"بيغ بِن" حيّ معوّض: نبضات قلوب أطفال الضاحية... المدمّرة
جرّبتُ النظر إلى عينَي ابني جبران. كانتا ممتلئتين بالدموع والقهر والعتب والغضب. قلبي أنا، أيضاً، فيه قنبلة غضب موقوتة؛ فيه قنبلة انشطارية من أسئلة لا أجوبة لها.
ساحة "بيغ بِن" في شارع معوّض في الضاحية الجنوبية لبيروت، دُمّرت. الساعة، التي يسميها كل أهل الضاحية وبيروت والجنوب، وأبناء بعلبك أيضاً، ساعة معوض، أسمّيها أنا، الذي "لا دخل له" فيما يقول الآخرون، أسمّيها "بيغ بِن" معوّض.
مررتُ أنا وابني جبران قرب مفرق ساعة "بيغ بِن" معوّض. شهق ابني جبران. تشردقت الغصّة في حلقه، وغصّت عيناه بدموع خلف زجاجتَي نظارته. أنا ارتجف قلبي لمّا رأيت حالة ولدي صارت "هَيْكْ". لا أعرف لماذا؟ لا أعرف "لَيْشْ"؟ ألا يَحِقّ للآباء أن يزعلوا لزعل أولادهم، من دون أن يكون هناك سبب.
الضاحية امتلأت بآلاف الآباء الذين يبكون الآن على شبّان وصبايا وأطفال، كانوا أبناءَهم، كانوا روحَهم التي تمشي وتنطق وتتحرك، وكانوا يملأون بنايات الضاحية، وطرقات الضاحية، وسماء الضاحية، وزواريب الضاحية، ومدارس الضاحية، ومئات "الغاردريه" في الضاحية، نكاتاً ومزاحاً وقهقهات طفولية، وكلمات حب، وصبية تهمس إلى حبيبها كم تحبه، وشاب يرسل عبر "واتساب" إلى حبيبته شارةَ قلب، وكلمةَ "miss u".
وحتى في أحيان قليلة، يتهامس الشبان فيما بينهم كلماتٍ نابية، فيها شيءٌ من الزعرنة. لا بأس! لكنهم كانوا يتهامسون بكلمات مهذّبة أيضاً: عن الصداقة؛ عن الأمومة؛ عن الأبوّة؛ عن أُم مشتاقة إلى صوت ابنها، إلى عينيه، إلى رائحته؛ عن ابن اشتاق إلى طبخات أمه، إلى رائحة أصابع أخته يفوح بها قميص له كَوَته؛ إلى تعابير خاصة، لها ألف معنى، بين شبان الحي نفسه: hey man، ولا بأس أحياناً في قليل من الكلمات النابية.
كان لهؤلاء الأبناء، وأكثرهم أطفال، أو من جيل "z"، الحقُّ في أن يتنفسوا هواء يعبُر سماء الضاحية، ثم يذهب منها بأمان وسلام ليعبُر سماء بعبدا والحدث والشويفات وبشامون، وصولاً إلى أن يعبُر سماء كل قرية جنوبية، وكل قرية بقاعية، وكل قرية بعلبكية، وكل قرية في الهرمل، صارت اليوم كلّها قرى مدمَّرة، ركاماً. صارت أحجاراً مرمية فوق أحجار وشبابيك وأبواب مخلّعة، وبات فيها التنفس ممنوعاً حتى للأطفال، حتى لمصابي الربو، حتى لمن رئاتهم المريضة تتمنى الاختناق اليوم على أن ترى درب الجلجلة الذي يسلكه، مرغَمين، أهل الضاحية وأهل الجنوب وأهل بعلبك الهرمل وأهل البقاع.
البيت، الذي كدتُ أختنق خلف مقود سيارتي وأنا أشاهد ركامه، والذي وُلد فيه زميل ابني في الجامعة الأنطونية، والملاصق لساعة "بيغ بن" معوّض، هذا البيتُ دُمّر، مع البناء بالكامل. صَفٌّ من البنايات في الشارع نفسه دُمِّر. مراييل الطلاب، الذين اشتروها ولم يرتدوها دُمّرت، ونُتِفت، ومُزِّقت. ألعاب الطفلات، اللواتي في عمر الطفلة الملاك نايا، التي قتلها الاحتلال قرب مسجد القائم، دُمِّرت، هُشِّمت، سحقتها قنابل الاحتلال الارتجاجية.
جرّبتُ النظر إلى عينَي ابني جبران. كانتا ممتلئتين بالدموع والقهر والعتب والغضب. قلبي أنا، أيضاً، فيه قنبلة غضب موقوتة؛ فيه قنبلة انشطارية من أسئلة لا أجوبة لها، وأعرف أنه ليس أوان طرحها الآن، تحت طنين "الأم كا"، وغارات المسيّرات، ودويّ القذائف الارتجاجية، والموت الحزين والصاخب للصبايا والنساء والأطفال والشبان والشيوخ!
في داخلي غضب أجرّب كثيراً أن أُخرسه؛ أن أقول له: اسكُتْ! أن أقول له: "هُسْ"! يسكت قليلاً، يهدأ، ثم يعود إلى الطنين داخل روحي. في داخل روحي طنينُ غضبي، الذي لا يهدأ، وفي خارج روحي طنينُ "الأم كا" الذي لا يهدأ…
إلى أين أهرب!