"اللوفر" المسروق: استعادة المنهوب أم تفكيك لهيمنة المتحف الغربي؟
تفتح حادثة سرقة "اللوفر" النقاش حول ملكية مقتنياته وعلاقتها بالنهب الاستعماري للشعوب. فهل تؤشر هوية السارقين على استعادة ما لتاريخهم المنهوب وتفكيك للهيمنة الرمزية للمتحف الغربي؟
لم يمض وقت طويل على سرقة 8 قطعٍ ثمينة من متحف "اللوفر" في باريس، حتى تمكّنت الشرطة الفرنسية من إلقاء القبض على مشتبهين اثنين في القضية.
وأفاد تقرير نشرته "بي بي سي" البريطانية، أنّ المدعي العام في باريس أعلن عن نجاح الشرطة في اعتقال شخصين، من دون أن يخفي امتعاضه من عدم توفر "كامل المعلومات والأدلة" حول القضية.
وجاء في المعطيات التي كشفت عنها الشرطة لوسائل الإعلام، أن أغراضاً متروكة في متحف "اللوفر"، مثل سترة وقائية وقفازات، أتاحت لهم إجراء فحوصات للحمض النووي، ليتبيّن على إثرها هوية المشتبهين، قبل أن يتم لاحقاً توقيف شخصين إضافيين أحدهما امرأة.
واستطاعت الشرطة توقيف الشخصين الأولين وهما يهمّان بالرحيل: واحد منهما كان في طريقه إلى الجزائر، أما الآخر، فقد "خلصت" الشرطة أنه أراد التوجه إلى مالي.
لم يشعر مدّعي عام باريس بالإحباط لأن نتائج التحقيق "غير الناضجة"، كما وصفها، لأن هناك رائحة "تسييس" تفوح في الأرجاء، إنّما هي "غير ناضجة"، بحسبه، لأنه يريد معرفة مصير المجوهرات المسروقة بأسرع وقتٍ ممكن.
على أنّ أول ما سيخطر في ذهن قارئ الخبر هو أنّ "الوجهة" التي أخذها المشتبهان، كل واحد منهما على حدة، تفصح إفصاحاً تاماً عن هويتهما. هكذا، تصير الوجهة بمنزلة إعلان عن الشخص، أي تشهر بهويته.
وفي هذا السياق، يغدو "رحيلهما" بمنزلة "عودة" إلى... بلديهما: مالي، والجزائر. وهذا يعني أنّ المشتبهين هما "أجنبيان"، أي "مهاجران"، وهي الفئة التي تعدّ في المخيال الفرنسي "فاندالية" (vandalistes) أي "تخريبية" (vandalism)، إذ إن المهاجرين يسرقون، ويحطمون، ويخربون فرنسا.
والحال، فقد أوردت الشرطة الفرنسية في تقريرها الآتي: "أما المشتبه به الثاني، فقد كان مفهوماً أنه كان سيتوجه إلى مالي"، وقد جاء تصريح الشرطة هذا في وقتٍ سابق على مساءلتهما القانونية، أي قبل الشروع في التحقيق؛ فهل كان "مفهوماً" -أنه سيتوجّه إلى مالي- من لون بشرته؟
لا تزال التحقيقات جارية، وفي كل الأحوال، فإنّ وصف مدعي عام باريس للقضية صائب: كل شيء يبدو "غير ناضج"، أو لعل العكس هو الصحيح؛ ناضج بل مستوٍ إلى حدٍّ يلامس فيها حرارة الإعلام الأميركي، هناك حيث تعزى جرائم القتل التي يرتكبها "الرجل الأبيض" بحق المسلمين و"المهاجرين" إلى الجنون والأمراض النفسية، وحيث كل عمل "تخريبي" يعدّ من صنيعة أصحاب البشرة السوداء.
السرقة: ماذا سُرق؟
-
بالنسبة إلى من ينظرون إلى المتاحف بوصفها مؤسسة إيديولوجية فإنّ خبر سرقة مجوهرات وتيجان الأباطرة هو خبر سياسيّ مفرح
هكذا سطت "العصابة" المكوّنة من 4 أشخاص على متحف "اللوفر" وسرقت قطعاً باهظة الثمن: أقراطاً وعقوداً مصنوعة من أحجار نادرة ومن اللؤلؤ والألماس، وتاجاً يعود إلى الملكة ماري أميلي ورثته منها الملكة هورتانس. أما التاج الذي يعود إلى الملكة أوجيني زوجة نابوليون بونابرت والذي أثار البلبلة وحوّل حدث السرقة إلى ما يشبه "الحرب على فرنسا"، فقد سقط من العصابة أثناء فرارها ولم ينجحوا في سرقته.
إنها المرة الثانية التي يتعرض فيها "اللوفر" للسرقة. المرة الأولى كانت عام 1998، أما الثانية، وهي السرقة الأضخم، وقد استغرق تنفيذها 7 دقائق فقط، فحدثت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2025.
بالنسبة إلى من ينظرون إلى المتاحف على أنها مؤسسة إيديولوجية، ومكان سياسيّ مليء بالدلالات، ومكانٌ تحنَّط فيه الذاكرة الاستعمارية، فإنّ خبراً كهذا، أي سرقة مجوهرات وتيجان الأباطرة هو خبر سياسيّ مفرح للغاية.
تحت عنوان "ما عليك معرفته بشأن المجوهرات المسروقة من اللوفر"، قدّمت المجلة الإلكترونية "Everything is political" على صفحتها على "انستغرام" تحليلاً مفصلاً حول تلك المجوهرات المسروقة، وعن المواد المصنوعة منها وعن اليد العاملة التي صنعتها.
في ما يلي، نقرأ تلخيصاً عمّا ذكرته المجلة: "تتشكّل الأقراط والعقود بشكل أساسي من حجر الزمرد، وقد استُخرج هذا الحجر من كولومبيا، ومن مستعمراتٍ أخرى تحت وطأة الاستعمار الإسباني، وقد كانت اليد العاملة المستغلَة التي تستخرج هذا الحجر حتى تحظى الملكة بأقراطها، هي من "السكان الأصليين". تاج الملكة ماري أميلي المؤلف من أحجار كريمة مصدرها الهند، كما أنه يحوي أحجار الزمرد وأساسها كولومبيا. وجب التذكير بأن القطع المسروقة من متحف "اللوفر"، تعود برمتها إلى الحقبة "النابوليونية"؛ وهي الحقبة التي شهدت أوج فترة النهب، وسرقةٍ ممنهجةٍ للآثار الفنية من قبل جيوش نابوليون بونابرت بهدف جعل باريس عاصمة ثقافية عالمية".
نحن إزاء عصابةٍ سرقت ما كان مسروقاً. تذكرنا مجلة "Everything is political" بأن ثروة ونفوذ نابوليون بونابرت ارتبطت "ارتباطاً لصيقاً بالاستعمار، بالنهب، رغم أنه لم يكن حاكماً على أيّ مستعمرة. مستعمرات مثل جزر الكاريبي كانت تضخ لفرنسا الثروات". في الحقبة "النابوليونية" إذاً سُرقت "أعمال فنية، معادن ثمينة، وأحجار كريمة عدا عن خلقها- الحقبة النابوليونية- مستعمرات".
إذا كان الإعلام الفرنسي يروم إسباغ الشُبهة على من اعتقلهما ومن وصفهما بـ"مشتبهين"، وهي شُبهة "المهاجر/السارق" أي "المهاجر المخرّب"، فليس "التخريب" هنا سوى ممارسة "ثورية" تحصل داخل فضاء (متحف) مغلّف بالسيادة: الشرعية المستمدة من القوّة السياسية. على أنّ ما يضاعف من "ثورية" هذه "الممارسة الثورية" مقرون بحقيقة "الشُبهة" التي أوحى بها الإعلام الفرنسي. يعني أنّ يصح ما أريد للمشتبهين اتهامهما به، أي أنّ يكونا من مالي ومن الجزائر؛ فالفظائع الفرنسية من سرقةٍ وإبادةٍ وإماتة بحق هذين البلدين لا تُعَدّ ولا تحصى. وإذا صح ما أريد الإيحاء به بأن واحدهما من الجزائر والثاني من مالي، فنحن بالتالي، إزاء سرقة المقهورين لما سُرق منهم. هكذا تعود تلك الأحجار البلّورية إلى الأيادي التي سبَق واستخرجتها حين كانت تعمل تحت نظام العبودية والرق الذي فرض يوماً عليها.
العصابة التي سطت على متحف "اللوفر" تسطو، بشكلٍ ما، على الحكاية: تسرق البريق الذي يحوّط حاضرها، وتذكرنا بأن ثمة ماضياً مأساوياً ملطخاً بالدّم لهذه القطع التي تُعرض، والتي تبرق، من وراء الزجاج. السطو على الحكاية هو استعادة الحكاية نفسها.
"التخريب" مقابل "السرقة"
-
محاولة تخريب لوحة الموناليزا عام 2024 احتجاجاً على الحالة المعاصرة للزراعة
غير أنّ "التخريب" أو "الفاندالية"، التي طالما وصمت فرنسا "المهاجرين" الوافدين إليها، بعد أن خرّبت بلادهم بالحروب أو بالسياسة وحملتهم سمة "التخريب"، له دلالته الفنّية، ويختلف، "التخريب" عن "السرقة"، ولو أنها تعدّ عملاً تخريبياً.
بعض النقاد الفنيين أعربوا للـ"بي بي سي" عن خشيتهم من أن تكون العصابة قد "خرّبت" تلك القطع من خلال تذويب المواد كالذهب والفضة والأحجار الكريمة، إذ حينها يستحيل استعادتها، وإن استعيدت فسيعجزون عن إصلاح الضرر. بيد أننا لسنا أمام عملية "تخريب" بالمعنى "الفانداليّ" الذي يحصل في العادة.
لوحة "الموناليزا" جذبت "المخربين الفانداليين" بقوّة. فقد تعرضت للتخريب أكثر من 3 مرات. كانت المرة الأخيرة في 28 كانون الثاني/يناير عام 2024، حين قام اثنان من المهاجمين من جماعة حماية البيئة بإلقاء حساء على (الزجاج الواقي) للوحة احتجاجاً على الحالة المعاصرة للزراعة.
يبقى أن "التخريب" و"السرقة" مهما نبعا من دوافع فردية أو من رغبة في الثروة، فإنهما استجابة لظرف سياسي واقتصادي واجتماعي. نحن أمام عملين يستهدفان المتحف، ومتحف "اللوفر" في نهاية المطاف، لهو تجميع لسرقات الأباطرة المتراكمة على مدى التاريخ.
المتحف كذاكرة استعمارية
-
إنّ ما يشكّل حاضر أوروبا "البهيّ" اليوم هو ماضٍ "مسحوق" غير أوروبي
العصابة التي "سرقت" المجوهرات من متحف "اللوفر" توقظ فينا ما اعتبرناه منسياً. ليس المتحف كما يروّج له، مكاناً محايداً يعرض "الروعة" للفرجة، ولا هو ملاذ للحضارة ولا ثلاجة التاريخ، بل إنه كما يصفه المفكر الكيني، نغونغو واثيانغو، "قبرٌ جماعيّ للآخرين".
بوسعنا وصف المتحف بأنه حكومة فنيّة غير تكنوقراطية، حكومة تمثّل "البنية التحتية" لإيديولوجيا الهيمنة. وما دام نغوجي واثيونغو اعتبَر أنّ تحرير الإنسان يبدأ بتحرير اللسان، في استعادة الإنسان للغته الأمّ، فإن سرقة مثل هذه القطع الفنية لهي، بعبارة واثيونغو، "انتزاع لمعمارية الفكرة المركزية الأوروبية"، حيث يُعرض التاريخ المجمَّل وراء صناديق زجاجية منسّقة بعناية، وبالتالي نحن أمام عملية تحرير.
العقود والأقراط والتيجان المصنوعة من موادٍ ثمينةٍ والتي نراها تحفاً جميلة بدلاً من اعتبارها عصارة تراجيدية لعذاب الشعوب المستعمَرة، لأن النظام الجماليّ فرض هذه الرؤية وعممها. فما يعد جماليّاً ويتباهى المتحف بعرضه فقد صار جميلاً لأن المعايير الجمالية قد شكّلها المستعمِر وفقاً لذائقته وأيديولوجيته. على هذا النحو، ليس المتحف إلا جهازاً من أجهزة السلطة الكولونيالية، يعمل على إعادة تدوير العنف في صورة الجمال. إنه المكان الذي تبدو فيه الجريمة إبداعاً فنياً.
في التماثيل الأنيقة والمجوهرات المرصّعة، يظهِر المتحف الزينة، إلا أنها السطح الذي يخفي تحته العنف. ثمة محو للسردية وإعادة تشكيل للصورة: يرينا المتحف قطعة "رائعة" ويراهن على اكتفائنا بالنظر. غير أنّه في انبهارنا المرجوّ تطمس قصّة القطعة "الرائعة": لقد صنع هذه القطعة "عبيداً". هذه القصة الحقيقية لا تروى. أما القصة المكرورة، والتي لا تروى أبداً هي التالي: لقد سُرقت هذه القطعة من إحدى المستعمرات، أو لقد سرقت من إحدى الدول في أعقاب حروب شنّها الغرب. ثمة نزع وتجريد للسياق الحقيقي، للتاريخ.
تفتح العصابة التي سطت على متحف "اللوفر" أعيننا، توقظنا، أو بالأحرى تقوّض ذاكرتنا، فنرى أن السارقين الفعليين ليسوا اللصوص الذين تسللوا إلى ذاك المبنى في باريس وأتمّوا عمليتهم بسبع دقائقٍ، بل إنّ اللص الحقيقي هو الغرب (الذي تمثّله متاحف مثل اللوفر) الذي يعد نفسه "الوريث الشرعي للتاريخ". سرق اللصوص 8 قطع من حقبة بونابرت، فيما لا تزال متاحف أوروبا لغاية يومنا هذا تسرق آثار الحضارات غير الأوروبية.
إنّ ما يشكّل حاضر أوروبا "البهيّ" اليوم، هو ماضٍ "مسحوق" غير أوروبي، وبينما يعوّل الأوروبي على النسيان جاءت عصابة مقدَّرة بأربعة أشخاص وصوّبت الأمور من جديد، فتحت نقاشاً ليس من مصلحة المتّهَم؛ ذاك أن نقاشاً كهذا يحوي فضيحة تكشف تخفّيه، هو الذي جهد في التقنُّع، ليبرئ نفسه... كغازٍ.
"الاستعادة": العودة إلى الأصل
-
"الاستعادة" عند دباشي أبعد من إعادة المسروق بل هي فعل "تفكيك للهيمنة الرمزية"
لو جاءت هذه السرقة من قبل مجموعةٍ ثوريةٍ أرادت استرجاع ما نهِب من وطنها لكان المفكر الإيراني، حميد الدباشي، أسعد السعداء بهذا الحدث. في كتابه "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟"، يقترح دباشي ما يطلق عليه توصيف "الاستعادة".
و"الاستعادة" عند دباشي هي أبعد من إعادة المسروق إلى مكانه، أي استعادته بوصفه "ملكية"، "الاستعادة" كما ينظّر لها دباشي هي فعل "تفكيك للهيمنة الرمزية" التي تجعل من المتحف الغربي "حكماً على الجمال والمعرفة معاً".
لا يقترح دباشي الإتيان بشاحنة وتحميلها بالمقتنيات المسروقة لإعادتها إلى وطنها، بل هو يطالب بـ"إعادة تموضع للذات في مواجهة المتحف الإمبراطوري". شاب "يرحل" إلى الجزائر، بينما "يرحل" الآخر إلى مالي بعد سرقةٍ نفذاها ربما لم يستعيدا من خلالها ثروات بلادهما غير أنهما يعيدان إلى من سقف على الضد من المركزية الغربية، السؤال الذي يجهز على الجهاز العصبي لمتحف "اللوفر": من أين جئت بهذا؟ أليس أساس كل مقتنياتك السرقة؟
هناك تموضع للذات الرافضة للمركزية الغربية في مواجهة الجمالية الغربية إذاً. تستحضر هذه الذات المتموضعة على الجهة النقيضة من "إمبراطورية المتحف" الدم المهدور، والتاريخ المخزيّ، والقهر المديد، وترميه على الأسوار المشيّدة وكأنها تلقي الحجارة على زجاج العرض.
على هذا النحو، تغدو سرقة المجوهرات المسروقة أصلاً ليس استعادة للمسروق فحسب، بل استعادة للحكاية. تفتح هذه الاستعادة ثقباً يتيح لنا إيجاد تماس بين "السرقة" و"التخريب" بوصفه ممارسة فنّية. ففي فعل السرقة هذه فقدان لشيء ثمين أكثر من القطع الثمينة وقد احتمى فيه متحف "اللوفر": قدسيته. تلك القداسة كانت تحميه ليس من السؤال بل من المساءلة.
خرجت القطع الثمينة من واجهات العرض وأعادت لنا ما سلب منا: حق الحكاية. فالمتحف لا يسرق الشيء فحسب بل يسرق معناه، لذلك يرى الدباشي "أنّ استعادة المسروق ليس استعادة أشياء، بل استعادة معنى العالم".
هكذا تعود الذاكرة الإنسانية من حالة الخطف التي تعرضت لها، من الاختطاف، ويعود التراث إلى ذاته. حين امتدت تلك اليد الذاهبة إلى الجزائر والأخرى الذاهبة إلى مالي فإنّها لم ترتكب جريمة، بل مارست شكلاً من العدالة المؤجَّلة، وفتحت ثقباً لاستعادة الحكاية، وحررت المسروق من العرض.
