ما هو شكل المقدّس الذي يخصّنا اليوم؟
إن "أنسنة الدين" تعني العودة إلى روح الدين وجوهره بعيداً عن التفسيرات التي أُضيفت إليه بفعل الزمان والمكان.
يُشير غطاؤنا الثقافي، بحكم الشرط الزمني ذاته، إلى وجود سيرورة طويلة قادت الإنسان بشكل تصاعدي إلى "التأنسن" وبلورة حاضن اجتماعي ينمو داخله باعتباره كينونة جديدة تتحقق في التاريخ والحضارة استناداً إلى قوانين هي من صلب الممارسة، أي ضمن سعي الإنسان الدائم إلى التطور وتجاوز ممكناته الذاتية.
لقد تخلص الإنسان من حسية صامتة لكي يستعيد نفسه كائناً عاقلاً يدير انفعالاته استناداً إلى مقتضيات الفكر لا الهوى وحده. فالإنسان جزء من الطبيعة في الظاهر فقط. أما في حقيقته فهو منتج من منتجات التمثيل الرمزي بكل واجهاته، إنه كائن منتج للمعاني ومستهلك لها.
إن المطالبات بتجديد الخطاب الديني ينبغي ألّا تكون ذريعة لهجوم الجماعات الأصولية المتشددة، وأن تُتهم بمهاجمة الدين كمنظومة قيمية كبيرة وراسخة، ضرورة تجديد الخطاب لا بد أن ترافقها آليات فكرية تفكك المفاهيم الخاطئة التي ينطلق منها المطالبون بأنسنة الدين وفق المحددات المثالية. هذا التفكيك للمفاهيم يمكن له أن يرتقي بالمجتمعات الإسلامية ليس فقط على صعيد التنظير، بل لا بد من سياقات عمل محسوسة وملموسة في ذات الوقت.
ولعل أهم السياقات العملية لتجديد الخطاب تكمن في عدم اجترار الماضي (المقدس)، بل الأفضل وضعه على مشرحة النقد الموضوعي والاعتراف - وهذا مستبعد حالياً- بأن أسباب نشوء جماعات التكفير السلفية في العالم الإسلامي هو ذلك التقديس الأعمى للماضي ومدوناته الفكرية والفقهية.
ولكن، أيّ إيقاع للمقدّس في عقولنا في عالم التصحر الروحي والعاطفي؟ وهل نجيد دوماً الإنصات إلى إيقاعات المقدس من أجل تأثيث الروح في أوطاننا؟
وكيف يمكننا مقاربة الدين وفهم مآلاته الإنسانية ضمن هذا التطور؟ وهل يمكن تحرير الدين من أغلاله؟ ولماذ سقطت "الأنسنة" في المجتمعات المتدينة ونجحت في المجتمعات غير الدينية؟ هل لأن المجتمعات غير المتدينة استمدت قيمها الإنسانية من مصادر متعددة، مثل الفلسفات الأخلاقية، والتقاليد الثقافية، والتجارب التاريخية، وحتى العقل العملي، كما في اليابان والصين؟
القيم الإنسانية، سواء كانت مستمدة من الدين أو من مصادر أخرى، هي الأساس في بناء المجتمعات المتقدمة. التقدم لا يعتمد فقط على القيم، بل أيضاً على المؤسسات، والتعليم، والتكنولوجيا. لذا، يجب على المجتمعات العمل على تعزيز هذه القيم، وتحويلها إلى ثقافة وسلوك، بما يضمن مستقبلاً أكثر عدلاً وإنسانية. ولكن كيف يمكننا أن نخلِّص الدين من شوائب الخرافة، وتطفل الساسة والمنافقين؟ كيف نجعل من الدين ديناً عقلانياً ديمقراطياً يؤمن بالحرية والمساواة والعدالة؟ كيف نجعل من الدين ديناً لتشريف الحياة؟
إن مخرجاً ممكناً من هذا الهوس الطائفي والنزاع الديني المفتوح، يمكن أن يتحقّق إذا اتسع وعي المجتمع. إذ كلّما اتسع وعي المجتمع، أمكن للتديّن أن يتحضّر. وتحضّر التديّن يتناسب طرديّاً مع اتساع حضور العقل وتراجع الجهل، ووفرة العيش الكريم وانحسار الفقر، وتقدّم الرعاية الصحية وعدم انتشار الأمراض، لكن هذا الحلم لا يزال بعيد المنال في العالم.
في كتابه المعنون بـ "الأشكال الأساسية للحياة الدينية"، يوقّع عالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركهايم، نقلة منهجية نوعيّة في مجال الاشتغال على الظاهرة الدينيّة، فينقلنا من الدين سلوكاً فردياً أو عقيدة إلى مفهوم الحياة الدينيّة.
لقد أثار هذا المفهوم جدلاً فكريّاً أثرى عميقاً النقاشات في مجال تاريخ الأديان في عصر يوسم بظاهرة عودة الديني وانفجار مساحة المقدس نفسها. ولكن رغم أن دوركهايم ومن بعده المؤرخ الروماني وفيلسوف الأديان، مرسيا إلياد، قد رسما معاً كل على طريقته، بأن المقدس لا يولد إلا ضمن دائرة دينيّة، إلا أن المقدّس "المعاصر" خرج عن حدود الدين من أجل أن يخترع لنفسه حقولاً مغايرة: هو مقدس الحياة اليومية نفسها. أي إن كلّ عصر يصنع مقدّسه بنفسه. ولكن ما هو شكل المقدّس الذي يخصّنا نحن اليوم في حضارة عودة الديني في أوطاننا على إيقاع الدماء والجوع إلى القرابين؟
وهكذا، اعتُبر الدين من الضروريات التي بحثها الإنسان وشكلت جزءاً أساسياً من حياته منذ العصور القديمة. فهو قدم للإنسان إجابات عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بوجوده، وهدفه، ومصيره. والنزعة الإنسانية للدين سعت إلى تحرير الإنسان من خوفه الدائم القابع في أعماقه. ولكن بدأت تظهر تفسيرات بشرية متعددة للنصوص الدينية، وهو ما أسهم في انقسام العالم الإسلامي وتعدد مدارسه الفكرية التي تُستخدم لأغراض سياسية أو اجتماعية، ولا سيما في فترات الحروب والصراعات. ما أفقد الدين موضوعه الروحي و"أسقطه" في أوروبا أولاً، وها هو يفقد قيمته في الشرق، ولعل التقدم العلمي وتعدد مدارسه جعلا من العلم دين الإنسانية الجديد!
إن "أنسنة الدين" تعني العودة إلى روح الدين وجوهره بعيداً عن التفسيرات التي أُضيفت إليه بفعل الزمان والمكان. فكما أن اللغة هي كينونة الإنسان وامتداده في الآخر وفي التاريخ، فإن أشياءه وطقوسه هي الواجهة المادية لهذه الكينونة. فالدين في جوهره ليس مجرد مجموعة من الأحكام الجامدة، بل هو منظومة من القيم الإنسانية التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية، والمساواة، والرحمة. وبهذا المعنى جاءت "الأنسنة" في بدايتها كثورة مضادة للكنيسة، وليست تياراً فكرياً منظماً ومتكاملاً بالمعنى المعروف. فقد كانت رغبة جامحة في الانقلاب على الموروث الذي كانت الكنيسة قد قررته كمقدس لا يقبل النقاش بجعل الإنسان كائناً مدنساً بالخطيئة الأصلية، فحركة الأنسنة جاءت لتحرير الإنسان من أي سلطة خارجة عن ذاته، ولتحريره أيضاً من التبعية اللاهوتية، فهو الذي يجب أن يضع المعايير والمقاييس التي ينبغي أن يسير عليها في حياته، ويرسم طريقه القيمي والفكري بعيداً من أي سلطة لا تمثّل إرادته البشرية.