كيف سخر الاحتلال البريطاني العمال المصريين؟

أفضى العنف والتجنيد الإجباري إلى انفجار ثورة في ريف مصر عام 1918، وكانت من أهم ارتكازات ثورة 1919 في العام التالي.

  • كيف سخر الاحتلال البريطاني العمال المصريين؟
    كيف سخر الاحتلال البريطاني العمال المصريين؟

صدر كتاب "فرقة العمال المصرية" من تأليف كايل جون أندرسون، وتعريب شكري مجاهد ومحمد صلاح علي، والذي بدأت فكرته من شاهد قبر وحيد في دنكيرك. 

يحكي الكتاب عن تجنيد الاحتلال الإنكليزي بالقوة الجبرية خلال الحرب العالمية الثانية نحو نصف مليون مصري لإنجاز أعمال شاقة لمصلحة الجيش في أوروبا والشرق الأوسط. وبهذا، أعاد الإنكليز نظام العمل بالسخرة لتحقيق مصالحهم بعد إلغائه.

يوضح الكتاب النظرة العنصرية للشعوب الأوروبية تجاه كل من هو غير أوروبي، وتلك أحد أسباب تناسي قصة العمال، فلم يهتم القارئ الأوروبي بشكل عام بمعرفة أخبار "الملونين"، إذ عاشت أوروبا حينها أعتى فترات العنصرية. وكانت ممارسات الاستعباد لا تزال سارية، بدليل تصوير الكتاب الطريقة التي اقتيد بها العمال مقيدين، مختطفين من بيوتهم وأراضيهم، وكان أغلبهم فلاحين. 

لكن قضية العمال كانت الشغل الشاغل في مصر، وسادت الأغاني والحكايات الشعبية والروايات. ويتكون الكتاب من 9 فصول؛ كل فصل يحاول المؤلف فيه إظهار حقائق بعينها عن هذه الفرقة وتأثيرها تاريخياً. 

الفصل الأول يوضح سببي اختيار بريطانيا تجنيد المصريين في أعمال الدعم اللوجستي، وليس الأعمال الحربية. الأول: إسلام أغلب الشعب المصري. ولهذا، استبعد الإنكليز أن يحارب المصرون الدولة العثمانية المسلمة. 

ثانياً: النظرية المُسلّم بها في أوروبا عن أن الشعوب الملونة والسمراء عموماً لديها قدرة تحمّل أكبر. وبالنسبة إليهم، كان المصريون ملونين. إضافة إلى فكرة ترفع الأوروبي عن أداء أعمال يراها دنيئة. وفكرة الأوروبي عن عدم صلاحية حكم الشعوب الملونة لنفسها. وعلى هذا الأساس، رفض استقلال مصر بعد ثورة عرابي. 

يصوّر الفصلان الثاني والثالث آلية تجنيد الفرقة، أولها الصحف، وخصوصاً جريدة "المقطم" المؤيدة للبريطانيين بضغط رقابي، التي عملت على نشر مقالات توحي بالميزات التي حصل عليها المنضمون إلى الجيش البريطاني، حيث المأكل والملبس والمعاملة أفضل مما ظن الجميع، لكن هذه المقالات لم تحقق هدفها، ولم يتهافت المصريون على هذا العمل، كما ظن الإنكليز، ما دفع المسؤولين إلى إجبارهم على العمل بالسخرة. 

وكان "عمداء" القرى هم الوسيط الأكثر تأثيراً في إنجاز هذه العملية لمصلحة البريطانيين، واستعملوا القوة والتنكيل بالفلاحين لإجبارهم على التجنيد، بمساعدة قوة الخفراء المسلحين، ووصل بهم الأمر إلى اختطاف بعض الشباب من الطرقات.

وقد جمع هؤلاء العمد ثروات طائلة من الرشوة نظير أعفاء أو إغفال تجنيد البعض. يذكر الكتاب أن الفلاحين كانوا يستدينون ويجوعون ليجمعوا أموال رشوة العمدة. ولأهمية دور العمد في هذه التراجيديا، صاروا مادة للتندّر في الأعمال المسرحية، وكذلك كتب المؤرخ أمين عز الدين حكاية شعبية عن دور العمدة في تجنيد العمال المصريين وكيف كان شخصاً لا يؤتمن، غادر وجشع. وقد استعمل عُمد القرى التجنيد الإجباري كوسيلة للانتقام من خصومهم.  

وقد أفضى العنف والتجنيد الإجباري إلى انفجار ثورة في ريف مصر عام 1918، وكانت من أهم ارتكازات ثورة 1919 في العام التالي.

الفصل الثالث "من الدار للنار" يروي رحلة المجندين الشاقة، ويستعرض أماكن تكدسهم الشبيهة بزنازين السجون، والتي تديرها مصلحة السجون في وزارة الداخلية. 

يتكدّس بالزنازين عشرات الأشخاص لأسابيع. وكان التكدس أحياناً يتطور إلى اضطرابات حررت البعض بالفعل، ثم مرحلة الكشف الطبي التي ظهر فيها أن العديد منهم غير صالحين للتجنيد بسبب أمراض العيون على الأغلب، وأعيدوا إلى منازلهم. 

وهنا، يقول الكاتب إن مَن تناسب مع الخدمة قُدم له ما يشبه عقود العمل للدلالة على أن التجنيد طوعي، لكن بما أن أغلب هؤلاء أميون، دفعوهم إلى نظام "الختم"، وأقاموا مراكز لصُنّاع الأختام على أطراف أماكن الاحتجاز! ومن يرفض الختم يُضرب حتى ينصاع للأمر ويختم. وبعدها وُزّعوا على القاهرة والإسكندرية في معسكرات التدريب، وتسلّموا تجهيزات وامدادات السفر، كالملابس والاغطية. 

وقد قُسّموا إلى من سيعملون في أوروبا، وهؤلاء سافروا على متن السفن الحربية، وكان ركوب البحر بالنسبة إلى الكثيرين منهم أمراً جللاً، وللمرة الأولى في حياتهم، وتعرضوا لأخطار جمة كهجوم الغواصات الألمانية على سفنهم. 

لكن من عملوا في المهمات الداخلية تنقّلوا بالإبل، وعملوا في بناء الثكن العسكرية والسكك الحديدية الداخلية وبناء معسكرات الجيش البريطاني في المديريات المختلفة، وكذلك الذين أرسلوا للعمل بالمهام نفسها في النطاق الإقليمي بين مصر وفلسطين وسوريا حتى بلاد الحجاز حينها.

يستعرض الفصل الرابع اقتصار مهمة "فرقة العمال" على العمل اللوجستي، فمن سافروا إلى أوروبا، عملوا في الموانئ. وعندما استدعت الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى عمالها المشتغلين بالموانئ لتجندهم في جيوشها، كالعمال الفرنسيين الذين أحدث سحبهم من الموانئ نقصاً حاداً في العمالة، عوّضت القوات الإنكليزية هذه العمالة بفرقة العمال المصرية. اشتغلوا في الموانئ الفرنسية أولاً، ثم انتقلوا إلى إيطاليا، ومنها إلى بقية أوروبا، في أعمال الشحن والتفريغ وبناء المستودعات ومنشآت الموانئ.

ومَن أرسلوا للعمل في الشرق الأوسط، بنوا خطوط السكك الحديدية وإمدادت المياه، وشقوا الطرق وشبكات التلغراف ومسارات قوافل الجمال. وهنا، سنرى كيف عاشت فرقة العمال المصرية بين "شقي الرحى"، فرغم أنهم ضحايا الاحتلال ولم يحملوا السلاح، فإنهم أجبروا على بناء طرق وسكك حديدية استطاع البريطانيون بها غزو ممتلكات الدولة العثمانية "فلسطين وسوريا". 

تعرض العمال لمخاطر عديدة أثناء عملهم، كقربهم من أماكن قصف الألمان للأهداف الإنكليزية، وأخطار انهيار الصخور، حيث المرتفعات الوعرة التي مهّدوها كالطرق، والطقس الماطر وغيره.  

 كذلك، عملت الفرقة في السودان في مهمة مختلفة، مثل "قيادة الجمال"، إذ شكل العمال "فرقة الهجانة"، واستعملهم الجيش الإنكليزي في القضاء على حركة المهدي. وبلغ عدد فرقة العمال عام 1918 نحو 237407، بحسب سجلات المحفوظات البريطانية الوطنية ووزارة الخارجية. 

ويحكي الفصلان 5 و6 عن سياسة الفصل العنصري داخل معسكرات العمل. ذكر الكتاب كيف فصلت أماكن الإقامة للمصريين عن أماكن الضباط المراقبين الأوروبيين البيض، وكيف حصل العمال على أطعمة رديئة مقارنة مع الأوروبيين. ومُنعوا أحياناً من ارتداء أحذية بذريعة أن ثخانة بشرة أقدامهم الملائمة لسماتهم العرقية لن يضرها إن عَملوا حفاة. 

ويسلط الفصل الضوء على أصوات فرقة العمال المصرية؛ الأصوات التي وردت في كتابات الضباط عنهم أثناء الحرب وهم يغنون أو يتحدثون، فقد كانت فرقة العمال مهيمنة بتفاصيلها على حياة المعسكرات، إذ نأى الضباط الأوروبيون بأنفسهم عن البقية، والذين استكشفوا من أصوات العمال مدى نجاحهم في التأقلم مع كل الغريب حولهم. ووصف الأوروبيون أصوات العمال بالروحانية، إذ كانوا يعملون على وقع ترديدهم: "الله، الله"، وكذلك حلقات الذكر التي أقاموها في المعسكرات، وأيضاً أغانهم الشعبية وأحاديثهم الودية والصاخبة. 

ويوثق الفصل السابع السياسة التي تبنّتها الفرقة المصرية داخل المعسكرات؛ سياسة نبعت من تأكيدهم هويتهم الجمعية، وتمثلت في التضامن والمؤازرة في مقابل العنف والإساءة التي تعرضوا لها، وبدأوا باستخدام ما يسمى "بسلاح الضعفاء"، كالتكاسل والتمارض ومحاولة الهروب الجماعي والتحريض على الاحتجاجات والتمرد والإضراب أثناء الحرب، حتى وصل الأمر إلى مواجهات مباشرة مع الضباط.  

ولم يمر تأثير هذه الفرقة رغم إقصائها للخارج من دون صدى في الداخل. ففي الفصلين الأخيرين من الكتاب سنرى كيف أثرت الفرقة في ثورة 1919 عملياً ورمزياً. 

قضية الفرقة ملأت الصحف القومية ومراسلات الزعماء والكتب أثناء الثورة وبعدها، وكتب هؤلاء عن كيفية اختطاف المصريين ومعاملتهم، كالعبيد و"الزنوج والوحوش الأفريقية". وهنا، سوف يبرز رد فعل الساسة والمفكرين المصريين على هذا التصنيف العرقي للمصريين باعتبارهم شعباً ملوناً، ووضعوا فرقة العمال المصرية باعتبارها رمزاً "للجوهر القومي". 

وعمل جميع زعماء ومفكري الثورة على دحض الصورة الزائفة عن تطوع العمال، وأكدوا ذلك بالمشهد المنتشر في ريف الدلتا والصعيد عن الرجال المكبلين المساقين كالعبيد إلى العمل إجباراً.

هدمت فرقة العمال المصرية التصور الذي صدّره الأوروبيون عن تفوق الجنس الأبيض، وأثبتوا أنهم لم يكونوا بحاجة إلى البريطانيين للتمدن، بل إن البريطانيين اعتمدوا عليهم لكسب حروبهم.