقاومة صلدة راح ضحيتها شهداء وجرحى ومعتقلون وفارون من الظلم الإنكليزي. وهنا تبدي لنا الرواية ما يقوم به رجال القرية وشبانها (عيسى، وعمر، وعواد، وسليم، ومحمود، والأم عائشة) من أفعال مقاوِمة لاسترداد القرية، وطرد المستوطنين منها، وما يقومون به من فعل جماعي، وتعاون وطني، وتضحية بالأجساد من أجل الظفر بالكرامة والمحافظة عليها، مثلما تتجلى لنا الحماسة في إيقاد شعلة النضال التي أصبحت قرية المحرم، بفضلها، محرَّمة على المستوطنين ليلاً بسبب خوفهم من أهلها، ولا يعودون إليها إلا بحماية الشرطة الإنكليزية نهاراً.
ولم تكن المقاومة الفلسطينية، التي تبنّاها أهالي قرية المحرم طريقاً للعودة إلى قريتهم وأراضيهم، بصورة إفرادية، ولا وحيدة، وإنما كانت مقاومة جماعية، شكلت جبهة فلسطينية مقاومة شملت قرى ومدناً فلسطينية متعددة، وهذا ما أدى إلى التحاق المهاجرين الإسرائيليين الجدد بمستوطنات أخرى بعيدة ومحروسة من الجيش الإنكليزي. إنّ عودة أهالي قرية المحرم في وادي الحوارث إليها، ليلاً أول الأمر، بث الرعب والخوف في نفوس المهاجرين الإسرائيليين، فما عادوا يتجاسرون على العودة إليها نهاراً إلا وهم بحراسة الشرطة الإنكليزية، ثم عاد الأهالي إليها، فعادت القرية إلى حياتها الطبيعية.
وفي رواية "وادي الحوارث"، عبر مشاهد متلاحقة، يجول بنا المؤلف توفيق فياض في فضاء تاريخي يسلط الضوء فيه على ثقافة الاستعمار الواحدة في سلوكها ورغباتها. فما فعله ضباط الجيش الإنكليزي بالأهالي في القرى والمدن الفلسطينية، خلال فترة الانتداب، من أجل تهجيرهم، هو الفعل العدواني المتوحش الذي راح المستوطنون الإسرائيليون يقومون به لاحقاً، حين أرغموا أهالي كثير من القرى الفلسطينية على الهجرة والتشرد من مكان إلى آخر. ويصور القوة الباطشة من قتل، واعتقال، وتشريد، ونسف للبيوت. فالاستعمار واحد، وثقافته واحدة، وممارساته واحدة، أما في المقابل فكانت المقاومة الفلسطينية، والتشبث بالأرض، ومناهضة ممارسات الإسرائيليين ومواجهتها استمراراً لمقاومة بدأها الفلسطينيون منذ اللحظات الأولى لإعلان وعد بلفور عام 1917.
توفيق فياض يكتب رواية مهمة عن كفاح أهالي وادي الحوارث وهم يدافعون عن قريتهم المحرم، وعن أراضيهم وحقولهم وأمنهم وحريتهم في الوطن الفلسطيني، كما أنه يكتب رواية مدهشة تتجلى فيها تقاليد حداثة السرد، التي استفادت كثيراً من التراسل الفني بين الآداب والفنون الإنسانية، ولاسيما تقنية "المضايفة"، وتقاطر المشاهد التي يجلو بعضُها بعضَها الآخر بالمعاني، والتي تترادف من أجل الوصول إلى الاختتام السامي. رواية اعتمدت خاصية الاقتصاد اللغوي، والبعد عن التفاصيل الثانوية، طلباً للرشاقة السردية. ولهذا، فإن حرارة السرد واندفاعه تجلّيا في تأبيد لحظات المقاومة والمواجهة المرتكزة على ثنائية الحق والباطل، والعدالة والظلم، والنصر والهزيمة. وسرت الأحداث عبر جمل سريعة دالة وموحية، وعبر علامات راشدة: بين الناس والمكان، وبين المكان وتاريخه الاجتماعي، وبين البيوت وظلالها، والبيوت وأشجارها ونباتاتها، عبر صور مبهرة يظن المرء أنها المجاز أو تكاد، لكنها صور واقعية للأفعال الفلسطينية حين تصير المقاومة، كتاباً ودرباً، جوهراً للحياة ومعنى لا تفارقه القداسة.