نعمة الإنصات

ليس عبثاً أننا خُلقنا بلسان واحد وأذنين اثنتين، وكأن الإنصات يحتاج ضعف التكلم. فهل مَن يُنصت في زمن الثرثرة والكلام المجاني؟

رغم شيوع ظاهرة البودكاست، حيث بات لكل صاحب منصة برنامجه الخاص، لا تزال شرائح غير قليلة من المشاهدين تتابع وسائل الإعلام التقليدية، لا سيما فئة المخضرمين عمراً وتجربة، إذ ما تزال شاشة التلفزيون تشكّل لتلك الفئة مصدراً أولاً للمعلومات والتسلية والترفيه، من خلال متابعة البرامج الحوارية وسواها مما يُبَثّ عبر الشاشة الصغيرة، أو الأصحّ التي كانت صغيرة قبل أن تولد شاشات أخرى أصغر منها بكثير.

قليلة جداً هي البرامج الممكن متابعتها بسكينة وهدوء وتمعّن. للأسف، تطغى الجدالات البيزنطية على معظم الحوارات، لا سيما السياسية منها. ولعلّ الجملة الأكثر ترداداً في برامج الحوارات التلفزيونية العربية هي "دعني أكملُ فكرتي". يتوجه بها الضيف للمضيف، فيما يردّ الأخير "وصلت الفكرة". هذا في حال كان البرنامج وفق صيغة مُحاوِر ومُحاوَر، أما إذا كان ثمة ضيفان يتساجلان فحدّث ولا حرج عن الصراخ والزعيق اللذين يصلان أحياناً حدَّ الشتم والسباب وتبادل التهديد والوعيد. 

شاهدنا مرةً على إحدى الشاشات العربية نائباً يُفترض به تمثيل التشريع والقانون يشهر مسدسه في وجه ضيف آخر كان يشاركه البرنامج نفسه، فيما تتكرر في شاشات كثيرة حالات الشتم والشتم المضاد والتقاذف بعبوات المياه والكراسي والعبارات النابية، فضلاً عن حَرَدِ بعض الضيوف ومغادرتهم هذا الاستديو أو ذاك احتجاجاً على سؤال لم يعجب أحدهم، أو اعتراضاً على طريقة مُضيف في إدارة دفة حوار.

لئن دلَّ تكرار مثل هذه الحالات على شيء فإنه أول ما يدلُّ على الرثاثة التي تعتري الحياة السياسية والإعلامية، وضحالة منسوب الوعي لدى مَن يُفترض أنهم يَسوسون الناس ويمثلونهم. 

سقى الله أياماً كان فيها مؤسّسو الحركات والأحزاب السياسية وقادتها من كبار المثقفين والمفكرين، سواء اتفقنا أو اختلفنا معهم فإنهم كانوا جديرين بالاحترام والتقدير، وعلى أي حال، معظمهم قضى أو انزوى بفعل صراعات على السلطة مدمِّرة للبلاد مشرِّدة للعباد.

لكن، بعيداً من تخلّف الطبقة السياسية وفسادها وإفسادها في الأرض، نتوقف عند بعض سمات نرى تحققها ضرورياً لدى المُحاوِر المتمكن القادر على ضبط إيقاع برنامجه أياً كان ضيوفه ومهما كانت طبيعة القضايا المطروحة للنقاش، خصوصاً وأن البرامج الحوارية أو ما يسمى "التوك شو" هي الغالبة في الفضائيات العربية، وبعضها بات يمثل متنفساً لاحتقان يعمُّ بلادنا ولا يقتصر على الساسة وأصحاب الرأي، وذلك بسبب غياب منابر حقيقية لحياة ديمقراطية صحية، الأمر الذي يجعل الشاشات التلفزيونية بمنزلة بديل، لكنه ناقص ومشوَّه.

نافلٌ أن الإعداد الجيد للملف وتحضير مَحاوْر الحوار، والمقدرة على استنباط أسئلة جديدة وتلقائية انطلاقاً من إجابات الضيف، وعدم الركون فقط الى ما تم إعداده مسبقاً، وتكوين خلفية وافية عن طبيعة مَن نحاوره، كلّها من بديهيات الحوار التلفزيوني والصحافي عموماً، لكن للأسف، في خضم ما نحياه من انحطاط وفوضى غير خلّاقة، لا يبدو المشهد التلفزيوني أفضل حالاً مما نعيشه في الواقع. الانحطاط متى أصاب أمّة أو جماعة لا يصيب ناحية ويترك أخرى، بل يسري كسرطان خبيث سريع الانتشار والفتك.

ثمة إلى ما ذكرناه من سمات المُحاوِر الناجح سمة تكاد تكون مُفتقَدة في شاشاتنا، لا تقلّ شأناً وأهمية عن كل ما تقدم، بل يمكن اعتبارها مفتاح الحوار المهني المثمر، هي سمة الإنصات. بمقدار ما هو ضروري طرح السؤال بصراحة وجرأة وشفافية، كذلك ضرورة الإصغاء جيداً للإجابة، وإلا ما معنى السؤال إذا كنّا نطرق الباب ولا نريد سماع الجواب. 

الإنصات ليس معناه ترك الضيف يحاضر على الهواء ويعظ ويعطي دروساً كأنه على منبر منتدى أو مدرج جامعي. الإنصات يعني معرفة متى وكيف نتدخل لكي نطرح سؤالاً جديداً، وما من سؤال محظور في رأينا، لكن طريقة طرح السؤال هي بيت القصيد. 

حين يشعر الضيف أنه أتى إلى حلبة مصارعة لا إلى استديو تلفزيوني سوف يُستفَز ويرتبك وربما يحاول التهرب من الإجابة الشافية، أما إذا طرحنا السؤال، أي سؤال وكل سؤال، بمهنية واحترام فإننا نضع المُحاوَر أمام مسؤولية الرد على السؤال ولا نمنحه فرصة المراوغة والهروب إلى الأمام عبر الصراخ والزعيق أو الانسحاب. 

الإصغاء إلى الضيف وما يود قوله يترك للمشاهدين فرصة المتابعة والاستماع والاستمتاع، لأنهم يرغبون في سماع الضيف لا فقط المضيف، ولهم أن يحكموا على ما سمعوا وشاهدوا، وأن يبتهجوا لسؤال ذكي وأيضاً لإجابة شافية، أو شفافة على الأقل.

الإنصات مهم وضروري ضرورة السؤال نفسه، لكن ما من قالب جاهز ومسبق للحوار يُطبَّق على جميع الضيوف. للحوار مع السياسي إيقاع وللحوار مع المثقف إيقاع وكذلك مع المغنّي والأكاديمي...إلى آخره.. 

مرةً يكون الحوار سجالياً ومرةً تعريفياً ومرةً بقصد الترفيه. نُساجل مَن يطرح أفكاراً للسجال أو مَن يتبوأ منصباً عاماً، ونُعرّف بصاحب إبداع أو موهبة لكي نلفت انتباه الناس الى أهمية ما يفعل. باختصار: لكل مقام مقال، لكن ثمة مقال ضروري لكل حوار وهو حُسن الإصغاء، والابتعاد عن المقاطعة المجانية والثرثرة واستعراض العضلات.

ليس عبثاً أننا خُلقنا بلسان واحد وأذنين اثنتين، وكأن الإنصات يحتاج ضعف التكلم. فهل مَن يُنصت في زمن الثرثرة والكلام المجاني؟

***

غرسة الورد التي أسقيها كل صباح(*)

‏تذكّرُني بك.

‏تُصغي لوشوشةِ المياه

‏إصغاءك لي حين أهمس: 

أحبك.

(*) من كتاب الشاعر "لمن يهمّه الحُبّ".