"مخاض" ميراي مرهج في قلب بيروت

بعيداً من الفوضى العشوائية، يُقدّم معرض ميراي مرهج في بيروت فوضى منظمة تختزل آلام لبنان وأحلامه في 24 لوحة ومنحوتة، تتحاور فيها أعلام الدول وأصوات الحرب مع بصيص الأمل المُعلَّق على شجرة الأرز.

  • لوحة للفنانة ميراي مرهج
    لوحة للفنانة ميراي مرهج

"حين رأيتُ الحرب على غزة ثم على لبنان، تدمَّرت نفسيتي... فجئتُ إلى الرسم لأُشفى"، ميراي مرهج.

**

حيوية بيروت الثقافية من أبرز مقومات صمود هذه العاصمة ومقاومتها للموت والخراب. فمعنى بيروت كعاصمة لوطن هو لبنان، معنى ثقافي بالدرجة الأولى. والبرهان أنه كلما اشتدّت الأزمات وتفاقمت كلما كثرت المساحات الثقافية فيها، مسرحاً ورسماً وشعراً وأمسيات متنوعة، كأن العصب الإبداعي هو الذي يُبقي هذه المدينة قادرة على الوقوف في وجه العواصف والرياح العاتية.

بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة والمدمرة على لبنان، وفي ظل العدوان المتمادي عبر الخروقات والاغتيالات، تبدو بيروت التي كانت أول عاصمة عربية تطرد المحتل بلا قيد أو شرط، وكأنها أكثر إصراراً على مقاومة الموت وانتصاراً للحياة، حيث تكتظ مسارحها ومعارضها بأشكال وألوان من العروض والمعارض.

في غاليري "مايا آرت سبايس" (Maya Art Space)خلف بلدية بيروت، يُفتح باب العالم الداخلي للفنانة ميراي مرهج عبر معرضها "مخاض" (15 نيسان/أبريل - 6 حزيران/يونيو 2025). بعيداً من الفوضى العشوائية، يُقدّم المعرض فوضى منظمة تختزل آلام لبنان وأحلامه في 24 لوحة ومنحوتة، تتحاور فيها أعلام الدول وأصوات الحرب مع بصيص الأمل المُعلَّق على شجرة الأرز. 

اختارت مرهج عنوان "مخاض" ليعكس لحظة الانتقال من الألم إلى الولادة الجديدة. وكما تقول: "المخاض هو وجع الأم قبيل الوِلادة، وهو ما يعيشه وطننا اليوم". هنا تُحوِّل الفنانة الفوضى السياسية والاجتماعية إلى استعارةٍ جمالية: فالألم ليس نهاية، بل مقدمة لحياة جديدة يعلنها العلم اللبناني الذي يرتفع دوماً فوق أعلام القوى المتصارعة في لوحاتها. 

في إحدى أبرز لوحات المعرض، يُسجَّى إنسان معذَّبٌ على قارعة طريق، مُغطّىً بأعلام دول عدّة إقليمية ودولية فضلاً عن علم الأمم المتحدة. الجسد هنا هو جسد لبنان المُلقَى على "قارعة الأمم" كما كتب الإعلامي الصديق منير الحافي. لكن، وسط هذا المشهد، يظل العلم اللبناني مُرتفعاً كشاهدٍ على الهوية الرافضة للابتلاع. 

تمزج مرهج بين أسلوب "البوب آرت" الحيوي وتقنية "الكولاج" لخلق طبقات من الدلالات: "الكرسي الفارغ" مثلاً كرسي الحُكم يجلس عليه شخص بلا رأس، يرمز إلى فراغ السُلطة الذي طال انتظاره قبل انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية.

رغم أنّ المعرض يستحضر أشباح الحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، فإنه يرفض الاستسلام للسواد. الألوان الحمراء والصفراء الزاهية التي تفيض بها اللوحات تُذكِّرنا بأن مرهج "متفائلة بطبعها". حتى في لوحة "الرجل المرمي على الطريق" – الذي يلتحف أعلاماً بدلاً من الغطاء – تظل العين الثالثة مفتوحة على عالم قد يولد من رحم هذه الفوضى. 

في أكثر من لوحة، تظهر شخصيات بـ"ثلاث عيون" كتوقيعٍ بصريٍّ للمعرض. هذه العين الإضافية ليست تشوُّهاً، بل نافذة رمزية تُجسِّد رؤية مرهج الثاقبة للواقع اللبناني. كما توضّح: "العينان الطبيعيتان ترى الخراب، أما الثالثة فتبحث عن الجمال المختبئ تحت الأنقاض". هنا يتحوّل الفن إلى فعل مقاومة وجودية: تشريح للفوضى بمنظار يلتقط بذور الأمل في شظايا الحرب، من خلال تفاصيل كزهرةٍ تنبت بين الإسمنت أو ابتسامة طفلٍ مرسومة تحت العلم الممزق. 

لا يمكن فصل أسلوب مرهج اللوني عن جذورها في بلدتها "ضهور الشوير". الأصباغ الحمراء الفاتحة، والأصفر الذهبي، والأخضر الزمردي – المستوحاة من طبيعة جبل لبنان – تُشكِّل تناقضاً مُتعمَّداً مع القسوة التي تصوِّرها اللوحات. 

هذا التضادّ الجريء، كما تؤكد، هو "محاولة لخلق توازنٍ نفسي". فالألوان الزاهية تشبه ضمادات مشرقة على جرح نازف، تمنح المتلقّي مساحة للتنفُّس وسط الصدمة. إنها استراتيجية فنية تُذكّرنا بأن الجمال قد يكون درعاً ضدّ اليأس، خاصة في لوحة "شجرة الأرز" التي تتوهّج خضرتها كأنها تنبض بالحياة رغم سُحب الدخان المحيطة بها. 

معرض "مخاض" ليس شهادة على الموت، بل احتفاء بإرادة الحياة. حين تُعلِّق ميراي علمَ لبنان فوق كل الأعلام، فهي تُعلن أن الفوضى ليست نهاية التاريخ. وكما تقول: "الـDNA الخاص بنا يُعيدنا دائماً إلى هنا". ربما يكون هذا المعرض هو دليل آخر على أن الفنّ قد يكون أعمق أسلحة المقاومة ضد العدوان والموت والخراب والدمار. كما يُذكِّرنا بأنّ الفنّ ليس ترفاً في زمن الحرب، بل هو صرخة تُحوِّل الفوضى إلى أمل قابل للرؤية. 

معرض "مخاض" ليس شهادةً على الموت، بل احتفاء بإرادة الحياة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك