"مهرجان الفارابي العالمي" والسيدة اللبنانية العالِمة
استطاعت دلال عباس بشخصيتها الإنسانية الفذة، وكتبها وأبحاثها ومحاضراتها، أن تتجاوز الجغرافيا وتطوي المسافات الفاصلة بين لبنان وإيران.
الخامس من تموز من العام الجاري، أقيم في طهران الحفل الختامي لــ "مهرجان الفارابي العالمي"، في قاعة اجتماعات القمة، بحضور فخامة رئيس الجمهورية السيد إبراهيم رئيسي شخصياً؛ وذلك لتكريم النخبة من العلماء والباحثين المتميزين في الدراسات الإيرانية والإسلامية، الذين اختارتهم اللجنة العلمية وهيئة التحكيم، المخولتين مراجعة مؤلفات العلماء والأدباء الذين ترشحهم المؤسسات الثقافية والعلمیة الإيرانية لنيل جائزة الفارابي العالمية على مجمل نتاجهم الأدبي والثقافي.
ولقد كان لي شرف المشاركة في هذا المهرجان، وشعرت بسعادة لا توصف، لأن المكرمة كانت الزمیلة والعالمة الموسوعية البروفسورة السيدة دلال عباس، الأستاذة في الجامعة اللبنانية؛ الأديبة والمترجمة الجليلة، والباحثة المتميزة في الدراسات الإسلامية والإيرانية، وصاحبة عشرات المؤلفات القيمة ومئات الأبحاث المتنوعة الموضوعات.
السيدة دلال عباس هي الشخصية الثالثة من أساتذة الجامعة اللبنانية، الذين كان لي شرف ترشيحهم لنيل جائزة الفارابي العالمية في السنوات الأخیرة من عمر المهرجان، والذين نالوها بجدارة، بعد أن أخضعت آثارهم لتدقيق الخبراء والمحكمين .
الشخصية الأولى كان البروفيسور فيكتور الكك المتخصص والباحث في الدراسات الإيرانية، ثم الباحث والأدیب البروفيسور علي زيتون، والثالثة السيدة دلال عباس الكاتبة والمترجمة المعروفة، المشرفة والمناقشة لأطاريح الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، والأدب المقارن العربي ـ الفارسي، والتصوف والعرفان، والحضارة الإسلامية؛ والمحاضرة في الجامعات اللبنانية والعربية والإيرانية، والمشاركة في المؤتمرات الدولية التي تناقش قضايا اللغة العربية وعلاقتها بغيرها من اللغات، والتي تناقش الدراسات القرآنية والإسلامية المعاصرة، وقضايا التقريب بين المذاهب، والتأثر والتأثير المتبادلين بين العرب والإيرانيين. هؤلاء القامات الثلاث، عايشتهم سنوات طويلة وعرفتهم جيداً وتعلمت منهم الكثير.
وإذا تجاوزنا الألقاب والرتب والدرجات العلمية، فإن أول ما يلاحظه المرء في شخصية السيدة دلال عباس - والتي هي موضوع بحثنا اليوم وهذا ما لمسته شخصياً من خلال عملنا المتواصل - هو الأخلاق الرفيعة، والقناعة المتناهية، والتواضع الشديد، وسعة الصدر، والمحبة التي تتسع لعائلتها الصغرى، لأولادها الأربعة ولإخوتها وعائلاتهم، ولأصدقائها وزملائها، ولتلاميذها الذين لا تحصى من بينهم أعداد الذين يعدونها معلمتهم وموجهتهم وأمهم الحنون؛ حتى أولئك الذين تقارب أعمارهم عمرها، لأنها تفيض عليهم محبةً ورعايةً أموميةً؛ لافت وقارها، ونزاهتها، وقلبها الصافي الذي لا مكان فيه لغل أو ضغينة، أو عتاب؛ وماثل صدقها قولاً وفعلاً ، مرددةً باستمرار الآية القائلة "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وبيت حافظ الشيرازي: "إني لأعجب لهؤلاء الذين يعتلون المنابر، لم يقولون ما لا يفعلون كأنهم لا يصدقون ما يقولون…"؛ ولافت كذلك زهدها بالمظاهر الدنيوية الزائفة، ووطنيتها، وعشقها الحق والعدالة، ومقولتها الشهيرة: الإمام علي هو البوصلة التي تميز الحق من الباطل؛ وقولها: الدول والبشر والكرة الأرضية قسمان: فلسطين ومن معها، والكيان الزائل ومن معه.
شاءت الأقدار أن تعيش في إيران برفقة زوجها قبل انتصار الثورة الإسلامية المباركة بسنتين، في مرحلة النضال، وتكون شاهدةً على تفاصيل ما يجري حينها، لتروي بعد عودتها إلى لبنان ما شاهدته بأم عينها، وقرأته وسمعته، واستفهمت عنه، موضحةً ومصححةً المفاهيم الخاطئة عن إيران وعن الثورة الإسلامية؛ وفي إيران سمعت لأول مرة اسم الشيخ البهائي فجعلته موضوع أطروحتها للدكتوراه التي لم تستطع إنجازها في إيران بسبب الأوضاع؛ وإنما أنجزتها في لبنان بإشراف أستاذها الدكتور السيد أحمد لواساني؛ وقال عن الأطروحة الأساتذة المناقشون، إنها أطاريح مكثفة في أطروحة واحدة. درست فيها الصراع العثماني الصفوي، وأسباب هجرة العلماء العامليين إلى إيران، والبهائي فقيهاً مجدداً وعالم رياضيات وفلك ومهندساً، وأديباً وشاعراً باللغتين العربية والفارسية.
وقبل البهائي وبعده، وعلى الرغم من انشغالها بإدارة ثانوية النبطية الرسمية للبنات، والتدريس في الجامعة، كتبت ونشرت وحاضرت عن إيران ومقدمات الثورة الإسلامية، وعن القضية الفلسطينية في فكر وسلوك قادة الثورة منذ الستينيات، وكانت من أوائل الباحثين الذين عرفوا اللبنانيين على الشعر الفارسي الحديث وعلى رواد القصة والرواية الحديثتين من خلال ما نشرته في المجلات الأدبية والصحف اللبنانية، لا سيما النهار وملحق السفير الثقافي. هذه المقالات التي نتمنى أن تجمعها وتنشرها في كتاب واحد جامع، وتضيف إليها محاضراتها المنشورة والمخطوطة، ومشاركاتها في المؤتمرات الدولية، عن التربية والتعليم، وعن المرأة العربية في العصر الجاهلي، وحقوق المرأة في الإسلام، والمرأة الأندلسية، والمرأة الإيرانية، وعن مطهري وشريعتي، وعن المتصوفة والعرفاء؛ و الإمام الخميني شاعراً، والتقريب بين الأديان والمذاهب، وعن إيران والقضية الفلسطينية، وعن الإعجاز القرآني، والرمز والتأويل، وعن تأثر اللغة العربية بغيرها من اللغات وتأثيرها فيها؛ وعن التأثر والتأثير المتبادلين بين الفارسية والعربية وبين الأدبين الفارسي والعربي، وبين الإيرانيين و العرب اجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
ناقشت عباس وأشرفت على عشرات الأطاريح المتعلقة باللغة العربية وآدابها، والأدب المقارن العربي - الفارسي، والتصوف والعرفان، والترجمة، في الجامعات اللبنانية والإيرانية. وهي عاكفة في هذه المدة على كتابة سيرتها الذاتية.
آثار عباس العلمية تتسم بالجدية الأكاديمية، وتتميز بالتنوع والموسوعية من كتبها: "بهاء الدين العاملي، أديباً وفقيهاً وعالـماً" ـ "القرآن والشعر"، المرأة في المجتمع الإيرانـي المعاصر ، القصة القرآنية: دراسة أدبية ـ المرأة في الأندلس مرآة حضارة شعت لحظةً وتشظت ـ.
ومن كتبها المترجمة عن الفارسية:"التدين والنفاق بلسان القط والفأر"، للشيخ البهائي (ترجمة وتحقيق)، كتاب"القبض والبسط النظريان في الشريعة"، كتاب "الإسلام والمسلمون في فرنسا"، كتاب "الإسلاميون في مجتمع متعدد"،ـ كتاب "رفسنجاني، حياتي"،ـ وكتاب "ولاية الفقيه والديمقراطية".
هذه السيدة الفاضلة، الأستاذة الجليلة، كما عرفتها نموذج ومثال رفيع للقيم الثقافية والأدبية والإنسانية، قل نظيره في هذا العصر .
لقد استطاعت بشخصيتها الإنسانية الفذة، وكتبها وأبحاثها ومحاضراتها، أن تتجاوز الجغرافيا وتطوي المسافات الفاصلة بين لبنان وإيران، وهذا ما لفت انتباه كبار الأساتذة والمفكرين، الذين اعتمدوها مرجعاً لأبحاثهم في ما يتعلق باللغة العربية وعلاقتها باللغات الأخرى، وبالتمازج والتأثر والتأثير المتبادلين بين العرب والإيرانيين، لغوياً وثقافياً وفكرياً.
في الحقيقة أستاذتنا الجليلة دلال عباس شجرة باسقة يانعة الثمار متجذرة في أرض جبل عامل، لبنان الجنوبي ، الذي ندين نحن الإيرانيين لعلمائه الذين هاجروا إلى بلادنا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وصححوا مسار الكثير من المفاهيم فيه، جنوب لبنان الذي يدين له ولمقاومته لبنان بأسره، هذه المقاومة التي منحت لبنان استقلاله الحقيقي بعد أن حررت أرض الوطن من رجس الصهاينة والتكفيريين.
تحدث المتحدثون في مناسبات عديدة وتشرفت بإقامة بعضها عندما كنت مستشاراً ثقافياً لبلدي في لبنان عن شخصية السيدة دلال عباس الأخلاقية والإيمانية، مريدةً لأهل البيت، سائرةً على نهجهم في السراء والضراء. كما تحدثوا عن أسلوبها ونهجها في التعليم والبحث والتحقيق، وترجموا كتبها وأبحاثها؛ لكن الجديد في هذه المدة هو قبولها اقتراحي و طلبي على الرغم من الظروف القاهرة التي استجدت في حياتها على مساعدتي في إعادة إحياء مجلة "الدراسات الأدبية" منذ سنتين، بدعم من المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية، بعد سنوات من التوقف القسري.
ويعود تاريخ إصدار هذه المجلة عن مركز اللغة الفارسية في الجامعة اللبنانية إلى حوالى 60 عاماً، برئاسة الدكتور محمد محمدي وبعده الدكتور أحمد لواساني، فالدكتور فيكتور الكك ، وهي الآن في عهدة الدكتورة دلال عباس بطرح ومحتوًى جديدين.
المجلة تعالج التأثير والتأثر المتبادلين بين العربية وآدابها والفارسية وآدابها، والأستاذة دلال عباس هي التي تؤدي الدور الأساس في اختيار وتحديد المواضيع العلمية والأدبية ومراجعة الأبحاث العربية والفارسية وقبولها أو تصويبها، وكعادتها في كل ما تقوم به من منطلق إحساسها الحاد بالمسؤولية، تقترح، وتراقب، وتراجع وتصحح ما ينشر في المجلة، وما له علاقة بالمبدأ العام الذي حددته هي للمجلة، والمتمسكة به ولا تقبل الانزياح عنه. وما يندرج تحت العنوان الأساس، أي التأثر والتأثير المتبادلان بين العربية وآدابها وبين الفارسية وآدابها، وبين الأدبين الفارسي و العربي والآداب العالمية، وما يدور في هذا الفلك من مواضيع.
لا ريب أن هذه السيدة ومثيلاتها في المجتمعات الشرقية والإسلامية هن مصدر فخر واعتزاز؛ وتكريمهن والاحتفاء بهن مصداق القول المشهور، من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق؛ أنا أبارك للسيدة الجليلة وللأساتذة الكبار المشاركين في هذا الحفل، وأشكر المقيمين لهذا المهرجان التكريمي، وأقول لهم سلمت أياديكم ودمتم سالمين.