"الذرة الرفيعة الحمراء": مقاومة الصين العنيدة

الذرة الرفيعة الحمراء لا تشكل الإطار الرمزي للسرد فحسب، إنه المحصول الرئيسي في البلاد الذي يمنح السكان الغذاء والحياة ويمدّهم بالصمود والحيوية ويهبهم الوجود والهوية، أما وقد استبدل بالذرة المهجّنة فهذا يعني للكاتب ضياع كل شيء.              

  • "الذرة الرفيعة الحمراء": مقاومة الصين العنيدة

إذا كانت الرواية هي ما نعرف وما خبرنا في رؤية تعكس وجهة نظر الكاتب إلى الكون والوجود والمآل وما يدور حوله من أحداث ووقائع فإن رواية " الذرة الرفيعة الحمراء"  للكاتب الصيني الشهير "مو يان"  الحائزة جائزة نوبل عام 2012  تعتبر رواية الصين بامتياز على حد تعبير خيري دومة المشرف على سلسلة الإبداع القصصي في القاهرة.

فالرواية الصادرة عن المركز القومي للترجمة في مصر بعد أن ترجمها إلى العربية وقدم لها حسانين فهمي حسين ترمز عبر عنوانها الذرة البلدية الحمراء إلى روح الشعب الصيني بما يختزنه من صبر وحكمة وخصوبة تستعصي على الإخضاع والعدوان .

تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراج "تشانغ ييمو" وحازت جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.

 تتحدث " الذرة الرفيعة الحمراء " بصيغة المتكلم وهو الراوي العليم الذي جمع نتفًا من الحكايات من التاريخ الشفهي ومن العجائز والشيوخ عن مقاومة الاحتلال الياباني خلال فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ومدى تجذر الإنسان الصيني بالأرض من خلال قصة عائلة "يو جان آو"  الصينية الريفية التي تمتلك فرنًا لصناعة نبيذ الذرة في قرية دونغ بيى بمدينة قاومي بمقاطعة شان دونغ شمال شرق الصين، وتتكون هذه العائلة من الجد " يوجان آو" الذي كان يعمل حمالًا في شركة لنقل توابيت الموتى وهوادج الأفراح، ثم أصبح بعد ذلك قائدًا كبيرًا في عصابات قطاع الطرق التي انضمت إلى قوات الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي الصيني وقاتلوا معًا المحتل الياباني دفاعًا عن بلادهم.

كان "يو جان آو" في شبابه قد قتل صاحب الفرن الأكبر والأشهر في صناعة نبيذ الذرة واستولى على زوجة ابنه المصاب بمرض البرص بعد تزويجها له رغماً عنها. 

بعد استيلائه  على الفرن وصاحبته ، تفرغ "يو جان آو"  لقتال المحتل الياباني مصطحبًا معه ابنه (والد الراوي) في معاركه الطاحنة ضد  القوات اليابانية وعصابات قطاع الطرق الرديفة، إضافة إلى صراعاته مع القوات القومية والشيوعية، هذه القوى التي لم تتردد في الدخول في صراعات فيما بينها، ضمن تحالفات وانقسامات لا تقل خيانة ومكراً عن صراعها المشترك ضد الاحتلال الياباني.

إقرأ أيضاً: مو يان .. رائد أدب المقاومة في الصين

خاض "يو جان آن"  هذه الحروب جميعًا ولاقى كثيرًا من الأهوال وقدّم التضحيات الجسام في كفاحه ضد المستعمر والقوات الصينية المتعاونة معه،  فقد اغتصبت وقتلت زوجته وابنته الطفلة ذات الأعوام الخمسة عام 1941 ذلك العام الذي شهدت المقاومة ضد اليابان أشرس المعارك وأكثرها وحشية وقسوة.

تتألف الرواية من خمسة أجزاء نُشرت لأول مرة بشكل متسلسل في عدة مجلات عام 1986. 

أما عن أسلوبها فقد جرى تصنيفها ضمن ما عُرف بالواقعية السحرية التي أطلقها غابريل غارسيا ماركيز وتأثر به وبأسلوبه كثير من الكتاب والروائيين في العالم، حيث تتداخل الواقعية مع الخيال والأسطورة، ومن بينهم " مو يان" الذي يروي حكاية متعددة الأجيال عبر حفيد يسرد قصة جده وجدته وأبيه مستخدما تقنية الرجعات الزمنية (فلاش باك) مبرزًا قضايا الريف الصيني في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي من فقر وقسوة، وحروب وتأثيرها على الأفراد، ودور المرأة في هذا المجتمع الريفي المتخلف.

تعتبر " الذرة الرفيعة الحمراء من أبرز الأعمال الأدبية التي فتحت الأدب الصيني على العالمية، فقد قدمت صورة غير نمطية عن الريف الصيني، في لوحة روائية ملحمية واسعة للصين والصينيين، بتقاليدهم وعاداتهم الغرائبية، وفى خلفية كل ذلك تتبدَّى طبيعةٌ خاصة، بنباتها وحيوانها وإنسانها

تنساب أحداث ووقائع الرواية بناءً على شهادات وذكريات القلة الذين نجوا من سلسلة من الوقائع القاتمة والعنيفة، تتدفق سطور الرواية غزيرة مفعمة بالإيحاءات والدلالات كنهر موشوي الذي يجري وسط حقول الذرة الحمراء بلون الدماء الغزيرة التي أهرقت على ضفافه، يتدفق نهر موشوي نابضًا بالحياة، والخصوبة، والمقاومة ناسجًا الأساطير وحكايات الفلاحين والحرفيين المحليين، وعصابات قطاع الطرق واستسهال القتل لأتفه الأسباب.

في نهاية الرواية يظهر الحفيد-  الكاتب - بشخصه في قريته شمال شرق منطقة قاومي فيفتقد رائحة النبيذ الكثيفة والنافذة، فقد احتضرت حقول الذرة الرفيعة الحمراء وغابت عن مشهد الريف الصيني لتحل مكانها أصناف الذرة الجديدة المهجّنة، فيشعر بمرارة الفقد والحنين إلى حقول الذرة الرفيعة الحمراء - السورغم باللغة المحلية - التي ترمز إلى روح الريف الصيني المقاومة للاحتلال.

فالسورغم الأحمر لا يشكل الإطار الرمزي للسرد فحسب، إنه المحصول الرئيسي في البلاد الذي يمنح السكان الغذاء والحياة ويمدّهم بالصمود والحيوية ويهبهم الوجود والهوية، أما وقد استبدل بالذرة المهجّنة فهذا يعني للكاتب ضياع كل شيء.              

اخترنا لك