"ملجأ الزمن": استعادة الماضي الجميل لعلاج الخرف
يريد الجميع قطعة من الماضي، آملين أن يهربوا من أهوال الحياة الحديثة؛ وهو تطور تنتج عنه معضلة غير متوقعة حين يبدأ الماضي باكتساح الحاضر.
نُشرِت رواية "ملجأ الزمن" في الأصل باللغة البلغارية عام 2020، وصدرت بالإنكليزية عن دار ليفرايت عام 2022 بترجمة أنجيلا روديل. وبفضل هذه الترجمة، هي اليوم في القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية التي أُعلنت في الثامن عشر من نيسان / أبريل 2023. نالت هذه الرواية جائزة ستريج الإيطالية عام 2021، وهي تعزز مكانة كاتبها البلغاري غورغي غوسبودينوف كواحد من الكتّاب المهمين في عصرنا، وأحد الأصوات الرئيسية في الأدب العالمي.
من المعروف أن أحد العلاجات المبشّرة لخرف الشيخوخة هو العلاج بالاستذكار أو بعث الذكريات الذي يستخدم مشغولات وصور من أجل تحسين المزاج والإدراك. كذلك، تم في بعض الحالات بناء ما يدعى "قرى للخرف"، من شأنها أن تعيد خلق أماكن من أيام شباب المرضى: صالات سينما، مواقف حافلات، مطاعم، وغيرها. لا بدّ أن أساس إجراءات التدخل هذه ينطوي على درجة ما من الخداع، وليست كل الذكريات التي تُستعاد سعيدة. لهذا، فإن مسألة أخلاقيةِ إعادة الناس على نحو صناعي إلى الماضي، وسؤال إن كان هذا حقاً يجلب السلوى - إن كان الانغماس في الحنين إلى الماضي شافياً أو مؤذياً - هو السؤال الرئيسي لرواية "ملجأ الزمن".
يقرأ الراوي، وهو كاتب أدب مجهول الاسم، مقالةً في جريدة تتحدث عن طبيب يدعى غوسطين متخصص في أمراض الشيخوخة قام بتزيين مكتبه بديكور من ستينيات القرن الماضي. ولاحظ الطبيب، كما تقول المقالة، أن المرضى المصابين بأمراضِ ذاكرة يصبحون عند زيارة عيادته هذه "أكثر ثرثرة، بكلمات أخرى، يشعرون بالانتماء". "تلك كانت فكرتي. لقد كانتْ في رأسي منذ سنوات، لكن من الواضح أن شخصاً ما سبقني إليها"، يزعم الراوي الذي يتضح مع تطور القصة أنه نسخة تخييلية من كاتب الرواية ذاته. ثم يبدأ بتعقب غوسطين الذي لا نعرف إن كان موجوداً بالفعل.
لا يزعج غوسبودينوف نفسه كثيراً بالفخاخ المعتادة للتخييل. فهو يقدم شخصية الطبيب النفسي العجوز "غوسطين"، لكنه يوضح أنه من نسج خيال الراوي: "اخترعتُه أول الأمر، ومن ثم التقيته بلحمه ودمه"، ونحو قرابة نهاية الرواية يصبح هذا السطر أكثر غموضاً: "لا أتذكر إن كنت أنا من اختلقتُ غوسطين أو هو اختلقني". كذلك، تقول لنا الرواية صراحة: "كل الأشخاص الحقيقيين متخيلون، وكل المتخيلين حقيقيون".
وقبل أن نفهم ما يعنيه كلّ هذا، يلتقي الرجلان في زيورخ أثناء محاولة الطبيب العمل على إعادة خلق الماضي؛ وهي فكرة خطرت له بناء على رد فعل المرضى لديكور الستينيات في عيادته. يخطط غوسطين لإعادة إنتاج مواقع من أجل مرضى الخرف بحيث "تتزامن مع وقتهم الداخلي"، مُساعداً إياهم بهذا على إعادة تذكر الأجزاء التي نسوها من أنفسهم. لذلك، يبني منشأة في زيورخ للمصابين بمرض الألزهايمر والأشكال الأخرى من الخرف؛ "أولئك الذين يعيشون سلفاً في حاضرِ ماضيهم"، على حد تعبيره. يساعد الراوي الطبيبَ في صنع "عيادات للماضي"، وتكون مهمته جمع حطام وبقايا من الماضي، من أثاث وأزرار قمصان وروائح وغيرها. في البداية، تُخصَّص هذه الأماكن لمساعدة مرضى الألزهايمر والأشكال المماثلة من فقدان الذاكرة: "الهدف من التجربة خلق ماضٍ محمي أو زمن محمي. ملجأ زمني. لقد أردنا فتح نافذة في الزمن وجعل المرضى يبقون هناك، مع أحبائهم؛ إعطاء فرصة للأزواج العجائز الذين أمضوا حياتهم كلها معاً، لأن يظلوا معاً".
تقدّم "عيادة الماضي" علاجاً مبشراً لمرضى الألزهايمر: كل طابق من المنشأة يعيد إنتاج عقد من الزمن بتفصيل دقيق. والغرف مزخرفة بدقة بالغة ومجهزة بروائح وأجواء من عقود مختلفة (باستخدام أنواع سجائر معينة، ورق جدران، أرشيف مجلات.. إلى آخره) لكي تمنح الراحة لأمراض اعتلالات الذاكرة، من خلال إعادة خلق أزمنة الماضي التي شعروا فيها بالأمان.
في النتيجة، إن موضوع الرواية الأساسي هو الماضي؛ ذاكرتنا عنه - أكثر مما هي حقيقته-، حنيننا إليه، وثقله في الحاضر وعليه. وكما يشرح غوسطين: "إننا نقترب من الوقت الذي يريد فيه عدد متزايد من الناس أن يختبئوا في كهف الماضي، أن يعودوا إلى الوراء. وليس لأسباب سعيدة، بالمناسبة. علينا أن نجهّز ملاجئ حماية من قنابل الماضي. سمّها ملجأ الزمن، إذا رغبت".
يتجلى غوسطين بمثابة "جوال في الزمن"، شخص يقفز "من عقد إلى آخر تماماً كما نبدّل الطيارات في مطار". ومنشأته تدعو الأوروبيين إلى العيش في الماضي، مع كل الراحة والمخاطر التي ينطوي عليها فعل ذلك. وهي ليست مجرد مكان لمعالجة المرضى؛ إنها الفرصة المناسبة للراوي لاستكشاف القرن العشرين في أوروبا من خلال المرضى. يطرح الراوي عدة تأملات حول تاريخ أوروبا الحديثة ويتناول فكرة الزمن عند كتّاب مثل توماس مان، أودن، وهوميروس.
مع نجاح العيادة، وما أن تصبح الغرف مقنعة أكثر، يلجأ الأصحاء على نحو متزايد إلى العيادة. يريد الجميع قطعة من الماضي، آملين أن يهربوا من أهوال الحياة الحديثة؛ وهو تطور تنتج عنه معضلة غير متوقعة حين يبدأ الماضي باكتساح الحاضر. كما أن لدى بعض المرضى ذكريات من الأفضل تركها من دون تذكر. يقول غوسطين: "كلما ازداد الماضي، قلّت الذاكرة"؛ وهذا التفريق بين الذاكرة والماضي تزداد أهميته مع التقدم في صفحات الرواية.
مع الوقت، تنتشر الأخبار عن إنجازات غوسطين، ويفتتح عيادات جديدة عبر أوروبا، بما فيها واحدة في بلغاريا، بلد كاتب الرواية. لكن، مع ازدياد نجاحه، يصبح غوسطين قلقاً إزاء العواقب النفسية للتنقل بسهولة زائدة بين العقود. وسرعان ما يبدأ بالشكوى حيال أحلام البشر المخفّقة في القرن الحادي والعشرين. إن غوسطين وزوار "ملاجئ الزمن" التي صنعها يرون الماضي كعلاج لا للخرف وحسب، بل كذلك لانعدام المعايير الأخلاقية والقلق المتفشيين في الزمن المعاصر.
تحقق العيادات نجاحاً كبيراً، وسرعان ما تريد دول بأكملها تبنّي الفكرة لكي ترجع بالزمن إلى عصور ذهبية من تاريخها. يقول الراوي: "أول شيء يُفقَد في الذاكرة هو مفهوم المستقبل ذاته، والآن دول بأكملها تتخلى عن ذلك المفهوم، مع كل انعدام اليقين فيه، ساعيةً إلى عودة مليئة بالحنين إلى استقرار الماضي، أو ما يُتذكر على أنه كذلك".
هكذا، يأخذ المؤلف مفهوم العودة إلى الماضي إلى نطاق أوسع، ويصوّر بشكل مسلٍّ دولاً أوروبية مختلفة وهي تجري استفتاءات لتقرر أي فترة في الزمن تتمنى أن ترجع إليها. تجتاح حمى استذكار الماضي أوروبا، وتتناحر البلدان حول الفترة التي عليها أن تُسكتها أو تسترجعها. في بلغاريا مثلاً، يصطدم الاشتراكيون الذين يريدون استعادة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين مع الوطنيين الغارقين في مجد الانتصار على العثمانيين عام 1876، أما فرنسا فتختار العودة إلى الثمانينيات.
إن العناية بالذاكرة مشروعةٌ لمرضى الألزهايمر، لكن هذه الرواية الفلسفية هي مجاز، أكثر منها أدب واقعي؛ مجازٌ عن مخاطر العودة إلى الوراء، لا سيما بالنسبة إلى البلدان. هكذا، تمتد "ملجأ الزمن" إلى هجاء للنوستالجيا، وإشارة تحذيرية حول أن الذاكرة يمكن أحياناً أن تكون خطيرة. وفكرة العيادة برغم أنها ظريفة، تبقى مخيفة. كذلك، تقول الرواية إن "الماضي هو دوماً شيء محلي"، ما يعني أنه حتى ضمن بلد واحد، قد يتذكر بشر مختلفون أشياء مختلفة بسبب المنطقة التي يعيشون فيها أو طبقتهم الاقتصادية-الاجتماعية. كذلك، ثمة مشكلة أخرى تبرزها الرواية: "الماضي ليس ما حدث لك وحسب. أحياناً هو ما تخيَّلته".
من ناحية أخرى، يقول غوسبودينوف إنه بقدر ما ينسى المجتمع، يأتي شخصٌ ما ويملأ الفجوات المفرّغة بذاكرة اصطناعية. إن غوسبودينوف متعاطف مع الحزن اللاذع المرافق للأشياء التي تعود إلى الماضي، لكنه ينتقد العولمة، والهجرة، ومواكبة العصر التي يُفترض أنها قتلت تلك الأشياء. إننا جميعاً -بحسب رأيه- مشاركون في دمار التاريخ، والعودة إلى الوراء لا يمكن أن تعني سوى الرجعية وتمجيد الرداءة المتمسكة بالتقاليد.
مع هذا، حذر غوسبودينوف من اللجوء إلى النقد السياسي الفج، وهو واثق أن الهروب إلى الماضي لن يبطل نزاعات الحاضر.
في نهاية الرواية، ينحرف الكاتب قليلاً إلى سلسلة من اليوميات التي تفضح الانحدار الإدراكي للراوي ذاته. لكنه يعرف أنه يضيّع الوقت، ويبرّر ذلك بخاتمة هي بمثابة إشادة بالبدايات: "نهاية رواية تشبه نهاية العالم، من الجيد تأجيلها".
يستمتع غوسبودينوف بفكرة العيادات ومن ثم بفكرة التحوّلات التي تصنعها في البلدان، لكنه لا يجعل روايته تتحول إلى نوع حكايات الخيال العلمي التي تبني عوالم بديلة. وبفضل الدفء الذي يكتب به، لا يجعل الرواية كذلك تتحول إلى مجرد لعبة فكرية.
يستخدم غوسبودينوف أيضاً راوياً يحمل شبهاً به: بلغاري، ولد عام 1968، تمثّل نهاية الشيوعية له نقطة التقاء الماضي بالحاضر. إن عاطفة غوسبودينوف تجاه المرحلة صادقة إنما خالية من الأوهام.
في النتيجة، ليس غوسبودينوف مهتماً بالتخمين والتأمل فحسب، أو بأسئلة الــ"ماذا لو"، بل يحاول جعل روايته شخصية للغاية، مهتماً فيها بالفرد كما بالمجرّد. إن هذه الرواية هي تنويع مثير للاهتمام على روايات النوستالجيا. لكنها تتجاوز ذلك؛ الراوي والجميع في الرواية -أمم بأكملها، القارة الأوروبية كلها- تتصارع مع السيطرة والجذب الذي يستمر الماضي والذاكرة بممارسته، سواء فُقدا أو تم الاحتفاظ بهما.
إنها قصة أوروبية وقصة معاصرة، لكن الكثير مما يتناوله غوسبودينوف هنا عالمي أيضاً، وأزلي، وهو أمرٌ ليس بالمفاجئ كونها تتحدث عن تخطي الزمن. يقول غوسبودينوف في هذه الرواية إنه مع حاضر ومستقبل تزداد صعوبة مواجهتهما، لا بدّ أن يبرز إلى الصدارة التوق إلى الماضي، أو إلى وهمه.
إن عنوان "ملجأ الزمن" مُصاغ على غرار تعبير "ملجأ القنابل"، وهو غامض على نحو مبرر ليعني في الآن ذاته: الالتجاء من الزمن، والالتجاء في الزمن. لقد كانت النوستالجيا تبدو مثل سبيل للهروب غير الضار، لكنها بدأت تتحول إلى وقود أحفوري، يقصّر مستقبلنا أكثر فأكثر مع احتراقه.
"ملجأ الزمن" هي رواية ساخرة هجائية أحياناً، فلسفية أحياناً أخرى، ومكتوبة بأسلوب غوسبودينوف الفريد "التجريبي والفوضوي"، على حدّ تعبير مجلة "ذا نيويوركر" الأميركية. وهي تحاول أن تعرف فيما إذا كانت ذكرياتنا عن الماضي، سواء أكانت حقيقية أو متخيلة، بوسعها حمايتنا من فوضى الحاضر. في الحياة الواقعية، بالطبع، قد لا تحمينا الذكريات من تلك الفوضى، لكن في مخيلة غوسبودينوف، كل شيء ممكن.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب