"فورين أفيرز": ترامب يقتل الابتكار الأميركي.. والصين تجني الفوائد

تخفيضات ميزانيات إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية، تقوّض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرّك الرئيسي لنموّها الاقتصادي.

  • "فورين أفيرز": ترامب يقتل الابتكار الأميركي

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تراجع دور الولايات المتحدة في الابتكار مقابل صعود الصين كمنافس عالمي، ويركّز على الأسباب الداخلية لهذا التراجع في السياسات الأميركية، مما يمنح الصين فرصة لتعزيز هيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

خلال الأشهر القليلة الماضية، تبلورت خطة محكمة لضمان هيمنة الصين على المنافسة الاقتصادية العالمية. المفارقة أنّ مهندسي هذه الخطّة الرئيسيين ليسوا قادة الصين، بل هم سياسيون أميركيون. أيضاً، تخفيضات ميزانيات إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية، تقوّض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرّك الرئيسي لنموّها الاقتصادي.

كما هي السياسات المعادية للهجرة تعوق على الشركات والصناعات والجامعات الأميركية جذب أفضل المواهب والأفكار من جميع أنحاء العالم والاستفادة منها لتعزيز ازدهار أميركا، تضاف إليها التهديدات الجامحة بالتعريفات الجمركية والقيود المفروضة على سلاسل التوريد الأجنبية التي ترعب المستثمرين، الذين يتمسّكون برؤوس أموالهم، ويبحثون عن فرص جديدة بعيداً عن الفوضى. وفي غضون ذلك، تزداد قدرة الصين التنافسية في المجالات والقطاعات نفسها التي تعوق الولايات المتحدة فيه تقدّمها.

تحتاج واشنطن إلى إعادة اكتشاف قيمة الابتكار. يعتمد كلّ مجال من مجالات النموّ الاقتصادي المستقبلي التي تستعد الولايات المتحدة لريادته، مثل برمجيات الذكاء الاصطناعي، والتنقيب عن النفط والغاز، والروبوتات، وإنتاج السيارات الكهربائية، وكلّها ابتكارات يستحيل رعايتها من دون دعم موثوق وطويل الأجل من الحكومة الفيدرالية.

ولقد كان كلا الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، ينظران في الماضي إلى الاستثمار في قطاع التعليم والتدريب والابتكار والعلوم، كأمر أساسي لازدهار البلاد المستقبلي. أمّا اليوم، فلا يدرك أيّ من الطرفين هذه المعاني، أو يدافع عنها بوضوح. وبدلاً من ذلك يتبنّى الحزبان سياسات حسنة النية، ولكنّها مضلّلة وتهدف إلى قطع اعتماد الولايات المتحدة على الصين كي يضربا بكين معاً، ممّا يدفع بقية العالم نحو اعتماد أكبر على الصين.

سوف يفشل عزل الاقتصاد الصيني عن الغرب. وليس أمام واشنطن خيار سوى المشاركة في اقتصاد معولم لم يعد بإمكانها السيطرة عليه من جانب واحد. لقد أنفقت الولايات المتحدة عقوداً وتريليونات الدولارات لبناء أفضل نظام وبيئة ابتكار في العالم، وهو يشكّل المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية والعسكرية للبلاد. بمعنى أنّ تجريد الولايات المتحدة من هذه الميزة، بينما تسعى الصين إلى بناء جهاز ابتكار ينافسها سيكون انتحارياً.

خدعة بسيطة واحدة

ميزة الاقتصادات الشابة أنّه يتوفّر لها ثراء في طرق النموّ. حيث يقوم بعضها بحشد أعداد هائلة من العُمّال ذوي الأجور المنخفضة في الحقول والمصانع، بينما يستغلّ آخرون الموارد الطبيعية. وبمجرّد أن ينضج الاقتصاد، لا توجد سوى وصفة واحدة يمكن الاعتماد عليها للنموّ المستدام، هي الابتكار. ونظراً لأنّ العمالة والموارد الطبيعية أصبحت أكثر ندرة وأكثر تكلفة، فإنّ الابتكار يجعل من الممكن القيام بالمزيد بموارد أقلّ. ومنذ الحرب العالمية الثانية، كان ربع النموّ الاقتصادي الأميركي على الأقلّ مدفوعاً بالابتكارات التي تجعل من الممكن للاقتصاد نشر رأس المال والعمالة بشكل أكثر فعّالية.

يعتبر الاقتصاد الأميركي مثالاً رئيسياً على كيفيّة تغيّر وصفات النموّ بمرور الوقت. ففي القرنين الـ18 و الـ19، نمت البلاد عن طريق قطع الأشجار واحتلال الأراضي الغربية، وحشد أعداد هائلة من العمّال من ضمنهم المهاجرون والمستعبدون في الحقول الزراعية ثمّ المصانع. وحين ضمرت أسعار الأراضي والعمالة الرخيصة والعمالة بحلول أواخر القرن الـ19، بدأ الابتكار في ملء الفراغ، وبعدها تحرّك الاقتصاد الأميركي نحو الصناعة.

كذلك، ساهمت الابتكارات مثل شبكات الطاقة الكهربائية، التي حُسّنت من خلال عقود من الاستثمار المدعوم غالباً بتمويل حكومي، في توسيع الناتج الصناعي للولايات المتحدة. ومع تحوّل الاقتصاد لاحقاً للتركيز على الخدمات التي تمثّل اليوم نحو 80% من الناتج الاقتصادي الأميركي، حافظت الابتكارات الثورية في مجال الحوسبة على قدرة البلاد على المنافسة، على سبيل المثال لا الحصر.

إنّ طرق الابتكار لتشكيل الاقتصادات معقّدة بطبيعتها. لكن، يمكن القول إنّ نظام الابتكار الناجح يحتوي دائماً على 3 عناصر رئيسية، أهمّها تأسيس وتغذّية مجموعة من الأفكار الجديدة. فلقد تسيّدت الولايات المتحدة الابتكار لعقود، بسبب دعمها الفيدرالي الهائل للأبحاث، خاصّة خلال الحرب العالمية الثانية. كما أنّ أموال الدعم من قبل الجامعات البحثية والمختبرات الوطنية والمعاهد، تولّد هي الأخرى الابتكارات للشركات الإنتاجية التي تدعم بدورها النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية.

 كذلك هو تدخّل القطاع الخاصّ لتكملة التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير، تحديداً في صناعات مثل التكنولوجيا الحيوية والحوسبة، لكنّ الابتكارات الأكثر تحوّلاً في الولايات المتحدة على مدى الـ80 عاماً الماضية لطالما اعتمدت على التمويل الحكومي بوصفها كانت الفاعل الأكثر استمرارية ومصداقيّة، واستعداداً لتحمّل المخاطر من أجل المنفعة العامّة.

ولقد نجح نظام التمويل الفيدرالي بشكل جيد، ووجّه موارد الحكومة الهائلة برؤية مستقرّة نسبياً. إضافة إلى أنّ الحكومة أثبتت التزامها بمعقولية في تحديد أفضل طريقة لتخصيص هذه الموارد. وحتّى مع الاختلاف بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" حول الحجم المثالي للحكومة ودورها، رأى كلاهما قيمة هائلة في دعم الابتكار. وعلى سبيل المثال حين حاولت إدارة ريغان تقليص الإنفاق الحكومي، احتفظت بالدعم الفيدرالي للبحث والتطوير من دون تغيير إلى حدّ كبير. وعندما اقترح الرئيس ترامب خلال إدارته الأولى ميزانيات من شأنها أن تنزع التمويل عن البحث والتطوير، أعاد المشرّعون الديمقراطيون والجمهوريون معاً الأموال، وأبقوا على نظام الابتكار في البلاد سليماً.

لكن، يبدو أنّ استمرار الدعم الفيدرالي للابتكار أقلّ احتمالاً خلال مدّة إدارة ترامب الثانية. ولقد اختار الجمهوريون الاصطفاف مع الرئيس لتقليص حجم الإنفاق الحكومي وخفض الميزانيات، من ضمنها الابتكار. ويبدو أنّ الديمقراطيين  الذين يترنّحون من خسارتهم الانتخابات، ويهتمّون أكثر بأولويّات التمويل بخلاف العلوم والبحوث. وفي الأشهر القليلة الماضية فقط مع عدم وجود أيّ رقابة من الكونغرس، انخفض التمويل الفيدرالي للابتكار إلى الدرك الأسفل. كذلك أنهت إدارة ترامب نحو ألف منحة تقدّمها المعاهد الوطنية للصحّة، وهي أهمّ مموّل للأبحاث الطبّية الحيوية في البلاد، مع توقّع المزيد من ذلك في المستقبل.

إنّ التخفيضات شديدة لدرجة أنّ مختبرات البحوث البيولوجية المموّلة فيدرالياً تقوم بالقتل الرحيم للحيوانات المستخدمة للتحقّق في مسائل جديرة بالاهتمام مثل سلامة الأدوية الجديدة، وآثار التلوّث على العمّال. كما شهدت بعض الجامعات البحثية الرائدة في البلاد استهداف تمويل أبحاثها الفيدرالية لأسباب لا علاقة لها بعملها.

كيفيّة قطع خطّ الدعم

لم تتعرّض فوضى تمويل الابتكار والأبحاث وحدها فقط للخطر، بل طالت على نحو خاصّ المكوّن الرئيسي الثاني للنظام وهم الناس. وأيّ عالم هو مشروع غارق في الأمل، ويتميّز بتأجيل تعويضه إلى وقت متأخّر، فيقضي العالم النموذجي بعد حصوله على درجة البكالوريوس من 4 إلى 6 سنوات أخرى في التدريب وتحضير رسالة الدكتوراه، تليها بضع سنوات من العمل بأجر منخفض. وعلى الرغم من الافتقار إلى الحوافز المالية قصيرة الأجل، فإنّ العديد من أفضل العقول في العالم يسعون إلى العلوم لأنّ تدريبهم المهني يؤهّلهم للدراسات البحثية المتقدّمة التي تُغطّى ماليّاً إلى حدّ كبير من خلال المنح والجامعات.

لكن عندما تنضب المنح، يجفّ أيضاً بئر الأشخاص الموهوبين الذين يسعون إلى الابتكار. ومنذ أواخر شباط/فبراير الماضي، اضطرت الجامعات والمختبرات الحكومية غير المتأكّدة من تمويلها المستقبلي لتسريح العمّال. لقد وقع معظم عبء عدم اليقين هذا على عاتق العلماء الشباب، حيث يلوح الآن الاحتمال الكارثي لجيل ضائع من العلماء في البلاد.

كما أنّ عداء الحكومة للأجانب وخاصّة الصينيين، هو ما يضخّم الخسارة، لأنّ نجاح نظام الابتكار الأميركي يعتمد بشكل كبير على المواهب المستوردة لأداء الكثير من العمل الميداني الأساسي في العلوم الحديثة. بينما لا تنتج المدارس الثانوية والجامعات الأميركية ما يكفي من العلماء والمهندسين الناشئين لتزويد نظام الابتكار في البلاد بالكامل، وللحفاظ على التفوّق البحثي للولايات المتحدة، يجب على البلاد جذب المواهب الأجنبية. مثلاً في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو هناك نحو 5% من الطلاب الجامعيين، و25% من طلاب الماجستير في الهندسة، و45% من الطلّاب المسجّلين في برامج الدكتوراه في الهندسة ليسوا مواطنين أميركيين. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، ينحدر نحو نصف طلّاب الدراسات العليا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من دول أخرى، وفي الهندسة، يوجد ضعف عدد طلّاب الدراسات العليا الأجانب مقارنة بالمواطنين الأميركيين والمقيمين الدائمين.

يحتاج نظام الابتكار الأميركي إلى أفضل المواهب الأجنبية، وحتّى وقت قريب، كان يحصل عليها. وفي عام 2023 صنّفت دراسة أجرتها منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الولايات المتحدة المكان الأكثر جاذبية لطلاب الجامعات الأجانب للدراسة. ومن بين جميع الطلاب الدوليين المتخرّجين في العالم، يأتي 15% إلى الولايات المتحدة، وهي أكبر حصّة من أيّ بلد في العالم.

ولقد كانت الصين أهمّ مورد للولايات المتحدة للمواهب العلمية. وعلى مدى العقد الأوّل من القرن الجاري كان في كلّ عام هناك نحو 400,000 طالب صيني في الولايات المتحدة، ومعظمهم يدرسون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بمقابل 12000 من العلماء والمهندسين الأميركيين الشباب درسوا في الصين في كلّ عام في الفترة ذاتها.

وعلى الرغم من أنّ انتشار جائحة كورونا قلّل من هذه الأرقام بعد العام 2010، إلّا أنّ 300,000 طالب صيني لا يزالون يدرسون حالياً في الجامعات الأميركية في كلّ عام. ومع ذلك، هناك بالفعل علامات على أنّ هذا التبادل الحيوي آخذ في النضوب. على سبيل المثال، تتراجع الأبحاث المشتركة في العلوم والهندسة بين العلماء الأميركيين والصينيين ببطء عن ذروتها منذ العام 2020. كذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تقليل اعتمادها على المواهب الصينية. كما أنّ أيّ سوق، يعتمد بإفراط على أيّ مورد واحد يعتبر وصفة لانعدام الأمن دائماً. لكنّ الأمر سيستغرق جيلين لإعادة التوازن وتعويض مساهمة الطلّاب الصينيين في الأبحاث الأميركية.

 وفي الوقت نفسه، كثرت مضايقات المواطنين الصينيين ومن ضمنهم العلماء، على حدود الولايات المتحدة وفي الجامعات، ممّا أدّى بالعائلات الصينية إلى أن تكون أكثر حذراً عند إرسال أطفالها إلى الولايات المتحدة للدراسة. وسيكون هذا التردّد كارثة للجامعات البحثية الأميركية، وهدية لمنافسة جامعات اللغة الإنكليزية عالية الجودة مثل أستراليا وكندا وهولندا والمملكة المتحدة، حيث يتبنّى كلّ من منافسيها وشركائها سياسات جديدة لجذب العلماء الأجانب مثل تعزيز التوظيف وتأشيرات الشركات الناشئة. وفي غضون ذلك، تجهد فيه إدارة ترامب للحدّ من تسجيل الطلّاب الدوليين في الجامعات الأميركية.

هدم الجدار

العنصر الرئيسي الثالث لنجاح نظام الابتكار هو الوصول إلى الأسواق الكبيرة. ولأنّ الابتكار يسعى إلى تعزيز الإنتاج بإنفاق أقلّ، فإنّه يستفيد باستمرار تقريباً من حجم الإنتاج، حيث توفّر الأسواق الكبيرة فرصاً أكبر للأبحاث والإبداع الذي يُحسّن المنتجات من خلال تراكم الخبرة. وفي تكنولوجيا الطاقة النظيفة مثلاً كانت عولمة الأسواق حافزاً للتطوّر. وقد ساعدت الابتكارات المبكّرة في مجال الطاقة الشمسية، بدعم من الولايات المتحدة واليابان في سبعينيات القرن الماضي في تقليل الاعتماد على النفط المستورد من خلال جعل الطاقة الشمسية قابلة للتطبيق باحتراف.

وفي العقد الأوّل من هذا القرن أدّى دعم الحكومة الألمانية التي كانت حريصة على خفض الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة المستوردة وبناء صناعات محلّية مع خفض الانبعاثات، إلى توليد سوق كبير للطاقة الشمسية. ومع نموّ الأسواق الألمانية والعالمية أصبحت ابتكارات الألواح شمسية أفضل. ثم انتقلت ريادة صناعة الطاقة الشمسية إلى الصين، حيث استطاعت الابتكارات الهائلة في التصنيع خفض التكاليف بشكل أكبر، وساعدت على جعل الطاقة الشمسية أكثر تنافسية مع الفحم والغاز. وعلى مدى عقود سمح هذا النهج العالمي للألواح الشمسية، التي كانت في السابق تكنولوجيا هامشية، بأن تصبح أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء في العديد من الأماكن.

ولكن كما جسّدت صناعة الطاقة الشمسية فوائد للأسواق العالمية، لكنّها كشفت عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه الحمائية الوطنية بالابتكار التكنولوجي. فارتفاع الرسوم الجمركية واختناقات سلاسل التوريد، الناتجة جزئياً عن سياسات التجارة الفوضوية ترفع تكاليف الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة. ورغم أنّ سياسات نقل الطاقة إلى الداخل قد تسهم في النهاية بزيادة إنتاج الطاقة الشمسية في البلاد، إلّا أنّه حتّى عام 2023، كان نحو 80% من المعدّات المستخدمة في مشاريع الطاقة الشمسية الأميركية مستوردة بمعظمها من الصين.

يخشى المستثمرون الآن الإلغاء التعسفي لمشاريعهم. ففي نيسان/أبريل الفائت، أوقفت إدارة ترامب مشروع طاقة الرياح البحرية لشركة إكوينور العملاقة للطاقة في نيويورك، والذي تمّت الموافقة عليه سابقاً. وبعد شهر، تراجعت عن القرار بعد ضغوط مارستها على ولاية نيويورك للموافقة على مشروع خطّ أنابيب غاز طبيعي غير ذي صلة. لكن كان الضرر الذي لحق بمصداقية العقود الأميركية قد وقع بالفعل. فالطاقة النظيفة تعتمد على الاستثمار. وهذه المخاطر التي يتعرّض لها المستثمرون تفسّر سبب تأجيل أو تجميد نصف المشاريع المخطّط لها لبناء مصانع تكنولوجيا الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة.

خسارة الأرض

قد تستطيع المعارضة السياسية والقانونية المتصاعدة فرض التراجع عن العديد من سياسات الإدارة الأميركية الأكثر ضرراً. لكنّ الرسالة إلى بقية العالم واضحة في المجالات جميعها، ومن ضمنها البحوث والابتكار عن أن الحكومة الأميركية أصبحت فجأة أقل موثوقية بكثير. وهذا ما ألهم الحكومات الأوروبية للتعامل مع هذا الواقع بعدد لا يحصى من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي، وسياسة الطاقة الخضراء الأقلّ تكلفة، والاتّفاقيات التجارية التي تتيح الوصول إلى أسواق جديدة، وكلّها ستجعل القارّة ذات قدرة تنافسية أكبر.

بينما تقوم الولايات المتحدة بتقويض نظام الابتكار الخاص بها، تواصل الصين نهجها. وبدءاً من تسعينيات القرن الماضي تبنّت بكين استراتيجية ابتكار تهدف إلى تحويل اقتصادها. ومنذ عام 2000 زادت إنفاقها الإجمالي على البحث والتطوير بمعدّل الضعف. ويتدفّق جزء كبير من هذا الاستثمار من خلال المؤسّسات المرتبطة بالدولة، ولكنّ دور القطاع الخاصّ قد ازداد أيضاً.

وحين تجمع مصادر التمويل العامّ والخاصّ معاً، تظلّ الولايات المتحدة أكبر منفق في العالم على البحث والتطوير، لكنّ الصين تستعدّ للتقدّم عليها. وفي العام الجاري يمكن أن يتجاوز إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير إنفاق الولايات المتحدة للمرّة الأولى. مع أنّه في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم تكن البرامج الجامعية الصينية تحتلّ المرتبة الأولى في أيّ مجال رئيسي من مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. أمّا اليوم، ووفقاً لتصنيفات مجلّة "يو أس نيوز آند وورلد ريبورت" الأميركية، فإنّ 8 من أفضل 10 برامج هندسية في العالم موجودة في الصين.

والآن يظهر العلماء الصينيون انحيازهم لمستقبل دراساتهم العليا في الوطن لا في الخارج، كما كان قبل عقدين حيث قرابة 95% من طلاب الدراسات العليا الصينيين الذين درسوا في الجامعات الأميركية وحصلوا على أوّل وظيفة لهم في الولايات المتحدة. أمّا اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة إلى قرابة 80%، ومن المرجّح أن تنخفض أكثر وربّما بسرعة.

يعود الصينيون إلى بلد خضع اقتصاده لضبط دقيق لتحويل الابتكار إلى إنتاج. ولطالما انتقد المحلّلون الصين لتركيزها على تحسين العمليات في إيجاد طرق أكثر كفاءة لاستخدام الروبوتات في خطوط الإنتاج وابتكار مفاهيم جديدة كلّياً. لكنّ هذه الابتكارات في العمليات ساهمت في تحويل مصانع السيارات والبطّاريات الصينية إلى شركات رائدة عالمياً في هذه الصناعة، كما حدث تماماً عندما بدأت صناعة الطاقة الشمسية في الصين بالازدهار.

كما أنّ هذه الإنجازات التي لا تحظى بالثناء الكافي، تؤدّي دوراً رئيسياً في زيادة إنتاجية الاقتصاد، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل ندرة العمالة الماهرة وارتفاع تكلفتها في الصين. علاوة على ذلك، تمثّل هذه الإنجازات أيضاً حجر الأساس لتقنيات أكثر ثورية. مثلاً، يعتبر مصنّعو المحطات النووية الصينيون روّاداً عالميين في تحسين العمليات التي تمكّن من بناء مفاعلات نووية بتكلفة منخفضة، على الرغم من أنّ الابتكارات الأصلية لمعظم المفاعلات التجارية الصينية تعود إلى الولايات المتحدة.

والآن تبني الصين مفاعلات أكثر من كلّ دول العالم مجتمعة من خلال تطبيق هذه الابتكارات على نطاق واسع. واتّضح أنّ الاقتصاد لا يهتمّ بمن كان أوّلاً، بل يهتم أكثر بمكان بناء التقنيات والاستمرار.

من المؤكّد أنّ طفرة البحث والتطوير في الصين تواجه رياحاً معاكسة. ولكي يحدث الابتكار تحوّلاً حقيقياً في البلاد، يجب أن يكون الاقتصاد الأوسع في حالة جيدة. لذلك، تسعى بكين إلى اعتماد إصلاحات لخفض ديون الاقتصاد الصيني الهائلة وفائض طاقته الإنتاجية، من خلال تحقيق استقرار سوق العقارات الوطني، الذي أدّت تعثراته إلى تأكّل ثقة المستهلك. ومع ذلك، فإن المسارات المتباينة للصين والولايات المتحدة واضحة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.