"سرّ الألوان في الدحنون": الكتابة بحبر الدم والتراب
القصة المكتوبة في هذه المجموعة القصصية "سرّ الألوان في الدحنون" هي عبارة عن استعادة لقصة عاشها الإنسان في الجنوب اللبناني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي .
نقرأ في قصّة "سرّ الألوان في الدحنون" للدكتور علي حجازي "سبقتنا الشمس إلى النقيرة. الأرض التي استقبلتنا بترابها البني الغامق، وحجارتها الصخرية، والتي منحتها هذا الاسم "رجمة النقيرة" توزّعنا فريقين: زوجي مع فاتن وعلي يجمعون الحميضة ذات الأجراس الصفراء الجميلة شميلات صغيرة، في حين أسرع فراس وعبد الله يقطفان الدحنون.
- أسبق أن حدثتكم عن سرّ الألوان في الدحنون؟
- أبي، نحن نسمّيه" شقائق النعمان" أليس هذا اسمه الحقيقي؟
- الكلّ يعرفه بشقائق النعمان، غير أنّ بصمات دمائنا ودماء أجدادنا هي التي خزّنت وجع الدحنون وأسراره. النعمان بن المنذر أعجب بألوانه من دون أن يكشف عن سرّ لون من ألوانه، فشتّان بين معجب بزهيرات جميلة وبين من منحها تلك الألوان .
- الألوان أسرار يا أبي؟
- أجل يا حبيبي، سأبدأ شرح دلالات الأبيض والأحمر والأزرق والأسود والبنفسجي"..
على هذا المنوال تتوالى قصص د. علي حجازي الأربع عشرة لتحكي ألواناً من تمسّك الجنوبي بأرضه، وذلك في مجموعته القصصية التي حملت عنوان" سرّ الألوان في الدحنون "الصادرة عن دار الولاء للطباعة والنشر في بيروت.
وفي قصة "جبينها المجد" يتحدّث القاصّ عن تلك العجوز التي انحنت لتبارك وتتبارك بوقع أقدام المقاومين الذين مرّوا قرب دارها في بلدة كونين الجنوبية لشدّة محبّتها لهم وتقديرها إياهم لدرجة القداسة، وبالمقابل هم يخافون من أن يلحقوا بها أيّ ضرر، إذا ما اقتربوا من ديارهم .
وفي قصّة" دروك الدوالي" يتأمّل الدالية التي تلتفّ غير مرّة على كلّ ما يساعدها على تثبيت جذورها وفروعها لتبقى راسخة ملتصقة بالسقالة والأرض.
أمّا قصّة "عجنة من أجساد وحديد وتراب" فهي أشبه بلوحة مأساوية بواقعيّتها حين قامت دبابة صهيونية بدهس سيارة أبو شكيب في محلة السهيلة في خراج بلدة جويا قضاء صور فعجنت لحوم السائق والركّاب والجرح مع الحديد والتراب والحجارة والأشواك.
وتطالعنا قصة المنديل العلم بحماية مقاوم قصفته مدفعية العدو في أثناء زرع عبوة فيتناثر جسده وثيابه، ويعلق بعضها على شجرة الزيتون، فأصبحت مزاراً لأهل القرية والجوار وقد عرفت "بزيتونة موسى".
وفي قصّة "القبّة الخارطة" يخرج من قبّة الأقصى صوت يطلب إلى الصخرة في أحشائها أن تغدو حجارة صغيرة تتحوّل في أيدي أطفال الحجارة ناراً ولهيباً .
في القصة العاشرة بعنوان "لا" يتحدّث علي عن الدرس الأول الذي تلقّاه وهو في الخامسة من العمر عندما فوجئ بفتاة يهودية جميلة، مسلّحة في بستان تفاح في الأراضي الفلسطينية المحاذية للحدود مع لبنان على الطريق بين قبريخا ومرجعيون، وما إن عرضت عليه تلك الفتاة أن يقطف تفاحة حتى صرخ والده قائلاً: لا، يا علي هذه يهودية، تعال، فركض الفتى نحو والده الذي راح يشرح له فظائع اليهود وطريقة تفكيرهم بالجنوبيّين والفلسطينيين، فكان هذا الموقف درساً عميقاً في المقاومة وفهم نوايا العدو الخبيثة.
وتطالعنا في المجموعة قصة قصيرة جداً، بعنوان "تلك الغابة والذئب والكلاب الضالة"، تكشف هذه القصة القصيرة التي لا تتجاوز العشرة أسطر دلالات ترمز إلى المقاومين السباع الذين يدافعون بقوة عن أهل الجنوب في وجه الذئب الذي فتك بهم، إلا أن الكلاب الضالة (العملاء) أبت إلا أن تهاجم السباع، عندئذ ينتفض ملك الغابة ويقول بهدوء :تمهّلوا.. أليس الصبح بقريب؟
ويختم حجازي مجموعته القصصية بقصّة "كفّ القاسم ملحمة العشق الذي لا ينتهي"، وهي حكاية ذلك المقاوم الأسطوري الذي يدعى قاسم سليماني، الذي قاد صراعاً عنيداً، ضدّ الاستكبار العالمي الذي يشبه أفعى الهيدرا بأذرعها ورؤوسها القاتلة والشديدة السمّية، وذلك من إيران إلى لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، وبعد تحقيق العديد من الإنجازات للمقاومة يتحقّق لهذه الأفعى القاتلة وبدعم من حلفائها أن تلقي لهيب نارها على موكب هذا القائد البطل قاسم سليماني وأخوته ليستشهدوا في مطار بغداد.
يتخذ القاصّ د علي حجازي من الحدث الواقعي مرجعاً لكتابة القصة، فالقصة المكتوبة عند حجازي في مجموعته القصصية" سرّ الألوان في الدحنون" هي عبارة عن استعادة لقصة عاشها الإنسان في الجنوب اللبناني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي .
تتراصف قصص حجازي وعددها 14 قصة متفاعلة مع مظلومية هذا الإنسان مشكّلة امتداداً لمعاناته وصوتاً أدبياً لصراعه المرير في سبيل سعيه الدؤوب لتحقيق شروط العيش في وطنه بعزة وكرامة، وتغرف هذه القصص من نبع واحد هو الظلم والعدوان الذي مارسه الاحتلال على المواطن اللبناني في الجنوب، لذا نجد هذه القصص مفعمة بالأمل والعزة والحماسة، الأمر الذي يجعلها منحازة أحياناً إلى التعبوية والاستنهاض من غير أن تتخلّى عن الشرط الفني وما يفترضه من دهشة وغموض، وإشراك للقارئ في النص من تحليل وتخييل وتأويل في عملية تبادلية يشتعل فيها الزيت وفتيله ليُضيئا معاً قنديل هذه التجربة الكتابية الإبداعية .
يتأمل حجازي في وجوه واقع القهر الذي يمارسه الاحتلال ويلقي شباكه في بحر القصة فيستخرج نصوصاً مختلفة ألوانها، فيصوّر لنا مشاهد حيّة مترافقة مع تصوير دقيق للمكان والزمان والشخصيات، فينقل تجارب حسية غنية بعمقها النفسي والثقافي من خلال بناء شخصيات محورية واقعية ومؤثّرة، ويوظّف هذه الشخصيات والأحداث والمواقف لنقل رسالة أخلاقية بطريقة غير نمطية وإنّما مباشرة، تبقى امتداداً لواقع واحد ينكر الاحتلال بلغة طازجة تحضر فيها الفكرة المجرّدة ويعوزها الإيحاء ويفتقدها التعقيد، ويظلّ التاريخ (تاريخ حقبة الاحتلال للجنوب اللبناني) المرجع الأساسي والرحم الذي ولدت منه هذه القصص التي تمّ جمعها تحت عنوان "سرّ الألوان في الدحنون"، هو عنوان قصة واحدة من هذه المجموعة القصصية من باب تسمية الكلّ بالجزء محقّقة استقلالاً ذاتياً.
نجح حجازي في "سرّ الألوان في الدحنون "في تكوين حقل مغلق من الإشارات والرموز والدلالات، كأنما انغلاقه جاء كضرورة علاجية تعطي الإنسان المحرّر توازناً يحتاج إليه ينفي ما علق في النفس من غبار الاحتلال .