"الموت مع الجماعة رحمة".. قصص من مدينة الموت غزة
رحل محمد، أخي وطفلي، وتركني أتحصّن ببعض الذكريات والصور. أن أقنع نفسي أنه ذهب ليشتري لي الحلوى، وأنه سيرجع لي بابتسامته التي أحفظها.
في البداية تردّدت وأنا أكتب هذه السطور. سألت نفسي: من سيرغب في قراءة قصص من غزة التي أصبحت مدينة للموت؟ وأي حروف ستعبّر عن الرعب والفقد الذي أعيشه منذ 7 أكتوبر 2023؟ كتبت وحذفت ومن ثمّ طالعت العديد من مقدّمات كتب الأدب، مخاطبة نفسي كيف أبدأ وأختصر تجربتي بسطور عديدة. وفي المحاولة المئة حسمت الأمر وقرّرت روايتها عبر تسلسها الزمني.
الأسبوع الأول
في صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، استيقظنا على أصوات صواريخ ارتجّ لها البيت في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً. صرخنا جمعياً باسم شقيقي محمد، قبل أن تهرع أمي وتلتقطه من السلالم كأنها تبتهج بكنزها الثمين. كان أخي الصغير، ذلك المشاكس، سعيداً بمنعه من الذهاب إلى المدرسة. لا ألومه لأنني كنت أكنّ للمدرسة الشعور نفسه. أكرهها. همس أخي في أذني: "يبدو أنني لن أستيقظ فجراً للذهاب إلى المدرسة بعد اليوم. أما أنت يا مسكينة فستصلبين أمام تلك الشاشة. يبدو أنها الحرب".
لم أعطِ لكلمات أخي أيّ اهتمام، إذ تسمرّ بصري على الشاشة محاولة فهم ما حدث ويحدث، وكذلك كان يفعل بقية أفراد العائلة الخمسة الذين لم يذهب أي منهم إلى عمله. في اليوم التالي تأكّد الأمر. "إسرائيل" بدأت ضدنا حرب إبادة ولن تدخر جهداً لطردنا من ديارنا كما فعلت في العام 1948. هذه الفكرة كادت تدفعني إلى الجنون. هل سيأخذ مني بيتي عنوة؟
كنا نجتمع في الليل في غرفة الجلوس. أفسح مكاناً بين الأرائك وأنام أنا وأمي ومحمد جنباً إلى جنب، وكنا عندما يشتدّ القصف في الليل نشدّ على أيادي بعضنا البعض كأنّ في ذلك قوة سحرية تحمينا من جنون الصواريخ التي تسقط كزخات المطر، والتي يسبقها صوت لطلقات نارية. كأنّ هناك من يدلّ الطائرات إلى المكان المفترض قصفه فتهوي قلوبنا كلما اقتربت أصوات تلك الطلقات داعين الله ألا تكون التالية إلى جانب بيتنا.
الأسبوع الثاني
كانت تلك الليلة هادئة لكنني تأكّدت أن هناك مصيبة ستحدث في الدقائق المقبلة. وضعت العباءة وغطاء الرأس إلى جانبي ونمت بعد توسّلات لمحمد بأن يغلق هاتفه الذكي ويكفّ عن الضحك وهو يخاطبنا "لماذا الخوف؟ هل هناك خاتمة أجمل من الشهادة؟ سنصعد معاً إلى السماء بلا حروب أو خوف". نمت وأنا أسأل نفسي، أيّ طمأنينة تلك التي يبثّها الله في قلب هذا الطفل؟. نمت ثم استيقظت في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل على أصوات صراخ في الحي. الكلّ كان يخرج من بيته. الاحتلال هدّد بقصف المربّع السكني.
سرنا في منتصف الليل وطائرات الاستطلاع تحوم فوق رؤوسنا. أمسكت بيد محمد وأمي من الجهة الأخرى. كان يحاول إزالة النعاس من عينيه وهو يخبرني أنه سأم الاستيقاظ في الليل و"الكزدرة" في الشارع من دون سابق إنذار. فهو، كعادته، لا يهجر المرح حتى في المواقف الصعبة، آملاً أن يجد إنترنت في المكان الذي سنمكث فيه حتى الصباح.
في اليوم التالي صدر القرار بتهجير سكان غزة وخاصة منطقة خط الساحل بالكامل وإخلائها تمهيداً لاجتياحها برياً. رمى الاحتلال المناشير التي تدعونا إلى التوجّه جنوباً. لم تتوقّف الهواتف المحمولة عن الرنين منذرة بالهلاك لمن لا ينصاع لأوامر "جيش" الاحتلال. جاءني محمد قلقاً وسألني: "ماذا حدث؟ هل سنترك بيتنا ونلتحق بالراحلين؟ أنا لا أريد ترك البيت والابتعاد عن ملعب كرة القدم"، فأخبرته أنّ علينا انتهاز الوقت وتحضير حقيبة للطوارئ نضع فيها بعض الألبسة.
"ضع فيها أفضل ما لديك"، قلت لأخي، "لكننا لن نرحل اليوم". جهّز محمد حقيبته وعلّمني عبر فيديوهات شاهدها كيف يمكن وضع الحاجيات في حقيبة بطريقة توفّر مساحة أكبر. ضحكت وسط هذا الجنون فيما أصوات مكبّرات صوت المساجد تنادي الناس "اثبتوا في بيوتكم"، والحشود تتحرّك في الشارع وتصرخ كأنه يوم الحشر. أمهات تضيّع أولادها، ومركبات تدوس الناس وترفض التوقّف. كان مشهداً لم أرَ لها مثيلاً من قبل.
يومها، بتنا ليلتنا في بيت شقيقتي بعد أن فرغ الحي من السكان، ثم في الصباح اتفقنا نحن ومن تبقّى من الجيران على الرجوع وتدبّر أمر الكهرباء والمياه. لكن الاحتلال أصرّ أن يحضّر لنا مفاجأة أو بالأحرى عقاباً، فأبلغنا نحن سكان الحي بالإخلاء مرة أخرى لكننا لم نعره اهتماماً. هكذا حدثت الكارثة أثناء صلاة العشاء. بدأ الاحتلال مجزرته مفتعلاً حزاماً نارياً أودى بحياة غالبية السكان. وابل من الصواريخ جعلت زجاج النوافذ يخترق لحومنا. أما النيران التي اجتاحت البيت فأرغمتنا على الهروب إلى أقرب مستشفى.
لا أعرف كيف كنت أوّل من يصل إلى المستشفى، لكنني عندما نظرت خلفي لم أجد عائلتي وسط الجموع التي تواصل الركض والدهس على كل من يتعثّر. راح المسعف ينادي "ادخلي وسنجد أمك"، لكنني رجعت إلى الطريق ذاته وأنا أبكي وأردّد منادية "أمي". وجدتها في منتصف الطريق وقد تعثّرت من الشظايا المتناثرة وتدافع الحشود.
لحسن حظي وعائلتي، كان بيتنا والمستشفى في منتصف الدائرة. فما يسمّى بالحزام الناري يستهدف المربّع السكني بطريقة الدائرة المغلقة. كانت الصواريخ تحيط بنا من كل اتجاه، وما إن جلسنا حتى انهالت الاتصالات. فالجميع ظنّ أننا استشهدنا عندما شاهدوا الأخبار. لذلك قضيت ربع ساعة وأنا أرسل عبارات تأكيد بأننا ما زلنا أحياء.
جلسنا طوال الليل وظهورنا على الحائط. كل ما هو متاح لنا بمقدار بلاطة واحدة. نمنا كتفاً بكتف، أنا وأمي ومحمد. طوال الليل كنا نسأل أنفسنا: هل نجا البيت؟ انتظرنا حلول الصباح الذي أشرق أيضاً على قلوبنا. فقد وجدنا بيتنا شامخاً تتعامد عليه أشعة الشمس، وإن كان يحجب وجهه رماد الصواريخ كأنه بيت مهجور منذ أعوام.
فرح محمد بعودته إلى أرجوحته. استلقى فيها وأخذ يترنّح يميناً ويساراً. عدت بذاكرتي إلى اليوم الذي ابتعت له فيه الأرجوحة وإلى وابل الأسئلة التي باغتني بها: "هل هذه لي؟ هل أستطيع نشر صورة وأنا داخلها؟". صار محمد يقضي يومه وهو يتأرجح، مؤكّداً لي، أنه على الرغم من قامته الممشوقة، كأنه في سن والدي، أنه لم يزل طفلاً.
الأسبوع الثالث
قضينا عدة ليالٍ على هذا النحو. نجلس صباحاً في البيت ونعود لنحتمي من القصف ليلاً بالمستشفى. عندما سألني محمد لماذا نفعل هذا ولا نبيت ليلنا في البيت أجبته أن "الموت مع الجماعة رحمة". لم تمرّ سوى أيام قليلة حتى استكمل الاحتلال حفلة جنونه. صار القصف ليلاً ونهاراً، وخاصة في محيط المستشفى. اتصلت جدتي بي وطلبت منا أن نمكث في بيتها قبل أن نحاصر ونموت.
هكذا أمضينا الأسابيع التي تليها في بيت جدتي التي كانت تحاول دوماً التخفيف من الضغط العصبي الذي شاهدناه. لكن ما إن دخل شهر تشرين الثاني/نوفمبر حتى اصطدمنا باتصال آخر فجر يوم العاشر من الشهر نفسه. أمرنا أحد ضباط الاحتلال بإخلاء المنزل فوراً. لكن جدتي ظنت أنها الأسطوانة اللعينة عينها التي تطلب من سكان التوجّه إلى الجنوب. أغلقت جدتي الاتصال في وجه الضابط. سقط صاروخ ونحن داخل العمارة.
الجميع كان يصرخ وينزل السلالم بسرعة. لاحظ محمد أنني لست بينهم. أتى وبحث عني ليجدني في الحمام. طرق الباب وسألني: هل أنت بخير؟ الجميع غادر المبنى وعلينا الخروج الآن. أنا أحمل هاتفك وحقيبتك وغطاء الرأس"، وعندما سألته لماذا لم تذهب معهم، أجابني أنه لا يريد تركي ويفضّل أن يموت معي على أن ينجو وحده.
في أثناء نزولنا السلالم هرباً ضرب الصاروخ الثاني الطابق الأول في العمارة، وعندما وصلنا إلى نهاية السلالم دكّ صاروخ ثالث مدخل العمارة. خرجنا من الفتحة التي أحدثها الصاروخ في الجدار. التقطنا أحد الناجين. وحين تفحّصني أخي محمد تأكّد أن جروحي ليست طفيفة. خرجنا وبحثنا عن أمي. أمي التي لم نجدها حين تعانقنا طويلاً أنا ومحمد. عناق لم أدرك للحظة أنه سيكون العناق الأخير. بكينا أنا ومحمد إلى أن أطلّت أمّنا من فتحة الجدار ملوّحة لنا.
وفيما نحن نواصل الركض إلى "منطقة آمنة"، سقط صاروخ. صرخ محمد ولم يكن يعلم أنها صرخته الأخيرة. تفتت رأس طفلي الصغير ابن الـ14 عاماً. دماغه خرج من جمجمته. عيناه لم تعودا ذاتهما. ملامحه تبعثرت. تلك الملامح التي طالما شبّهتها بما تخيّلته من ملامح الوِلدان المخلّدين. رحل محمد، أخي وطفلي، وتركني أتحصّن ببعض الذكريات والصور. أن أقنع نفسي أنه ذهب ليشتري لي الحلوى، وأنه سيرجع لي بابتسامته التي أحفظها.