"الشوايا" أو أولئك الذين لا نفهم لهجتهم وأصولهم!

نرجوكم، اذهبوا إلى الجزيرة السورية، ولو لمرّة واحدة، في رحلة خاطفة، فهناك ستفهمون جيداً معنى أن يكون المرء سورياً، ولا تستغربوا إن خلع أحدهم عباءته أو فروته ودثّر بها الضيف!   

بدلاً من أن تعمل سنوات الزلزال السوري على تظهير صورة البلاد كما هي، تكشّفت الصورة عن أكثر من "نيغاتيف" متوَهّم للخريطة السورية، وكأن أرشيف الحرب والخراب والنزوح والتهجير، لم يضف جملة مفيدة واحدة في الوعي الجمعي للسوريين!

هناك جهل فاضح في تفسير هذه الفسيفساء التي تنطوي على تنوّع حضري فريد في صناعة هذه الجغرافيا التي تشبه الجنّة. المسألة لا تخصّ العوام فقط، إنما انزلقت إلى فضاء النخب بتصوّرات مغلوطة عن الأصول، وذلك بتبنّي قيد نفوس مزوّر راكمته السلطات المتعاقبة عن قصد أو عن إهمال، وإذا بشجرة النسب العمومية تحفر في أرض رخوة جرى تعميمها باطراد على خصوصية الأقاليم السورية وتباين ثقافاتها إلى حدود القطيعة.

هكذا بدت المنطقة الشرقية من البلاد (الرقة، ودير الزور، والحسكة) مشلوحة بعيداً، بتعميم غير مكتوب، وكأنها تنتسب إلى ثقافة أخرى أقلّ أهمية من سواها وبات على أبنائها تصحيح الصورة مرّة تلو مرّة، من دون جدوى. فحضارة الفرات والجزيرة السورية العليا كنسخة متداولة، هي عشائر متخلّفة من رعاة الإبل، وبقايا بدو رحّل، و"شوايا"(!)، والمفردة الأخيرة تعني أبناء الأرياف في المقام الأول، كما أنها تحضر كتعبير عن شتيمة أو عنصرية أو انحطاط أو قذارة أو تحقير، فيما تختلف المعاجم في تفسيرها بدقّة.

بالطبع، لم يكترث أهالي الداخل بترجمة هذه الكلمة الطارئة خارج الأوصاف السابقة، بمن فيهم أبناء الأرياف الأخرى الذين يحملون المكوّنات ذاتها قبل زحفهم إلى المدن وانخراطهم في مهنٍ أخرى. في السجالات الدائرة حول الأصول الإثنية للسوريين، تتفاوت المعايير في توطين أبناء هذه المنطقة أو تلك في قيد النفوس الوطني، ما عدا أبناء المنطقة الشرقية بوصفهم أبناء البطة السوداء ربما، أو أولئك الغرباء الذين لا نفهم لهجتهم، وهم أيضاً الذين نتجاهل أسباب توافد مرضاهم إلى عيادات أطباء العاصمة بأمراض لا شفاء منها. إذ لا مستشفيات أو خدمات طبية كافية في مناطقهم التي تختزن أكبر مساحة من التلوّث البيئي، وهم أيضاً من يقطنون خارج السور العمومي للبلاد!

على المقلب الآخر، يجهل معظم السوريين الذين ينتمون إلى جغرافيا أخرى، أين يقع نهر الفرات بدقّة أو من أين ينبع نهر الخابور وأين يصب، وماذا تعني حضارة تل حلف، ومعنى وجود ألف تلّ أثري في تلك الجغرافيا المنكوبة والمنهوبة، ومن هم هؤلاء الحفاة الذين تعلّموا الأبجدية في المدارس الطينية، وكيف تهبّ عواصف الرّب الرملية كضريبة إضافية إلى فاتورة البؤس؟

إنهم يختزلون "الشاوي" بذلك الكائن المخذول الذي يرتدي الجلابية والعقال ويشغف بالشاي الأسود شديد الحلاوة، غير مدركين حاجته إلى تلك الحلاوة للحفاظ على روح بيضاء غير ملطّخة بالذنوب. ذلك أن تراكم العسف التاريخي جعل هؤلاء يخشون كلّ من يرتدي سروالاً بمن فيهم  شرطي السير، فيما كانت ثروات المنطقة (نفط، وقمح، وقطن، وماشية) تُنهب علناً، وكان على هؤلاء نتيجة الجفاف أن ينزحوا عن قراهم مرغمين إلى الداخل للعمل في القطاف أو حراسة مزارع الأثرياء أو العمل كمستخدمين في الدوائر الحكومية، في أكبر عملية نزوح اضطرارية، وإذا بهم يُصفعون بنعوت أكثر مرارةً وأكثرها تداولاً، "نَوَر الجزيرة"، بوصفهم غجراً لا جذور لهم، وذلك بمحو تاريخهم القبلي العريق بعبارة على الهامش.

المفارقة أن كلمة "شوايا" بدل أن تطوى من القاموس كمفردة ازدراء مجانية، ازدادت حضوراً في نسيج ما بعد الحرب، وذلك برايتين خفّاقتين، واحدة يحملها أبناء المنطقة من موقع الاعتزاز البدوي بالجذور وإلباسها زخارف من الفروسية والنخوة وإغاثة الملهوف، والأخرى يرفعها السوري الآخر كتعبير عن النبذ لهؤلاء القوم بنوعٍ من التعالي الأحمق، من دون تجريف أو تقشير للمصطلح، وإذا بنا حيال صراع عشائري لا أكثر، تجتذبه المدوّنات الإلكترونية والمقاهي والمضافات، على الرغم من أن أكثرية المجتمع السوري من أصول ريفية ومسلك عشائري، وتالياً لا فرق عملياً بين من يربّي "الشياه"، أو من يربي الماعز والأبقار. أما الخيل التي كان يتغنّى بها الأجداد في مجالسهم فلا مكان لها في فوضى الحظيرة!

إنها لحظة من "التبغيل" المنهجي. إذ لا فرس أصيلة في السباق وسط حمّى المعارك الافتراضية التي تدور رحاها على نحوٍ خاص لدى "المتؤربين" الجدّد الذين حملوا هذا الفيروس إلى الخارج تحت شعار" رابطة الشوايا"، أو "شوايا ولا نخجل" بنوع من الخفّة الصبيانية في استعادة الحقوق المهدورة! نظنُّ بأن ثراء حضارة الفرات والجزيرة يستحقّ فحصاً آخر.

يكفي أن نقلّب التربة قليلاً حتى نكتشف كنوز المنطقة بطبقاتها المتعدّدة، فبيت شعر واحد على لسان شاعر جوّال يختزل تاريخاً كاملاً من الصبابة "يمه اش عليها رقبة تسوى عشيرة بحالا". لعل هذا العاشق المجهول لم يكتفِ بوصف معشوقته، إنما أراد أن يصف سوريا كاملةً بعنقها المرفوع عالياً، أو أقلّه هكذا نرغب من باب التأويل، سواء كان الاسم بألف ممدودة أو بتاء مربوطة، فلا مسافة فاصلة بين الشموخ والعناق.

في هذا الباب، لا نحتاج إلى تفاسير ابن خلدون أو ابن منظور وسواهما في توطين المفردة أمام جلال أن تكون سورياً وحسب، لا شاوياً أو فينيقياً، ولا بدوياً أو حضرياً، لا آرامياً أو سريانياً، سواءً كنت تنتسب إلى ثقافة المتّة أو القهوة المرّة، المنسف أو البرغل بحمص، السمن العربي أو زيت الزيتون، من الجزيرة أو من الساحل. 

ما نحتاجه في هذا المقام، هو دروس خصوصية في الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا لعلاج الوهم المتراكم على الجلد مثل حراشف تمساحٍ ضخم، لاستعادة بهاء هذه الخريطة الممزّقة، وذلك بسحبة ناي واحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فكلمة السّر، هي المواطنة لا سواها! 

30 ثانية على الشاشة في شرح معنى المواطنة أهم بمراحل من خطابات جوفاء أو إعلان عن نوع من البطاطا المجفّفة.

نرجوكم، اذهبوا إلى الجزيرة السورية، ولو لمرّة واحدة، في رحلة خاطفة، فهناك ستفهمون جيداً معنى أن يكون المرء سورياً، ولا تستغربوا إن خلع أحدهم عباءته أو فروته ودثّر بها الضيف!