"تذكّروني فأنا أحبّكم": بواكير العمل المقاوم
إذا كان مكان التصوّف التقليدي الزوايا والتكايا فإنّ ميدان الشهيد كامل مرعي، أودية الجنوب اللبناني ومساجد الضاحية الجنوبية التي يدور عليها حاملاً بصيرته وعلومه الدينية ليلقيها على الشباب زارعاً بذور التديّن في بيئة اغتربت عن ثقافتها الدينية لأجيال وأجيال.
عرف الأدب العالمي كتابة السيرة الذاتية كنوع من الأنواع الأدبية وفنّ من الفنون التي تستعرض الحياة الشخصية منذ لحظة التكوين، عبر سلسلة من اللحظات المفصلية التي توثّق المفارق والتحوّلات في الزمن مترافقة مع محطات تأملية في الذات والبيئة والظروف التي أدت إلى تشكّلها عبر الزمن، مستعينة في أغلب الأحيان بمجموعة متنوّعة من المستندات ووجهات نظر الأشخاص الذين عايشوا هذه الشخصية.
يعتبر المؤرّخون أنّ أوغسطين (354 ـــــ 430) هو أول من كتب سيرة ذاتية في العالم الغربي، وأصبحت نموذجاً يحتذى به من قبل الكتّاب المسيحيين خلال العصور الوسطى.
تروي هذه السيرة أسلوب حياة سعيدة عاشها أوغسطين لفترة من الزمن في شبابه، وقد استخدم عنوان الاعترافات لوصف أعماله التي تتحدّث عن سيرته الذاتية، وكذلك استخدم جان جاك روسو العنوان نفسه في القرن الثامن عشر، حين بدأ كتابة سلسلة من السير الذاتية الدينية، وكتبت النبيلة الإسبانية ليونور لوبيز دي كوردوبا، مذكّراتها في القرن الخامس عشر والتي قد تكون أول سيرة ذاتية تظهر في تلك الفترة ما يغلب على تلك الأعمال في العصور القديمة اللغة التبريرية والاعتذارية، الناضحة بالشروح والتبريرات لأفعال معتمة ومسكوت عنها وجاء الكتّاب لينشروها تحت ضوء الشمس .
في لبنان يزدهر اليوم نوع من الكتابة الأدبية حول سير الشهداء تقترب من هذا النوع الأدبي، وإنما تأخذ شكل الكتابة الغيرية، بمعنى سيرة ذاتية يكتبها كتّاب متخصصون بهذا النوع من الكتابة التي تلقي الضوء على العوامل التي صنعت هذه الشخصيات، وتضيف إليها رسائل تربوية مكتوبة بالدم موجّهة إلى الأجيال القادمة تحضّهم على احتذاء هذا النموذج كمنهج أعلى في السير إلى الله. فلا مهادنة ولامهاودة في طريق الحب و"ما لعشق رسن"، على حد تعبير مظفّرالنواب. فالحبيب الأوحد غيور ولا يقبل شريكاً على حد العارف الكبير" سري السقطي" في رؤياه الشهيرة في عالم التصوّف والعرفان.
غير أنّ عرفان الشهيد كامل عبد الرضا مرعي يختلف عن التصوّف التقليدي الذي يجترح من المجاهدات النفسية والأذكار والأوراد طهارة قلبية متوخاة تمكّن السالك من الرؤية المنشودة وهي أمنية كلّ العرفاء والمتصوّفة، فإذا كان مكان التصوّف التقليدي الزوايا والتكايا فإنّ ميدان الشهيد كامل مرعي، أودية الجنوب اللبناني وجباله العصية على الطامعين، ومساجد الضاحية الجنوبية التي يدور عليها حاملاً بصيرته وعلومه الدينية ليلقيها على الشباب زارعاً بذور التديّن في بيئة اغتربت عن ثقافتها الدينية لأجيال وأجيال.
في كتابها تلزم باسمة مرعي نفسها وتقصر قلمها على سرد أحداث وتفاصيل السيرة سعياً من الكاتبة لتحرّي المصداقية والشفافية فيعرض السيرة الذاتية للشهيد كامل مرعي، الأمر الذي أفقد الرواية الكثير من عناصر التشويق، فلا نقع في" تذكّروني فأنا أحبكم" على لحظات الإدهاش والمفاجأة والتخيّل المفترضة في الأعمال الإبداعية،ويبدو أنّ الكاتبة لم تجد نفسها معنية بذلك الإبهار المفترض. لذا يجد قارئ مرعي نفسه أمام سيرة تعرض بأمانة لسيرة مفعمة بالطهارة والإخلاص والتوق إلى الجنة الموعودة التي أزلفت للمتقين. وعلى ذلك يمكننا القول إنّ" تذكّروني فأنا أحبكم "لباسمة مرعي الصادرة حديثاً عن دار المحجة البيضاء هي رواية النموذج والبذرة الأولى التي نبتت في جبل عامل وشكّلت البنية النفسية والعقائدية لشباب المقاومةالإسلامية في لبنان.
تلاحق مرعي بطلها منذ ولادته في قريته الجنوبية كفرا إلى برج البراجنة في الضاحية الجنوبية إلى مقاعد الدراسة، متوقّفة عند تفوّقه وذكائه ونباهته التي لفتت نظر مدرّسيه إليه منذ المرحلة الابتدائية وحتى تخرّجه، وانخراطه في العمل ونيل إعجاب مديريه به، الأمر الذي دفعهم إلى ترقيته وتعيينه في منصب رفيع في الشركة، بعدها ترافق صفحات الكتاب أسفار إلى الكويت والعراق ولقائه بالمرجعين الكبيرين السيد الإمام الخميني والسيد الخوئي، ثم مغادرته أرض العراق والعودة إلى لبنان وتأسيس النواة الأولى للمقاومة عبرالإعداد الروحي والعسكري للرعيل الأول من الكوادر العاملة على مواجهة الاحتلال.
سيرة الشهيد كامل مرعي تتشابه مع سائر سير شهداء تلك الحقبة التأسيسية، غير أن ما يميّز سيرة الشهيد مرعي أنه كان شخصية متعدّدة فهو متديّن ومثقّف يتقن اللغة العبرية، ويكتب شعراً لحبيبته:
"أحبّك أكثر، أكثر، حتى التلاشي... وإنّي لأقدّم حبك خبزاً إلى الناس في...
أنت الزنابق، سراً تفرّعت في خاطر الحقل حتى الثمالة... أسرق الضوء من شمس عينيك حتى أداري شحوبي
أنا شاحذ القمح من كلّ صيف لأهديك عيشي
أنا الحرّ الطليق المحيّا أنا المستجير السجين...
حفرت على اسمك اسمي، وأحكمت قضبان عمري عليك...
وهكذا تنداح هذه الواحات الشعرية في طريق ذات الشوكة تلملمها باسمة أوراقها من آثار الشهيد كامل وتنتقي منها نصوصاً تسفر عن الوجه الآخر لهذا المحارب الشجاع.
تأخذ هذه البيارات الشعرية حيّزاً واسعاً في الكتاب المفعم بالحنين والأحاسيس والحيوية، في الوقت الذي يصرّ فيه البعض على زجّ المقاومة في خانة الميليشيات المتحاربة على أرض لبنان، يأتي كتاب" تذكّروني فأنا أحبكم" ليؤكّد هوية هذه المقاومة كفعل تنويري، إحيائي في زمن عزّت فيه عناصر الأحياء والتنوير في هذه الأمة التي تضافرت عليها عناصر الوهن والإحباط من كلّ جهات الأرض.