لوحات سارة شمّة: مقاومة جمالية

قد يكون "تدخّل أخضر" أكثر من مجرد معرض؛ إنه بيان بصري عن إمكانية الفن كفضاء للمقاومة الجمالية. ففي كل طبقة لونية، تكشف شمّة عن إيمانها بقدرة اللون على اختراق الحواجز الجغرافية والسياسية والوجودية.

  • لوحات سارة شمّة: مقاومة جمالية
    لوحة لسارة شمّة

لا تكفّ بيروت عن الحياة. في خضم الحروب المتناسلة، والأزمات التي لا تعرف حلولاً، وفيما يعيش الإقليم جحيم حربٍ تلو أخرى، تظل هذه العاصمة ملاذاً لمحبي الحياة، لا بمعناها الاستهلاكي السطحي، ولا فقط من خلال حفلات السهر والسمر، بل من حيث احتضانها لكثير من الأنشطة الإبداعية التي تشكّل جزءاً عضوياً من عصب المدينة المقاوِمة لكل أشكال الموت والخراب؛ فحُبّ الحياة بمعناه العميق لا يكون إلا انحيازاً للحقّ والخير والجمال، والفنّ الحقيقي في قلب هذا الثالوث.

في وسط بيروت الشاهد على تحوّلات وتبدّلات لا حصر لها، ثمة متّسع لما هو أبعد وأعمق من التسلية والترفيه وملء البطون؛ فالصالات التشكيلية المتعددة في وسط العاصمة توفر فرصة لمحبي الثقافة والفن، وإن كانت لا تزال وقفاً على الفئة القادرة على اقتناء الأعمال المعروضة في هذه الصالة أو تلك، لكنها أيضاً فسحة لمن لديه فضول متابعة الحركة التشكيلية المعاصرة، والتعرّف على تواقيعها وتياراتها، وتغذية بصره بغير التشوهات التي أصابت المدينة وعمارتها.

في غاليري مارك هاشم معرض بعنوان "تدخّل أخضر" للفنانة السورية، سارة شمّة، يتضمّن 20 عملاً (زيت على قماش) تختبر فيها طيف اللون الأخضر بوصفه لغزاً وجودياً، حيث تبدو اللوحات وكأنها استعارة بصرية للخلود المؤقت.

  • لوحة لسارة شمّة
    لوحة لسارة شمّة

ليست اللوحات هنا مجرد سطح ثنائي الأبعاد، بل تحولت إلى عوالم شبه مجسَّمة: طبقات شفافة تتصارع مع كتل لونية كثيفة، وكأن الأخضر يتحرر من سجنه التقليدي ليتنفس في الفراغ.

ما يميز فرشاة سارة شمّة ضرباتها النابضة التي تطفو ككائنات حية، متحدية إدراك المشاهد للثبات والمادية، بتدرجاتها المتحوّلة التي تظهر كأنها تتنكّر أو تتبدّل كلما تنقّل الزائر حول العمل، في لعبة بصرية من المراوغة والتجلي. وصفها الفنان التشكيلي البريطاني، ديفيد ماك، بقوله إن: "لوحاتها تصدمك مباشرة في وجهك، تقدم لنا شيئاً حياً. هذا شيء مذهل، لوحاتها لا تصبح مجرد تاريخ، بل تعيش وتستمر وتأخذك معها".

في يد شمّة، يتحول اللون إلى حكاية فلسفية: التجدد والهشاشة ثنائية تتراقص على سطح اللوحات، حيث يرمز الأخضر إلى النماء لكنه يحمل في طياته إمكانية التلاشي. الوجود المهدَّد إحالة إلى الطبيعة البشرية في سياقات الحرب والمنفى، وهي ثيمات تلازم تجربة شمّة.

اللون لدى شمّة لغة كونية ومحاولة لتجاوز الجغرافيا عبر طيف لوني يتحدث بلغة اللاوعي الجمعي. وفي معرضها المنفرد الأول في بيروت "تدخّل أخضر"، تدعو شمة المشاهدين إلى اختبار الطيف اللامتناهي للأخضر، ليس فقط كونه لوناً، بل كتجربة متطورة للعمق والمنظور.

ويقدم المعرض تجربتين متوازيتين: اللوحات المعروضة حيث يبلغ بعض الأعمال أحجاماً ضخمة، تستدعي الجسد كله في عملية التلقي، لا العينين فقط. والواقع الافتراضي عبر تجربة "داخل عقل سارة شمّة" التي صممتها شركة "إي في آر" اللندنية، بحيث تغدو هذه التجربة الماتعة بوابة إلى عالم الفنانة الداخلي، حيث يتحول الإبداع إلى فضاء غامر (Immersive Experience).

  • لوحة لسارة شمّة
    لوحة لسارة شمّة

لا ينفصل هذا المعرض عن سياق شمّة الفني المتشعب (تحدثت سابقاً للميادين عن تجربتها الثرية حين استضافها برنامج "بيت القصيد" في حلقة باتت متاحة على "يوتيوب")؛ فهي فنانة سورية حاصلة على تأشيرة الموهبة الاستثنائية بالمملكة المتحدة (2016)، تعيش بين دمشق ولندن، حاملةً تناقضات الشرق والغرب في لوحاتها، وأعمالها معلقة في مؤسسات فنية مرموقة من أوروبا إلى العالم العربي. وهي في سعي دائم لتطوير تجربتها بدءاً من أعمالها التعبيرية عن الصراع الإنساني إلى هذا التماهي مع اللون كموضوع مستقل.

ليس غريباً أن تستضيف بيروت هذا الحوار البصري المركّب؛ فغاليري مارك هاشم منصة معروفة بجرأتها في تقديم الفن الحداثي، وهي جزء من النسيج الثقافي الحيوي للعاصمة اللبنانية، مدينة التشظي والجمال التي تمثّل بيئة طبيعية لمعرض يلامس إشكالية الهشاشة والصلابة، الفقدان والتجدد.

معرض سارة شمّة يذكّرنا بأعمال النحات البريطاني، ريتشارد ديكون، والفنان الأميركي، سبنسر فينش، لكن بأسلوب شمّة الخاص الذي يدمج الحسية الفائقة بالتفلسف البصري.

  • لوحة لسارة شمّة
    لوحة لسارة شمّة

قد يكون "تدخّل أخضر" أكثر من مجرد معرض؛ إنه بيان بصري عن إمكانية الفن كفضاء للمقاومة الجمالية. ففي كل طبقة لونية، تكشف شمّة عن إيمانها بقدرة اللون على اختراق الحواجز الجغرافية والسياسية والوجودية.

المتأمل في لوحة سارة شمة يلاحظ أنها لوحة متحوّلة، بمعنى أنه كلما نظر إليها من زاوية مختلفة عن الأخرى يكتشف شيئاً جديداً، ويشعر أنه يشاهد لوحة جديدة، وكأنها بذلك تؤكد أن الفن الحقيقي ليس شيئاً نستهلكه، بل هو مكان نسكنه مؤقتاً، ثم يحل فينا كضوء أخضر متوهج في الذاكرة.

يستمر المعرض حتى 26 حزيران/يونيو الجاري، داعياً كل باحث عن جمالية التحدي إلى وقفة أمام لوحاتٍ ترفض أن تكون مجرد ديكور، بل تريد أن تكون شاهداً وحواراً وكائناً حياً في آن.

اخترنا لك