"قناع بلون السماء" من روائع أدب الأسرى الفلسطيني
هذه الرواية "قناع بلون السماء" كُتبت في السجن الإسرائيلي لتقول إنّ الحياة ظلمة وعتمة وعذاب ونار شاوية في ظلّ الظلم الإسرائيلي، ليس في سجونه فحسب، وإنما أيضاً في مواجهته عبر ثنائيات الديمومة والزوال، والثابت والمتحول.
يظن الظانّون أنّ الرواية حكاية أو هي اجتماع حكايات وكفى، وغايتها التجزئة وتجميل الواقع المعيش الذي أحاطت به همومٌ ثقال، وعرَّشت فوقه أحلامٌ أبتْ أن تصيرَ واقعاً. لكنّ َهذا القول وطيوفَه الكثيرة، ليست سوى قولٍ عجول، باحت به مفاعيلُ الظنة، لأنّ إدارةَ الظهرِ للواقع لا تعني تغييرَه، والوقوعَ في مربّعِ التسليةِ هو وقوعٌ في مربّع الهروبِ المجاني الذي لا يمحو همّاً، ولا يحقّقُ حلماً. وكلُّ الذين كتبوا الروايةَ، منذ بدايات ازدهار هذا الفنِّ الأدبي، إلى يوم الناسِ هذا، ما راموا كتابةَ الحكايةِ، بسبب جمالها أو نفاستِها أو طرافتها، أو لتكونَ تسليةً أوتفلّتاً من المواجهة أو تفادياً لارتطامٍ محتّم، وإنما كتبوا الروايةَ كي يقولوا الكثيرَ عبرَ الحكاية، وعبر الحوار، وعبر المرايا المتقابلة، وعبر الثنائياتِ التي يمحو بعضُها بعضاً، بسبب هدفٍ سامٍ، يعني، في كل جولانِه وتعبه الجميل، التغيير، تغييرَ الحال، وتغيير القناعات، ومن بعدُ تغيير المسارات.
أقول هذا، لأنّ خلقاً كثرة، من القرّائين، ازورّوا عن قراءة الرواية ذات المرجعيات الجليّة الظاهرة الواضحة في عناوينها، أو عتباتها، أو الظاهرة في موضوعاتها، أو الظاهرة في رسوم أغلفتها، كأن تتحدّث عن الفداء والبطولة، أو الشهادة ومعانيها، أو السجن وعذاباته، أو التاريخ وأحداثه، أو الأعلام وسيرهم. إنهم، أعني بعض القراء، يزورّون عن هذه الروايات بسبب مرجعياتها التي يظنون أنهم يعرفونها تفصيلاً تفصيلاً، والتي يظنون أنها خالية من الحكاية، والدهشة، والأسرار والمتعة، والجاذبية، وأنها، وهنا العطب، غير قادرة على المضايفة، لا المضايفة المعرفية، ولا المضايفة الجمالية، وهذا كلام، أو انطباع، أو حدس، أو وهم رمته بعيداً، وبلا شفقة،رواياتٌ مثل: الحرب والسلم، ومدام بوفاري، والشيخ والبحر، والفراشة، ولمن تقرع الأجراس، وصمت البحر. فكل هذه الروايات كانت مرجعياتها جلية، وظاهرة، وكلها كانت محتشدة بالحكايات، حتى الإلياذة، وهي سيرة حرب، كانت رواية سارة، ومليئة بالخبريات والحكايات والأسرار، ولم أسمع أحداً من أهل النقد المعرفي، قال عن تلك الروايات أو السرديات: إنها أعمال مكشوفة، وبلا أسرار، لأنّ مرجعياتها واضحة وجلية. لقد ذهب القراؤون إليها طلباً للمضايفة المعرفية والجمالية، وطلباً للأسرار، لا طلباً لإحصاء عدد القتلى والجرحى، وتعداد أسماء أمكنة المواجهات.
نحيط هنا برواية "قناع بلون السماء" للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، نبحث عن المضايفة المعرفية والمضايفة الجمالية لأدب تكتبه الموهبة لا المرجعيات، ولأدب يتدفق سرداً رقراقاً مثل نهر عزيز. والوسيلة هنا هي الحكاية الوازنة متعددة الأمكنة، والشخوص، والأصوات، والأزمنة، والأحوال، والهموم، والأحلام، والتأويلات. أما المرجعية فهي البيت بجدرانه، وسقوفه، وأدراجه، ونوافذه، وأبوابه، وعتباته، وشتوله، وازهاره، وأشجاره،وما يجول فيه من آهات تجهر بالألم، ومن آهات أخرى تصرخ الأحلام كي تؤوب من ركضها المحموم في عالم الوهم، عالم الغيوم.. كي تقر، وكي ترى..وتعاش، وكي تلمس باليدين.
هذه الرواية "قناع بلون السماء" كُتبت في السجن الإسرائيلي لتقول إنّ الحياة ظلمة وعتمة وعذاب ونار شاوية في ظلّ الظلم الإسرائيلي، ليس في سجونه فحسب، وإنما أيضاً في مواجهته عبر ثنائيات الديمومة والزوال، والثابت والمتحول، والأصيل والدخيل، والمعنى واللامعنى، والنبيل والسفيه، والمتجذّر والقشري، والسيف والدم، والمنتصر والمهزوم.
هذه رواية لباسم خندقجي، ابن نابلس، الطالب الجامعي الذي يودّع سنته الأخيرة في جامعة النجاح الوطنية، كي يذهب إلى السجن ليُحكم هناك ثلاثة مؤبّدات، كل مؤبّد منها سنواته تسع وتسعون سنة، ناهيك عما يلحق بها من سنوات سجن أخرى مقترحة كعقوبات تُفرَض مجدداً لأنّ لعنة السجن ولّادة وجهوم من جهة، ولأنّ لهاة الأسير، على رغم كل ما مر به من أذى، ما زالت قادرة على المناداة: بلادي، بلادي.
باسم خندقجي من مواليد 1983، عاش طفولته محدقاً في مرآة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، فرأى الدم يسرح ويمرح في القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، ورأى والده يؤخذ إلى السجن لأنه أحد ابطالها، ورأى المقابر تتباهى بسكانها الجدد الذين ما زال نشيد: موطني، موطني،يصدح بين شفاههم المشقوقة عن ضوء لا يحاكيه سوى ضوء أشجار اللوز. وحين صار باسم فتى، تعلّم أبجديات السياسة في تنظيم قال: إنّ حرية الشعوب هي أجمل الرايات، وأنبل الأعمال، وأعز ما يفاخر فيه الزمن.
هذه الرواية تنتمي إلى عالم الرواية المهمومة بالبحث، فهي رواية بحث تستند إلى مرتكزات متعددة، منها التاريخ، والآثار، والأفكار، والعقائد، وما يرويه العقل الجمعي عن الأمكنة والأزمنة، وما تسعى له العادات والتقاليد والأعراف والتصورات من أفعال وجماليات تبديها الأعمدة والقناطر والجسور وضفاف الأنهار، والحقول ومعاصر الزيت، والطواحين،والأسواق، والقرى، والمدن، والمعابد، والأديرة التي غدت كتاباً ثقيلاً بطبقاته المدهشة، التي تشبه الطبقات الجيولوجية للأرض.
في الرواية بحث في دلالات الحكايات المتنوعة، والمتعددة، والمتباينة، والمتشابهة، والمؤيدة، وغير المؤيدة، لما دار بشأن الصراع على الأرض والهوية والمكانة والحضور والمواطنة بين اثنين، هما الفلسطيني والإسرائيلي، وبشأن التاريخ، والعقائد، والمرويات، والقناعات التي غدت أشبه بالمسلّمات، مثل علاقة مريم المجدلية بسيدنا المسيح،عليه السلام، وما حاوفها من تقولات،ومضايفات، وتذييلات، وتعقيبات، أو قل ما قفز عنه التدوين، أو غفل عنه سهواً أو عمداً. وكل هذه التعقيدات أرادت الحط من المعنى النبيل ودوسه أيضاً، أو أرادت طمس الحقيقة، وبناء سردية جديدة لتثبيت أركان حال جديدة أيضاً.
فيهذه الرواية "قناع بلون السماء" بحث أصيل عن الجذري الذي تمثّله القرى والمدن، والدروب، والحقول، والغدران، والأودية، والأنهار، والجبال، والقناطر، والأسوار، والعقائد، والكتب، والعادات، والتقاليد، والمواسم، والأعياد..التي تقول قولة واحدة: أنا الحياة، وبحث آخر يقابله مواجهة عن الجذامير القشرية ذات الامتدادات الأفقية التي استطاعت القوة، بأشكالها وصورها المتعددة، من البارود إلى المال، أن تبدي صورتها الرجراجة المائلة الدائخة الخائفة من الجهر بالحق، عفواً، الخائفة من دنو ساعة الحق الدقاقة منذ 76 عاماً في البلاد الفلسطينية العزيزة.
وفي الرواية أيضاً بحث جاد عن أساسات القناعة الأصيلة، وما يقابلها من بحث عن أساسات غائبة لتوكيد قناعة متباينة عنها تماماً، والوقوف على مكنونات القوة لهذه، وتلك. وفي الرواية بحث لغوي عن الأدوار التي يؤديها الوجه الحقيقي، والسردية الحقيقية، وإن أغلقت أمامهما الدروب أو سدّت، أو إن خابت مرامي المرتجي لهما، أو خُرّب نسيجها. وفي المقابل الوجه القناع المزيّف المتبدّل أمام كل حال وموقف، وإن فتحت الدروب أمام حامله، أو كثرت الأقاويل والتوكيدات المساندة له بالمديح والثناء، ثم النظر في ثقافة الوجه الحقيقي، والقناع المزيف للمفاضلة بين الضحى والغبش.
حكاية رواية "قناع بلون السماء" حكايات تتلاقى مثل دوائر الضوء، منها حكاية المجدلية وسيدنا المسيح، عليه السلام، وتعدد ما قيل فيها، ومنها حكاية الوهم الطفوح القائم على البحث في الكتب، والحفريات المعرفية، من الوصول إلى أثر سند، أو عن أثر مرجع حتى لو كان قطعة نقد لها تاريخ أو رمز، ومنها أيضاً حكاية اجتماع الأسئلة والهواجس والمخاوف والآمال الدائرة بين أم عدلي/ الأم، وابنها مراد السجين المحكوم عليه بثلاثة مؤبدات. ومنها حكاية المعطف القديم الذي اشتراه نور، بطل الرواية،من دكان الملابس العتيقة في السوق المظللة بالعتمة الخفيفة، والهوية الزرقاء الإسرائيلية التي وجدها في جيب المعطف باسم "أور شابيرا"، والتي ستصير قناعاً له يخوله إنشاء علاقات بالإسرائيليين، واجتياز نقاط المراقبة والحواجز ودخول جميع الأماكن والمؤسسات وحضور الندوات والمحاضرات. ومن حكايات الرواية أيضاً حكاية المخيم كمكان، وزمان، وبشر، وعادات، وتقاليد،ولعل أهمها دخول الإسرائيلي للمخيم وخروجه منه من أجل مزيد من الظلم، والدم، ونشر الخوف، والاعتقال، كيما يصير الحزن حكاية بيوت المخيم، والخبر الطالع فيه دوماً. ومن حكايات الرواية تلك الصورة بادية التضاد بين سماء إسماعيل، الفلسطينية بنت مدينة حيفا، طالبة الدورات العليا في الآثار، وإيالا شرعبي،البنت الإسرائيلية المتخصصة بالتاريخ، واجتمعت الإثنتان في فريق واحد يبحث عن آثار الفيلق الروماني السادس في مستوطنة "هعميق" الإسرائيلية التي أقيمت فوق أراضي بلدة اللجون الفلسطينية. وسبب التقابلية والتضاد بين سماء إسماعيل وإيالا شرعابي هو سبب التقابلية والمواجهة والتضاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين بصورة عامة. وفي الرواية حكاية في غاية من الأهمية هي حكاية البيئات التي تعيشها شخوص الرواية، ومنها بيئة القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية من جهة، وبيئة المستوطنات الإسرائيلية، حتى لو كانت تسميتها شائعة بأنها بلدات أو قرى أو مدن،من جهة أخرى. تلك البيئات، عبر صورها، وسلوك البشر الذين يعيشون فيها، هي بيئات كاشفة لثنائية الهيمنة والتدجين، وثنائية السيد والعبد، وثنائية المقبول والمرفوض، وثنائية المتبوع والتابع. والأهم هنا، في هذه البيئات، هو تمظهرات صور مفاعيل القوة وآثارها، وصور مفاعيل ثقافة الإخافة وانتشارها، والإيمان المطلق بمواجهة الإسرائيلي داخل القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، لأنه محتل وغريب. ومن حكايات الرواية المهمة أيضاً، حكاية التقابلية بين نور، ابن المخيم الفلسطيني، وأور،الأشكنازي صاحب الهوية الزرقاء التي عثر نور عليها في جيب المعطف، وما دار بينهما من حوار شديد الأهمية بشأن كل شيء يبدي التضاد بين الفلسطيني والإسرائيلي، وحالات التهور والعصف والمكاشفة والتضحية لتجلية الحقيقة على الرغم من معرفة ما في النقاش من مخاوف وكواره رابخة.
هذه رواية صعبة وتحتاج إلى تعب حقيقي للإحاطة بما فيها من أمكنة وأزمنة وحوارات وغايات وأحلام، لأنها أرادت أن تكون رواية بحث، وجدل، وعصف لتاريخ عمره قرن من الزمان وأزيد؛ تاريخ تناهبته الأغراض ذات الأنفاس الحامضية، مثلما تناهبته مفاعيل القوة التي طمست ومحت وغيبت حقائق تاريخية، واجتماعية، وثقافية، وعقائدية، وثقافية، من أجل أن تظل حمى القوة متسيّدة، ومن أجل أن يظل جنون العسف ظلموتاً طارقاً كل الأبواب والدروب والأحلام، وطارداً كل شعاع نور أو ضوء في الليل والنهار، وفي اليقظة والسهو معاً.
هذه رواية كتابتها أسهل من قراءتها لأنّ أشراكها وأفخاخها كثيرة، فالصورة العامة، أعني الرؤيا، ليست واضحة ولا واحدة، فـ نور، ابن المخيم، يدخل سرداب وهم بأنّ الهوية الزرقاء هي قناعه المنجّي له من الأسئلة الشيطانية، وهي قناعه الذي يمكّنه من افتكاك نفسه من عزلة كريهة، لكنه في نهاية الرواية يخلص نفسه منه ليصالح روحه، ويستعيدها إليه مرة أخرى. وأور الإسرائيلي، على رغم قراءاته وقناعته بقوة الاحتلال، فإنه أيضاً ليس واضحاً وليس واحداً. والصوفي مرسي،الذي يرعى نور،ليس هو رجل دين فقط، ولا هو بالمصلح أيضاً، ولا هو بالواحد صاحب القناعة الواحدة. وكذلك البحث عن الآثار ليس سوى حال من قلق فظيع يساور الإسرائيلي المقيم، والأوروبي الذي جاء ليكشف عن الآثار طلباً للأسانيد والعلامات والرسوم. والبحث عن الآثار، من جهة أخرى، ليس هو سوى حال قلق ومخاوف للفلسطيني نور من أن يتم العثور على لُقىً تبدد قناعته التي صلّبها في البيت، والمخيم، والمدرسة، فتنكث نسيج السردية الفلسطينية.
رواية "قناع بلون السماء" رواية حيرة، وأسئلة وغموض، وهي رواية ارتباك تذكّرنا بارتباك الحياة الفلسطينية منذ 100 عام حتى اليوم، بسبب كثرة ما هو مطروح لجعل الحياة أكثر هدوءاً، وأقرب إلى العقلانية، لكنّ رائحة البارود والغطرسة والعنصرية تَحُول دون ذلك، مثلما تَحُول قلّة الحيلة دون تغيير الحال.