"صباحات في جنين": رواية تستولي على أوتار قلوب قرّائها
صباحات في جنين" هي قصة أمل، قصة نضال عائلة ونجاتها خلال عقود طويلة من الصراع العربي الصهيوني، قصة صاغتها الندوب والخوف، والحميمية التحويلية للعلاقات الأسرية، والحب والإيمان.
سوزان أبو الهوى روائية فلسطينية أميركية (1970-) وناشطة في مجال حقوق الإنسان، أسّست "ملاعب لفلسطين" وهي مؤسسة غير حكومية تهدف لبناء ساحات لعب للأطفال في فلسطين وفي المخيمات، وكانت من المشاركين في حملة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات". ألّفت أبو الهوى عدة روايات، ومجموعة شعرية واحدة، و"صباحات في جنين" هي أولى رواياتها وتقع في نحو 350 صفحة. نُشرت هذه الرواية في الأصل تحت عنوان "ندبة داوود" عام 2006، ثم أعيد نشرها مع بعض التعديلات عام 2010 لتصدر عن دار Bloomsbury بعنوانها الحالي. وقد حقّقت منذ ذلك الحين مبيعات هائلة وتُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، لتكرّس أبو الهوى كواحدة من أهم الكاتبات الفلسطينيات باللغة الإنكليزية.
ورغم مضي زمن على صدور الرواية، تعود إلى الواجهة اليوم مع ارتفاع وتيرة الممارسات الوحشية ضد الفلسطينيين، بوصفها رواية ذات أهمية حيوية معاصرة تلقي ضوءاً على واحد من أهم الصراعات السياسية المعرِّفة لعصرنا. كما أنها تعيد التذكير بأن فكرة الأدب كشكل معاصر للمقاومة لا تزال مستمرة. وهي من أوائل الروايات المكتوبة بالإنكليزية التي تتحدّث عن الحياة في فلسطين في مرحلة ما بعد النكبة.
تروي "صباحات في جنين" قصة فلسطين من منظور حياة عائلة واحدة، إنما عبر أربعة أجيال، إذ تغيّر بؤرة تركيزها من الجدّ يحيى وزوجته، إلى أبنائه ثم أحفاده وأولادهم. فنرى النكبة بعيون هذه العائلة، ونقرأ في أول أربعين صفحة عن الصداقة، الحب، العائلة، الخطف، الموت، والاجتياح. تحدّثنا المرحلة الأولى من الرواية عن انقلاب حياة عائلة أبو الهيجا رأساً على عقب، من حياة هادئة عام 1941، زمن بداية الرواية، تعيشها عائلة بسيطة تستعدّ لموسم قطاف الزيتون، إلى فظاعة طرد تلك العائلة من قرية الأسلاف (عين حوض) على يد الكيان المتشكّل حديثاً والذي سيتحوّل إلى أطول احتلال في تاريخ البشرية.
"في زمن بعيد، قبل أن يزحف التاريخ عبر التلال ويهشّم الحاضر والمستقبل... قبل أن تولد أمل، كانت قرية صغيرة شرق حيفا تعيش بهدوء، تقتات على التين والزيتون، الحدود المفتوحة وضوء الشمس". تحلّ النكبة عام 1948، وتتهجّر عائلة أبو الهيجا، وأثناء ذلك يُختطف حفيد يحيى، إسماعيل، على يد جندي إسرائيلي يعطيه لزوجته العاقر ليتربّى على كره الفلسطينيين ويحمل اسم ديفيد أو داوود. وليكون بعد زمن واحداً من الجنود الإسرائيليين الذين ينكّلون بأخيه التوأم يوسف الذي يتعرّف إليه من ندبة في وجهه. لكن، ورغم أهمية هذا الخط السردي،تختار أبو الهوى ألا تجعله مركز روايتها. فصباحات جنين هي قصة أمل، أخت إسماعيل ويوسف، التي ولدت في مخيم اللاجئين في جنين بعد تهجير عائلتها وأصيبت لاحقاً في حرب 1967.
تستلم أمل زمام السرد، ومن خلالها نتعرّف إلى روتين الحياة في المخيم: الفقر، تقييد الحركة بفعل نقاط التفتيش، ظروف العيش المروّعة والمحفوفة بالخوف من جرّاء ملاحقة الجنود لسكان المخيم إلى كل مكان. ومع تقدّم أمل في العمر، يتقدّم السرد ونصبح كقرّاء شاهدين صامتين على الصراع الذي تخوضه للحفاظ على هويتها التي تُمتَحن بتغيّر الأماكن. تغادر أمل مخيم اللاجئين في جنين إلى مدرسة داخلية في القدس، ومن ثم إلى جامعة في بنسلفانيا، أميركا، حيث يصبح اسمها إيمي،ليكون ذلك دلالةً على فقدان الأمل. بعدها، تعود أمل إلى لبنان لتلتقي من جديد بأخيها يوسف وزوجته وابنته "فلسطين" في شاتيلا، ثم تقع في الحب،وتتزوّج.
لكن التراجيديا ترفض أن تفارقها. فمع غزو"إسرائيل" للبنان عام 1982، تعود إلى أميركا، ثم يستشهد زوجها بقصف على بيروت، تُذبح زوجة أخيها وابنته فلسطين، ويفجّر يوسف نفسه في عملية انتحارية، وتصبح هي مُطارَدة من جرّاء ذلك. بعد حين، تلتقي أمل المفجوعة بديفيد/ داوود النادم بعد أن عرف حقيقته وأوصله البحث عن عائلته إلى أمل، وتبدأ عملية الشفاء. تحمل حياة أمل شبهاً بحياة سوزان أبو الهوى؛ الحرمان من الجذور، صعوبات العيش في المنفى (أميركا أيضاً) وخوض صعوبات الانتماء والتمزّق بين ثقافتين. كذلك، يلاحظ النقّاد تأثّر أبو الهوى بإدوارد سعيد، وتقرّ هي ذاتها بذلك ولا سيما في تصويرها لعائلة أبو الهيجا.
تفرد الرواية صفحات لوصف العيش في مخيم جنين، ومن هنا جاء عنوانها. في ذلك المخيم، يقتات الناس على الذكريات، منتظرين العودة إلى البيوت التي أحبّوها. وهناك يعتصر الحزن قلب أم أمل التي فقدت ابنها، ويعمل الأب طوال اليوم. لكنه، في سكينة الفجر الخاطفة، يقرأ القصص لأمل كل يوم، ويكون بوسعها رغم الأسى أن تشعر بحبه لها "كبيراً بقدر المحيط وكلّ أسماكه". تقول الرواية لنا إن تفاصيل مثل هذه، أبٌ يقرأ لطفلته، قد تبدو في العادة بسيطة أو حتى مبتذلة، لكنها عندما توضع في سياق الاحتلال تصبح مشحونة عاطفياً؛ لأنه "أن تقرأ يعني أن تقاوم، أن تلعب تحت أشجار الزيتون يعني أن تقاوم، أن تشعر بسعادة خاطفة يعني أن تقاوم".
تنتمي "صباحات في جنين" إلى نوع التخييل التاريخي. فمن خلال حكاية عائلة عادية تعيش في ظروف استثنائية، تروي تاريخاً كاملاً. ومن خلال علاقة أمل بعائلتها، أصدقائها، وعلاقاتها العاطفية، نتعرّف أكثر إلى أحوال فلسطين، ما يجعل هذا الكتاب تاريخاً بقدر ما هو أدب؛ رواية إنما قصة حياة مألوفة جداً للعائلات الفلسطينية حول العالم. مع هذا، يرى أحد النقّاد أن الصنعة الفنية تنتفي أحياناً في هذه الرواية، ما يجعلها شبيهة بعمل وثائقي يتيح للأحداث أن تتحدّث عن نفسها. لكن، في الحقيقة، دمج أبو الهوى للتخييلي والتوثيقي هو أحد نقاط قوة هذا الكتاب، فهو يتيح لها أن تقدّم تصويراً أميناً ومؤثّراً لواقع شديد المرارة.
كذلك، واحدة من ميزات هذه الرواية أنها تسمو فوق السياسة، ولا تحاول إيصال أفكارها بشكل عنيف. فهي مطابقة للسردية العربية والفلسطينية عن أصحاب الحقّ، لكنها مكتوبة بأسلوب يؤثّر على القارئ الغربي، رغم أنها تتحدّى الصور النمطية والأفكار الزائفة التي غذّتها البروباغندا الغربية والأميركية المتحيّزة لـ "إسرائيل". إنها تصحّح وجهة النظر الغربية عموماً والأميركية خصوصاً عن الصراع والفظاعات الإسرائيلية المستمرة منذ عقود، ولا سيما أنها مكتوبة بالإنكليزية على يد روائية تعيش في أميركا.
يقول راي حنانيا، الصحافي الأميركي من أصول فلسطينية، عن رواية "صباحات جنين" إنها سردية قابلة للتصديق لأنها ليست مكتوبة من منظور كاتبة فلسطينية فحسب، بل كذلك من منظور الرغبة بإخبار الأميركيين والغرب قصة تتماشى بطبيعتها مع طريقة تفكيرهم. فالمعركة الحقيقية لتحقيق العدالة لفلسطين برأيه ليست في تظاهرات شوارع شيكاغو مثلاً، بل "في صفحات كتاب مفحِم لدرجة أنه يستولي على أوتار قلوب قرّائه". أما الروائية أليس ووكر فتقول: "تمتلك سوزان أبو الهوى قلب محاربة...كاتبة عظيمة في زمننا، وقراءتها لا تعني فحسب البدء بفهم المعلومات الخاطئة التي تلقّيناها لعقود عمّا حدث في فلسطين والشرق الأوسط، بل تعني كذلك التصالح مع مقاومتنا لشعور الذعر من خوفنا من الحقيقة".
اللغة في الرواية قوية، إنما سلسة، وهي غنائية شعرية أحياناً. تستخدم الرواية ضميري المتكلم (أغلب الرواية يُروى بلسان أمل) والغائب، مع انتقالات بين الماضي والحاضر، تنسجم مع حالة أمل العالقة بينهما، تتخللها تكرارات، كما هي عادة الذكريات. كذلك، كما يرى الناقد خالد القديمي، تستخدم أبو الهوى الأدوات الأدبية للتعبير عمّا يصعب التعبير عنه مباشرة. فالاستعارة الأدبية، الرموز، التناقض، وغيرها، تُستخدم هنا لفضح الواقع القاسي في فلسطين، الترومات النفسية والجسدية، وأهوال عنف "إسرائيل" ضد الفلسطينيين. على سبيل المثال، تشبّه أبو الهوى العالم بلص يسرق أمتها وتاريخها ليسلّمها للعدو. كذلك، ديفيد، الابن غير الشرعي هو رمز لعدم شرعية احتلال "إسرائيل" لأرض فلسطين، وعودته إلى أهله وجذوره في النهاية تشير لحتمية عودة الأرض إلى أصحابها.
"صباحات في جنين" هي قصة أمل، قصة نضال عائلة ونجاتها خلال عقود طويلة من الصراع العربي الصهيوني، قصة صاغتها الندوب والخوف، إنما كذلك الحميمية التحويلية للعلاقات الأسرية، والحب والإيمان اللذان يحافظان على الحياة. من ناحية أخرى، تحمل "صباحات في جنين" من الألم والأسى ما جعل الكثير من القرّاء الغربيين، والأميركيين، يرغبون بالتوقّف عن القراءة، لولا عذوبة السرد التي تجعل القارئ يتمسّك بصفحات قصة يجب أن تُروى وتُقرَأ مهما بلغ ألمها. والسؤال هنا:إذا كانت مجرّد القراءة عن الفظائع الإسرائيلية مؤلمة إلى هذا الحد، وعسيرة على الغرب، ماذا يمكن القول عن ألم عيش الفلسطينيين لتلك الفظائع بالفعل؟؟!