"المصيدة ": عندما يتحوّل الوطن إلى مصيدة والمواطنون إلى طرائد
بطل "لمصيدة" يشبه بطل رواية رائعة "موسم الهحرة إلى الشمال"مصطفي سعيد فإذا كان البطلان المثقفان متشابهان في الاختفاء، غير أنهما مختلفان في أسبابه وظروفه وفي خيوط الاستدلال على أسراره ومفاتيح البحث عن مصيره المجهول.
ينطوي عنوان راوية "المصيدة" للدكتور عبد المجيد زراقط الصادرة حديثاً عن دار" البيان العربي" في بيروت على دلالتين لغويتين: الأولى المَصيدة، بفتح الميم، وهي على وزن مَفعلة، وتعني المكان، ومكان هذه الرواية هو بيروت والمنطقة الحدودية، أي المدينة والريف في لبنان، فهذا المكان هو مصيدة المواطن اللبناني، الواقع بين مصائد الفساد والاستبداد والميليشيا والعدو المحتل وعملائه، والثانية المِصيدة، بكسر الميم، وهي على وزن مِفعلة، وتعني اسم الاَلة، والاَلة/ المصيدة، في هذه الرواية هي القوى الحاكمة: الساسة الفاسدون المستبدون، الميليشيا، العدوُّ المحتلُّ وعملاؤه.
تبدأ الرواية بتصديرين: الأول يفيد أن أسوأ حالات الإنسان هي تحكّم الجاهل بالعاقل، وهذا ما حدث لنبيل عامل، الشخصية الرئيسية في الرواية، والثاني يفيد، كما يقول نبيل عامل، أن لكل إنسان شباكه، وشباكي هي روايتي، فنبيل يعلق في شباك الميليشيا والعملاء وفاقدي القيم الإنسانية، وفي الوقت نفسه يريد لروايته أن تكون شبكته لاصطياد القرّاء، بغية تقديم معرفة روائية لهم بهذه الشباك، يتلقّونها في مناخ المتعة الجمالية الأدبية.
حول نبيل عامل الشخصية الرئيسة في الرواية تتمحور الأحداث، ونبيل عامل هو مدرّس ناجح يدرّس الأدب العربي في الثانويات الرسمية ويكتب القصة القصيرة وينشرها في الصفحات الثقافية في الصحف والدوريات المحلية والعربية.
يدفع نبيل هذا المثقف اليساري أثماناً باهظة من جراء عناده ومشاكسته للواقع الذي أفرزته الحرب الأهلية من تهديد ووعيد ودسائس ومكائد، وبتعرض للاعتداءات والترهيب من قبل الميليشيات المسيطرة على بيروت الغربية وقوى الأمر الواقع حينها إلى الحد الذي وصل بأحد قادة الميليشيات ويدعى" أرقش" إلى السطو على شقته السكنية حلمه هو القادم مهجراً من قريته الجنوبية من نير الاحتلال الإسرائيلي، ليجد نفسه إزاء ظلم وعسف آخر ممن كان يظن أنهم السند للطبقات الفقيرة، فما إن اشترى هذه الشقة ليلمّ عياله تحت سقفها، وبدأ بطلائها حتى يقتحم عليه مسلحو إحدى هذه الميليشيات ويقتادوه إلى جهة مجهولة ويطلب منه الأرقش التخلي عنها. يدافع نبيل عامل بعناد عن شقته التي اشتراه بتعب جبينه رافضاً الإذعان لتهويل الأرقش الذي ألصق به تهمة العمالة لإجباره على التخلي عن حلمه بتملّك شقة يلمّ شتات عياله عن قارعة الطريق.
في بنية الرواية، تبدأ الرواية من النهاية التي تبقى مفتوحة، وهي اختفاء نبيل عامل، وإعطاؤه مخطوطة رواية، وطلبه من صديقه صاحب دار النشر، سامي الكاتب أن يستكتب كل من يسأل عنه، ليكتب معرفته به، وينشر ذلك كله في رواية، فيفعل سامي ذلك. وتبدأ الرواية بعودة الزمن إلى الوراء بعد أن يغادر نبيل مكتب صديقه سامي الكاتب ويختفي عن الأنظار تاركاً دفتراً غنياً بالمعلومات عنه، ويطلب من سامي أن يستكفيه بالطلب من كل من يعرف نبيل أن يكتب عن تجربته الحياتية معه حتى تكتمل رواية "المصيدة" وتجتذب بشباكها القرّاء. وهكذا لم يترك زراقط قارئه من دون خارطة طريق تهدي إلى مصير بطله نبيل عامل كما فعل الطيب صالح في مصطفى السعيد بطل رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، فإذا كان البطلان المثقفان متشابهان في الاختفاء، غير أنهما مختلفان في أسبابه وظروفه وفي خيوط الاستدلال على أسراره ومفاتيح البحث عن مصيره المجهول.
يتحدث نبيل في دفتره عن تجربة الاعتقال عند ميليشيا أرقش، ويصف المعتقل النتن العفن حيث يعيش في غرفة معتمة، ضيقة، سقفها واطئ، عفنة، نتنة، الحرارة فيها مرتفعة، يرقد على طراحة إسفنج رقيقة، كريهة الرائحة، يرى، وهو بين اليقظ والغافي، شاشة تضيء، على الحائط أمامه، يرى الشهود الذين أتوا ليشهدوا أمام أرقش، ثم يراهم ويسمعهم، وهم يتحدثون عنه، يروون حكاياتهم معه، هل هذا واقعي، أو غير واقعي؟ حدث فعلاً، أو أنه لم يحدث، وكان تخيّلاً غرائبياً؟ هل وضع أرقش تلك الشاشة؟ وهل استدعى أولئك الشهود؟ هل تخيّل نبيل ذلك، وروى ماحدث؟ أو أن بعضه حدث فعلاً، وبعضه الاَخر لم يحدث، وكان متخيّلاً؟ هذه الواقعية/ الغرائبية جديدة/ تجريبية في الرواية، وهي دالة على حقيقتين متضادتين: الأولى استبداد الميليشيا وفسادها ووحشيتها وكذبها، وثانيتهما نبل نبيل وصدقه ووطنيته وإنسانيته...
بعد نبيل تتناوب على السرد مجموعة من الشخصيات التي تمثل حقبة الحرب الأهلية في لبنان، وذلك برشاقة وسهولة ويسر بما يبيّن وجهات نظر مختلف الأطراف المعنية بأحداث الرواية من خلال تقنية تعدد الأصوات، حيث يضيء كل من موقعه شخصية نبيل عامل وتداعيات الحرب الأهلية في لبنان على النفوس، وكيف كان أمراء الحرب يتحكمون بالقوانين ضد اللبنانيين ويمارسون سلطتهم على أرض الوقع بكثير من التعسف والفوقية. وكأنه لا يكفي نبيل عامل ما لقيه من جحيم الاحتلال الإسرائيلي حتى يقع في جحيم آخر لا يقل تأججاً وضرواة.
ولا تكتفي الرواية بذلك بل تضيء على تداعيات الحرب على نفوس البشر من فساد حتى في المؤسسات التربوية التي يفترض أن تكون آخر من تصل إليه الآثار السلبية للحرب الأهلية.
تشي أسماء" المصيدة" بانتقائية أسهمت مدلولاتها في تشكيل البناء الروائي، فاسم نبيل عامل، دال على النبل والانتماء إلى جبل عامل، واسم كل من أرقش وثعبان دالٌّ على الأفعى السامة، الأمر الذي يتماهى مع مسلكيتها الحياتية، فثعبان التلميذ الفاشل الذي بات عميلاً للمحتل يسعى للانتقام من أستاذه المناقبي نبيل الذي كان يرسل الطلاب وراءه ليعيدوه من الحقول والبساتين إلى المدرسة ويشتري له الكتب التي يمزقها له أبوه كي يعلّمه ويصنع منه رجلاً، وكساب معتمد القبض في المدرسة الرسمية يحسم عشرة آلاف من رواتب زملائه الأساتذة، ونبيل عامل يجسد المقاومة العاملية في وجه الاحتلال، وسامي الكاتب مثقف ويمتلك داراً للنشر... وصديقة نبيل الحميمة صفية عالم هي باحثة في مركز الدراسات. أما بقية الأسماء -الرواة الذين بلغ عددهم 21 راوياً فقد تناوبوا كل من موقعه على إضاءة الزوايا المعتمة في حياة نبيل عامل .
يمضي نبيل عامل إلى مصيره المجهول تاركاً وراءه غلالة من السخرية السوداء من الواقع الذي يعيش فيه فواز مساعد أرقش الصحافي، بائع النصوص والمقالات، اتهام نبيل بأنه عميل فلسطيني وبالانعزالية في الوقت عينه لتسويغ انتزاع شقته منه، واتهام نبيل بسرقة بحثه الجامعي وهو لا يعرف عنوان البحث، وتشكيل حلقة دبكة في الصف لاستدراج الطلاب المسلحين في الثانوية للمشاركة في الدرس. وهكذا تنقضي أحداث الرواية لتقودنا إلى الظروف التي دفعت نبيل عامل إلى الاختفاء، ففي هكذا وطن ومع هذه الأصناف من البشر من الطبيعي أن لا يجد أمثال نبيل مكاناً.