"شيوعي وحاقد".. لماذا كره العندليب رفيق الميتم أحمد فؤاد نجم؟
"لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت"، هكذا هجا أحمد فؤاد نجم العندليبَ عبد الحليم حافظ. وعلى رغم أنهما تشاركا في الغرفة في الميتم نفسه، فإنّ الكراهية المتبادَلة بينهما كانت تكبر عاماً بعد عام. ما أسبابها؟
في عام 1937، مشى الطفل عبد الحليم علي إسماعيل شبانة، الذي سيُعرف لاحقاً باسم عبد الحليم حافظ، قلِقاً لا يعرف ما ينتظره. غير أنه سمع من أشقائه أن خاله سيذهب به للإقامة في مدرسة داخلية، حيث يتوافر له التعليم والغذاء والرعاية الكاملة. هذه المدرسة كانت تابعة لملجأ عبد العزيز باشا رضوان، أحد أعيان محافظة الشرقية، والتي أنشئت لتعليم غير القادرين على دفع تكاليف الدراسة، وأُلحق بها ملجأ للأيتام يوفر لهم، إلى جانب الدراسة، الوجبات الغذائية والملابس.
بعد مقابلة المسؤول وتخليص الإجراءات، دخل الطفل عبد الحليم الملجأ، وبات ليلته الأولى في سرير رقم (94) خائفاً وغريباً. غير أن هذا السرير سيصبح ملاذه لأعوام مقبلة. كما سيرافقه في السرير المقابل رقم (95) طفل آخر، لكنه أعلى صوتاً وأكثر جرأة، ربما بحكم أسبقيته في المكان، التي أهلته ليكون "شاويش عنبر". وهو منصب، على صغره، سيجعله متحكماً في أقرانه. ذلك الطفل هو أحمد محمد عزت نجم، الذي سيصير شاعراً معروفاً يحمل اسم أحمد فؤاد نجم.
ثمة أشياء مشتركة بين المطرب العندليب والشاعر أحمد فؤاد نجم. فإلى جانب نشأتهما معاً في ملجأ للأيتام، اشتركا أيضاً في عام مولدهما (1929)، غير أن حليم وُلد في 21 حزيران/يونيو، بينما سبقه نجم إلى الدنيا بأيام، بحيث وُلد في 22 أيار/مايو من العام نفسه.
تقاسم الرجلان اليتم والفقر، ثم الملجأ الواحد، إذ بموت والدة العندليب، ثم والده بعدها بأشهر، لم يعد خاله قادراً على أن ينفق على أولاد شقيقته الراحلة، وعددهم 4 أيتام، لذلك لم يجد مفراً من وضع أصغرهم سناً (حليم) في مدرسة داخلية. هذه كانت أيضاً حال نجم، بحيث قرر خاله إدخاله مدرسة داخلية بعد رحيل والد الفاجومي، الذي ترك لزوجته 17 ابناً، لم يتبق منهم سوى 5.
داخل الميتم.. خارج الميتم
عاش الطفلان نجم وحليم داخل الميتم أعوام صباهما الأولى. كان حليم طفلاً رقيقاً اختصه الأستاذ محمود أفندي حقي، مدرّس الموسيقى، برعايته بسبب حسن صوته، ثم راح يعلمه العزف على الآلات الموسيقية ويدربه على الإنشاد، في حين كان نجم يملك من الجرأة، ما جعله، على رغم خشونة صوته، يقاسم حليم الغناء، وإن لم يخلُ من شغف مبكّر بالفن.
في عمر 9 أعوام، خرج الطفل عبد الحليم حافظ من الميتم بعد حصوله على الشهادة الابتدائية. بعدها ترك منطقة الزقازيق رفقة شقيقه إسماعيل إلى القاهرة واستقر فيها، في حين خرج منه نجم عام 1945، وكان عمره 17 سنة، ليرجع بعدها إلى قريته للعمل راعياً للماشية، قبل أن ينتقل للسكن عند شقيقه في القاهرة، إلا أن الأخير طرده، ليعود نجم مرة أخرى إلى قريته (كفر أبو نجم) وتفترق طرق نجم وحليم، وبالتالي مصائرهما.
مع الوقت، أصبح عبد الحليم شبانة هو نفسه المطرب الشهير عبد الحليم حافظ، أو العندليب. ويرجح البعض أن تلك الشهرة بدأت مع أغنية (صافيني مرة) في عام 1952، أي مع قيام ثورة الضباط الأحرار، واحتياج الثورة إلى صوت غنائي معبر عنها، في حين تخبطت السبل بفؤاد نجم بين السجن، سواء بدافع ثوري أو بتهمة السرقة، ليتشكل حسه الثوري، ويصبح الوجه الآخر لصوت عبد الحليم؛ أي أنه سيكون صوت المعارضة للسياسات نفسها التي يمجدها العندليب، كما يرى البعض.
كان التباين ظاهراً بين شخصيتي نجم والعندليب منذ البداية؛ أي منذ سنوات الميتم، سواء في تباين طباعهما الشخصية، أو تباينهما شعورياً تجاه الميتم وذكرياته. ففي الوقت الذي عاش حليم يتنكر لتلك الفترة ولا يحكي عنها، ويشعر بمرارة كلما تذكرها، كان الفاجومي يذكر رفقتهما في الملجأ كلما سنحت الفرصة، بل يحكي بفخر كيف تقلّد منصب "شاويش عنبر".
ربما بدأ الخلاف بين الرجلين، وفق ما روى نجم في لقاءات تلفزيونية، حين ذهب إلى بيت حليم ليعرض عليه بعض كلمات الأغاني، ولم يكن قد أصبح شاعراً معروفاً، لكنه قوبل من حليم بلقاء فاتر فسّره نجم بأنه هروب من ذكريات الميتم وصحبته، قائلاً: "اللي داق اليُتم وعيشة الملاجئ وهو صغير عُمره ما ينساهم ولا أيامهم تروح من باله، وميحبش حد يفكره بيهم أبداً".
"إيه رأيك في الشيخ إمام والشاعر اللي معاه"؟
اتسع الخلاف بين النجمين لاحقاً، وكان يتصاعد، ولاسيما كلما اقترب حليم من السلطة وأصبح مغنيها وصوت سياساتها، وأيضاً كلما اقترب نجم من اليسار، وأصبح شاعره وصوت المعارضة لسياسات الأنظمة الحاكمة؛ أي وقت أصبح حليم، كما يقول معارضوه، "الصوت الرسمي للسلطة"، في حين أضحى نجم صوت المعارضة الشعبية، ثم حمل كلاهما الصراع إلى حدود بعيدة، وصلت إلى حد العداء بينهما، ومحاولة كل منهما النيل من الآخر.
في عام 1970، حل حليم ضيفاً في حوار إذاعي ضمن برنامج "ليالي الشرق" مع الموسيقار محمد عبد الوهاب. وتدور فكرة البرنامج الإذاعي حول حوار بين شخصيتين شهيرتين يؤدي أحدهما دور المذيع بينما يكون الآخر هو الضيف. في تلك الحلقة، كان عبد الحليم هو من يحاور عبد الوهاب، وكان ذكياً ولبقاً كعادته، بينما كان موسيقار الأجيال يقظاً، يحسب للكلمة ألف حساب، كأنه يخشى خروجاً عن نوتة موسيقية قد تجعل كلامه العادي نشازاً.
خلال الحلقة، مرّ الرجلان على الأصوات الجديدة، فأدلى الموسيقار بدلوه فيما يخص الصراع بين الموهبة والعلم، وصولاً إلى الحركة الأدبية الجديدة. وهكذا كان لعبد الوهاب رأي في كتابات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومصطفى محمود. كما تحدثا عن "الاتحاد الاشتراكي" ودوره في تلك المرحلة، قبل أن ينتهي الحوار بالكلام عن تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
تناول حليم وعبد الوهاب قصة شعور الإنسان بالمرارة واحتمال أن تكون "دافعاً إلى ميلاد فن"، أم أنها ستخلق داخل الفنان "حقداً اجتماعياً". وفي الوقت الذي حاول عبد الوهاب تأكيد رأيه في أن الشعور بالمرارة قد يولّد فناً لدى بعض الناس، بل قد يولّد فلسفة أيضاً، بقي العندليب الأسمر يحاول انتزاع جواب بالنفي.
وكان ثمة سؤل آخر في جعبة حليم لم يخلُ من خبث، بشأن واجب الفنانين تجاه غيرهم من المواهب الخلاقة "المنفصلة عن المجتمع وتحقد عليه". فهل نأتي بتلك المواهب ونجعلها تساير المجتمع كي تخدمه عبر فنها، أم نتركها في عزلتها وحقدها على المجتمع؟
وقبل أن يجيب عبد الوهاب عن السؤال، استنكر تسمية الأمر بـ"حقد"، قائلاً إن ثمة تبايناً بين الحقد على المجتمع والانفصال عنه، ليجيبه عبد الحليم بأن الحقد يجعل الشخص منفصلاً عن المجتمع "ويحقد عليه". وقبل أن يذهبا بعيداً، أوضح العندليب ما انطوى عليه سؤاله، قائلاً: "طيب، إيه رأيك في الشيخ إمام والشاعر اللي معاه"؟
سؤال عبد الحليم حافظ بشأن حقد الفنان وانفصاله عن مجتمعه لم يكن سوى تمهيد لسؤاله عن تجربة الشيخ إمام ونجم، ثم تعمّد إغفال اسم نجم، مشيراً إليه بجملة "الشاعر اللي معاه".
"جايبلي اتنين شيوعيين يعلموني الوطنية"
موقف آخر يكشف حقيقة مشاعر عبد الحليم حافظ تجاه أحمد فؤاد نجم. في كتاب "حليم وأنا"، الذي كتبه طبيب العندليب الخاص، هشام عيسى، كان من المفترض أن يكون حليم هو بطل فيلم "وتمضي الأيام"، على أن تشاركه في البطولة سعاد حسني.
تحمّس العندليب لتلك التجربة الرومانسية، ولاسيما بعد أن اقترح عليه صديقه حسام عيسى، المشرف على قطاع السينما في ذلك الوقت، إسناد مهمة إخراج الفيلم إلى يوسف شاهين، الذي اقترح تعديل بعض المشاهد، فوافق حليم.
لم تقتصر تعديلات شاهين على الحذف، بل أضاف شخصيتين جديدتين إلى السيناريو، هما الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومغنٍّ كفيف يدعى الشيخ إمام، الأمر الذي أثار غضب حليم حين قرأ السيناريو بعد التعديلات، ورفض المشاركة في الفيلم قائلاً: "الراجل دا مجنون.. جايبلي اتنين شيوعيين يعلموني الوطنية".
"يهرّب أموالك.. ويقولك أهواك"
ساهم نجم في صنع حالة العداء بينه وبين عبد الحليم حافظ، فهو صاحب رأي متأرجح فيما يخص حجم موهبة عبد الحليم حافظ مقارنة بذكائه. وحين كان يدور الكلام في فلك ملجأ الأيتام والأيام الخوالي، ثمة حنين يتسرب إلى قلبه، فيرى صوت العندليب الأقرب إلى صوت السيدة فيروز، وهي أحب الأصوات إلى الفاجومي. أما إذا جاء السؤال منفرداً عن موهبة حليم، فحينها يرى نجم أن صوت رفيق الميتم "عادي"، وأنه "أخذ أكبر من حجمه، ولم يكن فنان الشعب".
لم يكتف نجم بالتشكيك في حجم موهبة حليم، ووصل به الأمر إلى كتابة نص يحمل قدراً كبيراً من القسوة، هاجمه فيه هجوماً مؤلماً، متَّكئاً على أكثر جروح حليم إيلاماً، وهو مرضه الذي كثيراً ما سافر بسببه في رحلات علاجية إلى الخارج. ولعل تلك القصيدة كانت سبباً كافياً في دفع العندليب الأسمر إلى كره الفاجومي، إذ يقول فيها:
لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت
الليلة هيتنهد ويغني ويموت
يشيلوه قال على لندن.. علشان جده هناك
من بعد ما يتلايم.. على دخل الشباك
ويهرب أموالك.. ويقولك أهواك
يا شعب يا متلوع.. ع الهدمة وع القوت.