"الملك الشمس" ونساؤه: قصص الحب والسلطة في بلاط لويس الرابع عشر

4 نساء جسّدن حقبة من التاريخ الفرنسي بزواجهن من لويس الرابع عشر. من هن؟ وكيف لعبن أدواراً محورية في البلاط الملكي؟

كان لويس الرابع عشر ولقبه «الملك الشّمس» (1638 - 1715) أحد أعظم ملوك فرنسا. اتّسم عصره بتوطيد الملكية المطلقة في فرنسا، واشتهر بقوله «أنا الدولة والدولة أنا». كما شهدت البلاد في عهده توسعاً كبيراً في الأراضي المستعمرة والقوة العسكرية. عُرِف هذا الملك بتشجيعه للفنون والأدب، واقترن اسمه بأسماء أدباء كبار أمثال موليير، مؤسس الكوميديا الفرنسية الراقية، والكاتب المسرحي جان راسين، ملك التراجيديا.

ولأن لويس كان يحب الفخامة والرفاهية، بنى قصر فرساي الضخم (1661 - 1688) ليكون دُرّة التاج الفرنسي وقصره الملكي الرئيسي. كما عُرف بحبّه للنساء وعلاقاته العاطفية المتعددة التي كانت موضوعاً للكثير من الروايات الشهيرة. هكذا لعبت 4 سيدات أدواراً مهمة في حياة الملك الفرنسي وهنّ: زوجته الإسبانية، الملكة ماري تيريز، وعشيقته لويز دو لافالييه، وعشيقته الأخرى الماركيزة دي مونتسبان، ومستشارته الروحية مدام دي مينتينون.

الإسبانية ماري - تريز (1638-1683): ملكة صامتة رهينة السلام

  • لويس الرابع عشر ولقبه «الملك الشّمس»
    لويس الرابع عشر ولقبه «الملك الشّمس»

في مدريد العام 1638، وُلِدت ماري - تريز، ابنة فيليب الرابع، ملك إسبانيا، وإليزابيث، ابنة هنري الرابع ملك فرنسا. في العام 1660، تزوجت من ابن عمها لويس الرابع عشر ملك فرنسا. كان هذا الزواج جزءاً من شروط معاهدة السلام التي عقدت بين فرنسا وإسبانيا بعد سنوات طويلة من الحرب.

ونصّت الاتفاقية أن تدفع إسبانيا مهراً ضخماً قدره 500,000 إيكو (عملة ذهبية)، مقابل تنازل ماري - تيريز عن حقوقها كوريثة لعرش إسبانيا. ومع ذلك، كان الكردينال مازاران، رئيس وزراء فرنسا آنذاك، يعلم أن إسبانيا لن تكون قادرة على سداد كامل المهر، ما سيسمح لماري تريز بالاحتفاظ بحقوقها في الوراثة، وهو ما سيكون ذريعة لحرب مستقبلية بعد وفاة فيليب الرابع في العام 1665.

وصلت ماري تريز إلى فرنسا والتقت زوجها المستقبلي لويس الرابع عشر في حزيران/يونيو عام 1660. أثناء لقائهما الأول، كتب الملك عنها: «ليست جميلة جداً، ولكنها ليست قبيحة أيضاً». كان من الصعب على الفتاة البالغة من العمر 23 عاماً إخفاء قلقها من الطبيعة المظلمة والنظرات المتجهمة للويس الرابع عشر. اشتكت أيضاً من قسوة سيدات البلاط الفرنسي اللواتي كن يسخرن من لهجتها الإسبانية.

أحبّت ماري تيريز الملك بعمق وآثرت أن تعاني بصمت، وأن تتحمل الإهانة الناتجة بسبب عشيقات لويس الرابع عشر ونزواته التي لا تنتهي، فلم تُثر يوماً فضيحة علنية للملك. كانت خجولة وتقيّة ولا تجيد الكلام بالفرنسية، فابتعدت عن السياسة وحياة البلاط، ملتجئة إلى الدين. أنجبت 6 أطفال للملك توفوا جميعهم باستثناء ابنها الكبير، ولي العهد، لويس. أمّا الملك، فكان يشعر بنوع من المودة تجاهها، لكن ذلك لم يثنه يوماً عن الانغماس في حياة البلاط والارتباط بالعديد من فاتنات ذلك العصر.

عاشت ماري - تريز بهذه الطريقة منعزلة حتى وفاتها في قصر فرساي عام 1683 عن عمر ناهز 44 عاماً. لم تستطع طوال حياتها الاحتفاظ بقلب الملك، لكن زواجها به سمح بضمان السلام بين فرنسا وإسبانيا ومهّد الطريق لحكم أسرة بوربون في إسبانيا مع تولي حفيدها فيليب الخامس العرش في العام 1700، بفضل حقوقه في الوراثة.

لويز دو لافالييه (1644 - 1710): من الرفاهية إلى الرهبنة

كانت لويز دو لا فالييه (Françoise Louise de La Vallière)، أول محظية رسمية للملك الفرنسي لويس الرابع عشر. وُلدت لويز في عائلة نبيلة، حيث كان والدها حاكماً لقصر أمبواز. قضت طفولتها في مدينة تور وقصر لا فالييه في روغني. بعد وفاة والدها، تزوجت والدتها من  جاك دو كورتارفيل، أحد رجال حاشية غاستون، دوق أورليان (عمّ لويس الرابع عشر).

انتقلت العائلة إلى مدينة بلوا بعد زواج والدتها، حيث أصبحت لويز رفيقة اللعب للأميرتين فرانسواز وإليزابيث، ابنتي غاستون دوق أورليان. تلقت لويز تعليمها مع الأميرات، وتعلّمت الرقص والفروسية، ما أهلّها لتكون جزءاً من البلاط الملكي. في العام 1661، أصبحت وصيفة الشرف للأميرة هنرييتا الإنكليزية، زوجة الأمير فيليب، شقيق لويس.

التقت لويز  الملك لويس خلال عملها في البلاط، وسرعان ما أصبحت محظيته المفضلة. وقع الملك في حب لويز بسبب جمالها وتواضعها ومهاراتها في الموسيقى والرقص. رغم أن علاقتهما كانت سريّة في البداية،لكنها أصبحت معروفة لاحقاً، وأثارت غضب الكاثوليك المتدينين. كانت لويز تشعر دائماً بالذنب والخطيئة بسبب علاقتها بالملك. ولإرضاء لويز وإثارة إعجابها، نظّم لويس الرابع عشر العديد من الاحتفالات المهيبة على شرفها كحفل «ملذات الجزيرة الساحرة» في العام 1664.

أنجبت لويز للملك 5 أطفال، عاش فقط 2 منهم وهما ماري آن (مادموزيل دو بلوا) ولويس، كونت فيرماندوا. وعلى الرغم من أن الملك اعترف بأبنائه منها ومنحها لقب دوقة، فإن علاقتهما شهدت تدهوراً مع ظهور امرأة جديدة في البلاط، وهي مدام دو مونتيسبان.

بعد تعرضها للإهمال من قبل الملك، بدأت لويز تبحث عن العزاء في الدين. في العام 1675، دخلت دير الكرمل في ضاحية سان - جاك في باريس، حيث عاشت بقية حياتها تحت اسم «لويز دي لا ميسريكورد» Louise de la Miséricorde. قبل رحيلها إلى الدير زارت لويز  الملكة ماري - تيريز وطلبت أن تغفر لها الآلام التي تسببت لها بها نتيجة علاقتها بزوجها الملك. أُعتبر اللقاء بين المرأتين وتحديداً اللحظة التي طلبت  لويز فيها الصفح من الملكة، من أهم الأحداث المثيرة التي أثارت ضجة كبيرة في ذلك العصر.

رحلت لويز في 6 حزيران/يونيو عام 1710 بعد حياة دينية استمرت 36 عاماً، ودُفنت في مقبرة الدير بعيداً من أملاكها. كتب عنها الفيلسوف سان- سيمون بإعجاب، وأشاد بها الكاتب سانت - بوف كواحدة من أكثر المحظيات الملكيات إثارة للاهتمام. أصبحت لويز دو لافالييه «العاشقة المثالية». تلك التي أحبّت الملك من أجل الحب فقط، من دون كبرياء أو نزوة، من دون طموح أو غرور. تعكس سيرة هذه السيدة رحلة تحوّل فريدة من ترف القصور الملكية إلى زهد الحياة الدينية، وتُجسِّد قصتها قيم التوبة والتواضع والالتزام الديني في مواجهة الفتن والإغراءات الدنيوية.

مدام دو مونتسبان (1640 – 1707): اللجوء إلى الشعوذة للسيطرة على الملك

تُعدّ فرانسواز - أثينايس أو الماركيزة دو مونتيسبان (La marquise de Montespan) واحدة من أشهر عشيقات الملك لويس الــ 14 في فرنسا. تزوجت عام 1663 من أحد النبلاء ويدعى الماركيز دو مونتسبان وحصلت على لقبه. دخلت إلى البلاط الفرنسي كوصيفة للملكة ماري - تيريز زوجة لويس. حاولت الماركيزة جاهدة أن تثير اهتمام الملك لكي تحلّ مكان عشيقته لويز دو لا فالييه، وذلك باستخدام خفة دمها وسحرها وجمالها الآخاذ. نجحت دو مونتسبان في تحقيق هدفها وصار «الملك الشمس» طوع بنانها. وبعد انسحاب لويز دو لافالييه ولجوئها إلى الدير، أصبحت دو مونتسبان العشيقة الرسمية للملك وأنجبت له 7 أبناء. اعترف بهم لويس ومنحهم لقب «دو بوربون». 

تمتّعت دو مونتسبان بسلطات كبيرة في القصر وعاشت حياة مترفة وغاية في البذخ، فشجّعت الفنانين والأدباء والشعراء على عرض أعمالهم في فرساي، وأغدقت عليهم العطايا. وتُعدّ الحفلات الراقية التي نظمت على شرفها من الأروع في ذلك العصر. لكن ما لبث أن ساء الوضع بعد افتضاح تورطها بقضية خطيرة عرفت بقضية السّموم. إذ اشتبه البعض في ضلوع الماركيزة في محاولة تسميم «الدوقة دو فونتونج» الجميلة التي كانت تثير إعجاب الملك.

في العام 1679  أُتهمِّت مدام مونتيسبان بالتورط في هذه القضية بناءً على شهادات تفيد بزياراتها المتكررة لمشعوذة تُعرف باسم لافوازان  (La Voisin). ووفقاً للشهادة، فقد كانت دو مونتسبان تشارك في طقوس "شيطانية" تهدف إلى جعل الملك يعشقها مجدداً، وقد تضمّنت تلك الطقوس السماح للكاهن برسم شعارات سوداء على جسدها في احتفال غارق بالدماء، حيث يتّم التضحية بحياة طفل رضيع، وذلك من خلال شق حلقه بسكين، ثم سحق جسمه، واستخدام الدم المُصفى والعظام المهروسة في إعداد خليط لطعام الملك.

بقي طعام هذا الأخير ملوثاً بهذه الطريقة قرابة 13 سنة، حين انكشفت حيثيات القضية. غضب الملك بشدة من الماركيزة وأنهى علاقته بها إلى الأبد. حُكم على الساحرة لافوازان بالموت حرقاً، ولقي العديد من المتورطين حتفهم نتيجة التعذيب أو انتحروا أثناء التحقيق، وتمّ إعدام 36 شخصاً. 

في ما بعد، طلب الملك لويس من المحققين إخفاء كل المحاضر التي تشير إلى تورط دو مونتسبان بقضية السموم، تجنباً للفضيحة التي كانت ستحصل، لا سيّما أن أسماء كبيرة في البلاط شاركت في أعمال السحر والشعوذة. سمح الملك للماركيزة بالبقاء في القصر حفاظاً على سمعتها كونها أماً لأطفاله، لكنه استبعدها من الجناح الملكي. وبحلول عام 1691 انسحبت مدام مونتيسبان من البلاط الملكي نحو أحد الأديرة في باريس للتأمل والتكفير عن خطاياها.  

وبالرغم من هذه الفضيحة المُدويّة، تبقى الماركيزة دو مونتيسبان واحدة من أبرز الشخصيات التي طبعت حياة البلاط الفرنسي، سواء بتأثيرها على الملك أو بمساهماتها في الفن والهندسة المعمارية لقصر فرساي.

مدام دو مينتينون  (1635-1719): الزوجة الثانية الحكيمة 

وصلت فرانسواز دوبينيه، التي ستصبح لاحقاً مدام دو مينتينون (Madame de Maintenon) إلى بلاط فرساي في سبعينيات القرن الــ 17. تُعدّ هذه السيدة المرأة الأخيرة في حياة الملك والأكثر ذكاء من بين جميع المحظيات، إلى حدّ أنّ البعض قال إنّها الوحيدة التي كسبت عقل الملك واستطاعت أن تؤثر في قراراته. وُلدت مدام دو مينتينون عام 1635 في سجن نيور حيث كان والدها مسجوناً بسبب الديون. تزوجت لأول مرة عام 1652 من الكاتب المسرحي والشاعر  اللامع بول سكارون. بعد وفاة الأخير عام 1660 لم يترك لها سوى الديون واسمه المعروف الذي سمح لها بمواصلة الاختلاط بالأوساط الملكية. بناءً على اقتراح من صديقتها المركيزة دي مونتسبان، التي تعرّفت عليها قبل سنوات قليلة، وافقت فرنسواز في العام 1669 أن تصبح مربيّة لأطفال الملك. ونظراً إلى وجودها الدائم بجانب الأطفال الملكيين، تمكنت من لقاء الملك باستمرار، ما أتاح لعلاقتهما أن تنمو وتتطور مع مرور الوقت.

أُعجب الملك بأسلوب التربية والتعليم الذي اتبعته فرانسواز مع الأطفال وعنايتها بابنه المصاب بالكساح وإشرافها على علاجه، فبدأ يتقرب منها، خاصة أن الماركيزة دو مونتسبان كانت تهمل الأولاد ولا تهتم سوى بجمالها وحياة البلاط العابثة. في العام 1674، منح لويس الرابع عشر فرانسواز مبلغاً ضخماً من المال سمح لها بشراء  قصر فخم ثم منحها لقب مدام دو مينتينون، أي أنها أصبحت ماركيزة، تماماً كغريمتها دو مونتسبان.  

في وقت لاحق، استفادت فرانسواز من سقوط دو مونتسبان بسبب قضية السّموم، ومن وفاة الملكة ماري - تيريز لتتزوج من الملك في العام  1683. بقي هذا الزواج سريّاً بسبب أصول السيدة دو مينتينون التي لا تنتمي عائلتها إلى ملوك أوروبا. فقط الكنيسة وبعض أفراد حاشية الملك كانوا على اطلاع على حيثيات هذا الزواج. 

كان لمدام دو مينتينون تأثير ملحوظ على الملك، لا سيّما في مسائل التقوى والأخلاق. لقد شجعت هذه السيّدة على حياة أكثر اعتدالاً وتديّناً في البلاط، ما غيّر أجواء قصر فرساي. ووصف البعض حقبة دو مينتينون بالقاسيّة والمملة، ولامها الكثير من رجال البلاط على الحياة الجديدة الزاهدة للويس الرابع عشر. إذ تخلى الرجل عن كل ملذات الحياة بعد زواجه منها ليتفرغ فقط للحكم وإدارة الدولة. وكان من إنجازات مدام دو مينتينون الكبرى تأسيس دار القديسة لويز في سانت سير عام 1686، وهي مؤسسة تعليمية للفتيات النبيلات اللواتي لا يملكن ثروة. شاركت دو مينتينون بنشاط في إدارة هذا المعهد، وكانت تتأكد بنفسها من تطبيق القواعد وتنظيم الأنشطة الدينية والتعليمية.

قبل أيام قليلة من وفاة لويس الرابع عشر في العام 1715، انسحبت هذه المرأة القويّة إلى سان سير، لتعيش في دار تعليم الفتيات التي أنشأتها وحرصت قبل رحيلها على إخفاء كل أثر يربطها بالملك. 

لا شك أن حياة الملك لويس الرابع عشر وعلاقاته مع النساء تُجسِّد روح العصر الذي عاش فيه. من خلال قصص هؤلاء السيدات الأربع، نلمح صورة متكاملة لحقبة تميّزت بالفخامة والرخاء من جهة، والتديُّن والزهد من جهة أخرى. من ماري تيريز التي آثرت الصمت والصبر، إلى لويز دو لافالييه التي عاشت حكاية حب مأساوية مع الملك، فالماركيزة دي مونتسبان التي لجأت إلى السحر للسيطرة عليه، لينتهي المشوار عند مدام دو مينتينون الحكيمة التي أصلحت ما أفسدته السابقات. إنها حقبة بكاملها من التاريخ الفرنسي المثير تجسّدت من خلال قصص هؤلاء النسوة، ليؤكدن بذلك الدور المحوري الذي لعبته المرأة في حياكة الأحداث عبر العصور.