مجتمع بلا ثقافة: نفق بلا ضوء
مجتمعات بلا شعراء أو رسّامين أو مفكّرين هي مجتمعات تفقد مناعتها ضدّ التعصّب، فالتطرّف لا ينمو إلا في العقول التي لم تتعلّم أن تشكَّ، أو تدرك على الأقل أنّ الشكّ طريق اليقين، أو أن تتخيّل عالماً مختلفاً.
-
فتاة فلسطينية تقف أمام عمل فني خلال معرض فني في مخيم دير البلح في غزة، في 8 حزيران/يونيو 2023 (شينخوا)
كتب أحد المتابعين على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي تعليقاً على حواري مع الفنان الراقي والموسيقي المحترم زياد الأحمدية: "أيّ فنّ والصواريخ تزن 1000 رطل تنزل على البناية تمحقها. ما زلتم تردّدون الفنّ الفنّ. أمّة ضحكت من جهلها الأمم".
واضح أنّ المتابع الكريم يجهل أهمية الفنّ كجزء من الثقافة التي ساهم تراجعها وتدنّيها وعدم اهتمامنا بها في تفاقم أزماتنا واستعصاء حلولها، مثلما ساهم في شيوع تيارات الجهل والتكفير والإقصاء والإلغاء والتطرّف والتعصّب الأعمى، وجعلنا حقاً "أمة تضحك من جهلها الأمم".
لا يدرك المتابع الكريم أنّ مدينةً تخلو من المكتبات، وتغيب عن شوارعها لمسات الفنّ، وتنقطع فيها حبال السرد، تولد الأرواح فيها ناقصة كطيورٍ بلا أجنحة. الثقافة ليست ترفاً، بل هي النَفَسُ الذي يُحيي الوجدان الإنساني، والجسر الذي يربط بين الماضي والمستقبل. فحين تتراجع الفنون والآداب، وتتقلّص مساحات الحوار والإبداع، تتحوّل المجتمعات إلى أرض قاحلة تزحف عليها رياح التخلّف والتعصّب، كالرمال التي تبتلع كلَّ أثرٍ للحياة.
المجتمع الذي يهمل ثقافته يشبه شجرة تُقطع جذورها لتبدو أكثر أناقة! فالهوية ليست مجرّد تاريخ مكتوب، بل هي أغانٍ تردّدها الأمهات، وحكايات يسردها الأجداد، ولوحات تجسّد أحلام الثوّار.
عندما تذوي الفنون، يفقد الإنسان بوصلة انتمائه، فيصير كقارب بلا شراع، يُلقى به في بحر العولمة الهائج بلا حكاية تميّزه. هذا الفراغ يتحوَّل إلى أرض خصبة للخطابات الشعبوية التي تختزل الهوية في شعارات ضيّقة، وتُحوِّل التنوّع إلى عدوٍّ وهمي، وهذا ما نراه جلياً في أكثر من بلد عربي حيث تشظّت المجتمعات مذاهب وطوائف وشِيَع.
الأدب يُعلِّمُنا أن نرى العالم بعين الشخص الآخر، والفنون تفتح نوافذ الروح لاستقبال أسئلة لا تجيب عنها المناهج التعليمية الجافة. في غياب هذه المساحات، يصير العقل سجين الأفكار الجاهزة، ويُختَزَلُ التعليم إلى تلقين يحوِّلُ الأفراد إلى أدوات بلا فضول.
مجتمعات بلا شعراء أو رسّامين أو مفكّرين هي مجتمعات تفقد مناعتها ضدّ التعصّب، فالتطرّف لا ينمو إلا في العقول التي لم تتعلّم أن تشكَّ، أو تدرك على الأقل أنّ الشكّ طريق اليقين، أو أن تتخيّل عالماً مختلفاً.
عندما يسقط الفنّ، يعلو صوت السلاح. التاريخ يخبرنا أنّ الأنظمة الشمولية أوّل ما تفعله هو حرق الكتب وتشويه اللوحات وسجن المبدعين، لأنهم يحملون بذور الوعي التي تفجّر الأسئلة وتزعزع اليقين المطلق. في الفراغ الثقافي، يجد المتطرّفون ملاذهم، فيملأون العقول الفارغة بخطاب يدَّعي امتلاك الحقيقة، ويُحوِّل الدين أو القومية أو العرق إلى سجن بدلاً من أن يكون مصدر إلهام. والنتيجة؟ مجتمعات تقاتل في ظلام الجهل أشباحاً صنعَتها بنفسها.
التاريخ لا يذكر الأمم التي انتصرت في الحروب فقط، بل يخلّد تلك التي انتصرت بالكلمة والفرشاة واللحن. فالثقافة هي التي تحوِّل الشعوب من كتل بشرية إلى أمم قادرة على الحلم بالمستحيل. النهضة العربية في القرن الــ 19 لم تبدأ بمدافع أو دبابات، بل بدأت بكتب تُترجَم، وصحف تُنشر، وأفكار تُناقَش في مقاهي بيروت والقاهرة. حتى في زمن الاحتلالات والحروب الأهلية، ظلَّ الفنانون والكتّاب يشعلون شموع الأمل، مثل غسان كنفاني الذي حوَّل قصص اللجوء إلى بصيص كبرياء، وناجي العلي الذي جعل من فنّ الكاريكاتير سلاحاً ضدّ الاحتلال والفساد والديكتاتوريات. الثقافة هنا ليست ترفاً، بل فعل مقاومة يمنع تحوُّلَ الإنسان إلى رقم في معادلة الدمار.
الحروب لا تحرق الأجساد وحدها، بل تحرق الذاكرة الجماعية للشعوب. لهذا كان تدمير "داعش" لتماثيل الحضارات القديمة في الموصل وتفجير آثار مدينة تدمر التاريخية عملاً متعمَّداً؛ وكذلك يفعل الاحتلال الإسرائيلي في السطو على الذاكرة الثقافية والتراثية الفلسطينية. فمن يسيطر على الثقافة يمحو هوية الأمم. لكنّ المجتمعات الواعية تدرك أنّ الفنون في زمن الحرب ليست رفاهية، بل هي الجسر الذي يعيد ربط الإنسان بإنسانيته.
حين كانت الصواريخ الإسرائيلية تدمّر بيوت غزة على رؤوس أهلها، كان الشعراء يكتبون عن أطفالها الذين يرقصون على أنقاض المدارس، والرسّامون يوثّقون وجوه الناجين بلوحات تُخلِّدُ الألم من دون أن تستسلم له. هذه الأعمال هي التي تحفظ للشعوب ذاكرتها، وتصنع من المأساة سردية تلهم الأجيال القادمة الصمود، وتحفظ التضحيات من النسيان.
أمام كلِّ اختراع علميٍّ عظيم، ثمة خيال أدبيّ سبقه! فجول فيرن مثلاً حلم بالغوّاصة قبل اختراعها بقرن، ولوحات عصر النهضة الأوروبية رسمت طريق الثورة الصناعية. الثقافة تُوسِّع مدارك العقل لتتخطّى حدود الواقع، وتصنع مجتمعات قادرة على التساؤل والابتكار. الدول التي تحتل اليوم صدارة العالم لم تنتصر باقتصادِها فحسب، بل بآدابها التي تُرجمت لكلِّ اللغات، وبمتاحفها التي صارت منابر للحوار الإنساني. حتى في الدول الفقيرة، نجد أن المجتمعات التي تحافظ على تراثها الشعبيّ وتدعم إبداع أبنائها، تكون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات، وأسرع في النهوض من تحت الأنقاض.
الاهتمام بالثقافة ليس اختياراً، بل ضرورة للبقاء. إنها الدرع الذي يحمي المجتمع من التشرذم، والسيف الذي يقطع أغلال الجهل. لن تُبنى الحضارات بالاقتصاد وحده، بل بالكلمة التي تحرّك الضمير، واللون الذي يمنح الأمل، واللحن الذي يوحّد القلوب المتناثرة. فكما يصلح المزارع أرضه قبل بذر البذور، علينا أن نزرع الثقافة في كلّ مكان، لئلا نستيقظ يوماً على عالم بلا ذاكرة، بلا جمال، بلا إنسانية.
الثقافة هي الضوء الذي لا ينطفئُ حتى لو اكفهرّت السماء بالطائرات. إنها ليست ترفاً نلجأ إليه حين تهدأ الحروب، بل هي الدرع الذي يحمينا من أن نصير وحوشاً تقتل وتفترس تحت رايات ومسميّات شتى. لن تنتصر الشعوب بالسلاح وحده، لكنها تنتصر حين تروي قصصها بلغة تصل إلى قلب العالم، وحين تُعبِّرُ عن جراحها بلوحة تجعل الإنسانية كلَّها تبكي، وتصلح ذاتها بقصيدة تمنح القوة للضعفاء. فالثقافة، في النهاية، هي الطريق الوحيد لصناعة إنسان قادر على أن يحب، أن يغفر، أن يبدع… أن يبقى.