"أدب المقاومة " لغالي شكري: المقاومة في مداراتها الإنسانية

كتاب" أدب المقاومة" لغالي شكري يقدم لنا صورة موسوعية عن أبرز الأعمال الأدبية التي واكبت هذا النشاط الإنساني في توقه إلى التحرر من ربقة الهيمنة والاستكبار.

  • "أدب المقاومة " لغالي شكري: المقاومة في مداراتها الإنسانية

تتسع دائرة أدب المقاومة عند غالي شكري في كتابه "أدب المقاومة" الصادر عن "مؤسسة هنداوي" في مصر لتعمّ وجوه الأدب في مداه الإنساني العام والشامل، ولتتصل بمحاولات الإنسان الحثيثة لمواجهة كل ما يعوقه في سبيل إيجاد ذاته وتحقيق أهدافه.

 يعود بنا شكري إلى مجتمع الإغريق القديم، إلى صخرة سيزيف، حيث نجد الصراع البطولي الخارق بين الإنسان والكون، وإلى سمكة همنغواي في روايته " الشيخ والبحر"، حيث نجد إنساناً وبحراً يتصارعان فوق شبكة الصيد مع الوحش البحري الذي يأكلها ويذرها حسكاً وعظاماً.

 بعد هذه المقدمة التاريخية، ينتقل غالي شكري إلى الرواية العربية مع الرواية الجزائرية ورائدها محمد ديب الذي فضح الاستعمار الفرنسي وبيّن وجهه الوحشي وخيانته مبادئ الثورة الفرنسية وقيمها بأدب فرنسي ووجدان عربي يرطن بأسماء وأماكن جزائرية، كذلك يقرأ النموذج المقاوم عبر عيّنات من روايات نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وكذلك في" ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" و " وزقاق المدق " حيث لا يقف الإنسان المصري إزاء ظروفه الاقتصادية والاجتماعية عاجزاً مكتوف الأيدي، وإنما نجده فاعلاً متفاعلاً ومناهضاً الإقطاع والاستعمار والرأسمالية. بعد الروايتين المصرية والجزائرية، ينتقل شكري إلى الرواية الفلسطينية مع غسان كنفاني في روايته " رجال في الشمس" حيث يهرب ثلاثة لاجئين فلسطينيين من المجازر الصهيونية ليلقوا حتفهم اختناقاً تحت حرارة الشمس في الخزان الذي يختبئون فيه على الحدود بين البصرة والكويت، ليبقى سؤال الدالول أبو الخيزران " لماذا لم يدقوا جدران الخزان" مجلجلاً يقرع أسماع التاريخ.

إقرأ أيضاً: الطاهر وطار في "الشهداء يعودون هذا الأسبوع".. إعادة إعتبار لقيم الشهادة

من أعمال المقاومة العربية الأدبية ينطلق غالي شكري إلى الأمداء العالمية لأدب المقاومة قارئاً معانيها ومدلولاتها مستدلاً بما خلص إليه " جون شتاينبك " من أن الطبيعة البشرية في ذاتها ترفض الضيم، ويجب أن لا يقال إن الروح العبقرية هي وحدها القادرة على مواجهة الأعداء لتتمثل هذه الروح في أبطال تنسج حولهم الأساطير.

يقدم شكري شواهده لتأكيد رؤية مفادها أن الفعل المقاوم شأن إنساني عام تنصب فيه المشاعر الإنسانية الكونية في مكان الألم، موجوعة متأثرة لما أصاب الإنسانية من جراحات كأنما تداوي الراهن المأساوي بإبداعات فنية على شكل قصائد شعرية أو سرديات روائية، تتجاوز المكان والانتماءات الضيقة إلى الفضاء الإنساني الرحب فحين تكتب الإنكليزية "إثيل ماتين " روايتها" الطريق إلى بئر شيع " عن مأساة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وتكتب" هارييت بيتشر سوت" كوخ العم توم" وهي الكاتبة الأميركية البيضاء عن معاناة الزنوج في الجنوب الأميركي، فإنما ينطلقان من المنظور الإنساني العالمي، وليس من أي منظور قومي أو محلي. لقد استجابت هاتان الكاتبتان لنداءات الضمير الإنساني لقاء الوجه الإنساني العام وتعاطفتا مع قضايا إنسانية عامة وليس لاعتبارات اجتماعية أو دينية أو عرقية، وانضوتا تحت لواء النضال الإنساني العالمي.

لا يقصر شكري أدب المقاومة على تأريخ وتوثيق حركة الثورات وقائعها وقصصها وتفاصيلها، وما يواكبها من أبعاد اجتماعية واقتصادية وأحداث واقعية، وإنما يرى في هذا النوع من الأدب قدرة على استشراف المستقبل كما في رواية " ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ التي تستشرف الانقسامات الاجتماعية، والتحديات السياسية، والتدهور الأخلاقي والمستقبل المظلم الذي ينتظر المجتمع المصري في فترة ما بعد الثورة من خلال شخصيات الرواية التي تجتمع في قارب فوق نهر النيل تتداول الراهن الآني وتربطه بالمستقبل القادم.

إقرأ ايضاً: "مغيب القمر" لِشتاينبك: الوعي الجمعيّ ضد الاحتلال

لا تقتصر قراءات شكري على الرواية بل تتعداها إلى الأشعار، والأغاني الثورية والمسرحيات.... هذه الأعمال التي نحتت من المعاناة شكل القصائد في أعمال الشعراء مثل توماس بورج من نيكاراغوا ودينيس بروتس من جنوب أفريقيا ومحمود درويش من فلسطين، وجاءت هذه الأعمال الشعرية كحصيلة لفترات طويلة من الاعتقال والتعذيب في سجون المحتلين. راحت هذه الأعمال تفعل فعلها في المجتمعات المقاومة تتداولها ألسنة الناس وتتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل فتلهب المشاعر الوطنية وتذكي روح المقاومة لدى الشعوب الطامحة إلى الحرية والعزة والكرامة الوطنية.

على مساحة اثني عشر فصلاً يفرش غالي شكري حقلاً شاسعاً من صور البطولة في تراثنا الشعبي والرواية والشعر والمسرح، ويختم بشهادة مطوّلة في الشعر الأميركي المعادي للعنصرية الأميركية ضد السود والمناهض للحروب الأميركية في فيتنام واليابان وتدخلها السافر في بقاع الأرض بعد الحرب العالمية الثانية. 

إقرأ أيضاً: الأسير خندقجي يحطم ب"سادن المحرقة" السردية الصهيونية

إذا كانت المقاومة نبض الشعوب وعنوان بقائها على قيد الحياة، فإن كتاب" أدب المقاومة" لغالي شكري قدم لنا صورة موسوعية عن أبرز الأعمال الأدبية التي واكبت هذا النشاط الإنساني في توقه إلى التحرر من ربقة الهيمنة والاستكبار.

اخترنا لك