"أشجار القلعة" لنجوى الموسوي: المكان كبطل روائي
تؤرّخ "أشجار القلعة" لمرحلة مهمة من تاريخ لبنان وجنوبه التي تطوّر فيها العمل المقاوم منذ بداياته وحتى عام 2016 من دون أن تغفل عن البيئة العاملية الحاضنة لهذه المقاومة.
تأتي عظمة المقاومة العامليّة (نسبة إلى جبل عامل في لبنان) من خيارها المطلق وغير القابل لأيّ نوع من أنواع التردّد والتشكيك في رفض الاحتلالات وعدم تقبّل وجودها على أرض الوطن مهما كانت عناوينها مراوغة مخاتلة، من الوصاية إلى الانتداب إلى الاحتلال السافر كما في حالة الاحتلال الإسرائيلي الأخير وغيره من الاحتلالات التي مرّت على هذه البلاد. وما قلعة الشقيف "أرنون" إلّا شاهد على تاريخ طويل من العصيان والتمرّد ورفض الإذعان للمحتلين والطواغيت مهما تغيّرت وجوههم وتعدّدت راياتهم، فالقلعة التي بناها الرومان على صخر شاهق يُشرف على نهر الليطاني وسهل مرجعيون ومنطقة النبطية، وزاد عليها الصليبيون، ورمّمها فخر الدين الثاني شاهدة على تاريخ مديد من النضال ضدّ المستعمرين، فقد تداولت عليها أعمال دول شتى، وتطاحنت حولها أمم وشعوب، ومرّ عليها الكثير من أخبار العهود الغابرة من الفينيقيين إلى الرومان فالآشوريين والمصريين والسلاجقة والأتابكة والترك والكرد...
غير أنّ رواية "أشجار القلعة" لنجوى الموسوي الفائزة بالمرتبة الثالثة في جائزة سليماني العالمية للأدب المقاوم والصادرة حديثاً عن دار "أسفار" وتوزيع "دار الولاء" بيروت ـــــ لبنان. لا تذهب إلى التاريخ البعيد لمقاومة القلعة ولا حتى إلى التاريخ الوسيط، ولا تجد نفسها مشغولة بالبحث عن الجذور والمنابع التاريخية لهذه المقاومة العنيدة التي صنعت هوية هذه القلعة العامليّة المقاومة، وإنما تقتصر أحداثها على الحقبة الأخيرة من تاريخ القلعة وهي حقبة مقاومة بلدة يحمر الشقيف للاحتلال الإسرائيلي من خلال سرد قصة أسرة آل عليق في مواجهة هذا الاحتلال.
فسرد السيرة الذاتية لأفراد هذه الأسرة بحسب "الموسوي "تفي بشرط الكتابة الروائية بعيداً عن القوالب الجاهزة لتقنيات السرد الروائي. لذا تعمد الكاتبة إلى إضاءة السيرة الذاتية لجودت عليق منذ طفولته وحتى تخرّجه من جامعة بيروت العربية، إلى تخرّجه شهيداً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من جامعة المقاومة بعد تأثّره بالإمام الخميني وتشبّعه بفكر الثورة الإسلامية المقبل من إيران. بعد استشهاد جودت يستلم أخوه" رفعت" راية المقاومة في البلدة ويقوم بزرع العبوات ويقف بجرأة في وجه الاحتلال ليلتحق بأخيه شهيداً برصاص أحد حواجز العملاء.
تعكس أسرة عليق الكبيرة (13 ولداً) ألوان الطيف اللبناني، فاثنان من أبناء العائلة هما :بهجت وطلعت تزوّجا من هيفاء وهرمين وهما فتاتان مسيحيّتان من صيدا، وتنتميان إلى الحزب الشيوعي اللبناني في ذروة مقاومة اليسار اللبناني للاحتلال الإسرائيلي، وقد تخرّج من هذا البيت الجنوبي المكافح المهندس والمزارع والمغترب والجندي في الجيش اللبناني .
المكان شبه الوحيد المهيمن على أحداث الرواية هو بلدة يحمر الشقيف في الجنوب اللبناني ذات القلعة الشهيرة "قلعة الشقيف"، وأشجار القلعة هي الأشجار المحيطة بها، (يحتلّ المكان أي يحمر الشقيف) موقعاً مميّزاً بين عناصر الرواية، ونكاد نقول إنه البطل الروائي الحقيقيّ المهيمن على بقية العناصر، فهو الباقي الوحيد أما الأزمنة فمتغيّرة متداولة، تلبسها فصول الرواية المتعاقبة تعاقب فصول السنة الواحد بعد الآخر :يحمر الشقيف 1970، يحمر الشقيف 1977، يحمر الشقيف 1978، وكذا تنطوي الصفحات وتعبر الفصول إلى يحمر الشقيف 2016 حيث الأشجار الباقية حولها شاهدة على تقلّب الأزمان عليها منذ عام 1970 وحتى عام 2016 وهو زمن الرواية....
أما الأشخاص فليس نصيبهم بأفضل من نصيب الأزمنة، فما إن يطلّ الواحد منهم حتى يغيب مستشهداً وهو واقف صامد كما الشجر المحيط بالقلعة .
تؤرّخ "الموسوي" لمرحلة مهمة من تاريخ لبنان والجنوب اللبناني على وجه الخصوص ولتطوّر العمل المقاوم منذ بداياته وحتى عام 2016، من دون أن تغفل عن البيئة العاملية الحاضنة لهذه المقاومة، وكأنها من خلال حديثها عن يحمر الشقيف كأنما تتحدّث عن كلّ قرى الجنوب القابضة على الجمر، فالاحتلال هو هو. وممارساته التعسفية هي هي، من قصف وقتل وأسر وتدمير لم تفرّق بين بلدة وأخرى وبين مقاوم وآخر. وأحاديث الناس هي هي، في كلّ قرى الجنوب، فهنا الصامدون والمقاومون والمشكّكون والمتخاذلون والعسس والوشاة والبصصاون موجودون في كلّ قرية، ولكلّ منطقه ورأيه، فهذا يزرع شتلة التبغ وينغرس معها في التراب منتظراً الموسم حتى يشكّها في الخيطان الطويلة ويشمّسها، وذاك مشغول في أعمال المقاومة من رصد وتخطيط وتهريب سلاح. وذاك متواطئ مع قوات الاحتلال مهادن لها، على اعتبار أنه لا يمكن للعين أن تقاوم المخرز.
أبرزت " أشجار القلعة" هذه البيئة كلوحة واضحة بريشة رسام لا يغفل عن أدق التفاصيل بريشة متقشفة بعيدة الصنعة والتكلف ، لغة لا تعتني بالأناقة اللفظية والأوصاف والمفردات المعجمية، متخففة من حمولاتها اللفظية بقدر اعتنائها بالأحداث التي لحقت بآل عليق وببلدتهم يحمر الشقيف ، فقد انشغلت الكاتبة بسرد تعاقب السنون على البلدة متتبعة خيط الأحداث لهذه الأسرة في مسارها الحياتي تحت الإحتلال . هذا المسار الذي يشبه مسارات معظم عائلات وأسر الجنوب اللبناني في حقبات متتابعة متلاحقة من تاريخ لبنان الحديث.