"كل ولادنا للخلفة".. سؤال الإنجاب في غزة أو قتال الموت بالحياة
كل امرأة غزية تعلم بأنها قد تفقد أطفالها في أي حرب. لذلك، يشكل الإنجاب في غزة حالة فريدة. تعالوا نتعرف إلى تجربة الإنجاب في غزة ودور الديموغرافيا في الصراع مع الاحتلال.
***
أمهات يخفن من أُمومتهن
تقول مرح الوادية (33 عاماً) في حديث إلى "الميادين الثقافية"، وهي صحافية فلسطينية غزيّة وأُمّ للطفل عُمر (4 أعوام)، وقد عاشا معاً جولات تصعيد إسرائيلي وحربين طاحنتين أشدّهما الجارية الآن: "في الحرب تمنيت لو لم أُنجب. تمنيت لو أستطيع إدخال طفلي أحشائي مُجدداً. لم أخشَ الموت تحت القصف يوماً، لكنني منذ صرت أُمّاً أصبح الأمر أكبر هواجسي بالحياة".
عمر، هذا الطفل الصغير الجميل، كبر قبل أوانه، وحاله اليوم كحال مئات الآلاف من الأطفال في غزة. لقد أصبح يفرّق بين صوت الرعد وصوت القصف، وبين صوت الصاروخ الذي يصفر قبل انفجاره، وبين الصاروخ الارتجاجي الذي يدركه عمر فوراً، فيقول لوالدته فور سماعه: "ماما، الصاروخ خلّى البيت يتمرجح ماما". كما أن صوت الهدوء أيضاً يُفزعه ويجعله يتساءل: "راح القصف يا ماما؟".
في الحالتين، تحاول مرح السيطرة على مشاعرها وكبتها لأجل صغيرها. تقاتل من أجله، لكن من دون جدوى، فقبل أن تكون أُماً، هي صحافية، وزوجها، أي والد عمر، صحافي أيضاً. والاثنان يستمعان إلى الأخبار بصورة دائمة ومستمرة. وجعل هذا الواقع عمر مُتأثراً بوالديه. يركض نحوهما ما إن يسمع صوت مقطع فيديو يتضمن صراخ أحدهم، يطلب فوراً أن يراه، ليكون جزءاً من الحدث، فيقول: "بدي أشوف القصف، فرجيني القصف ماما".
الآلاف من الأُمهات، اللواتي يعشن الحرب الآن، واللواتي يشاهدنها عن بُعد عبر شاشات التلفاز وأجهزة الهاتف، يُسيطر على أذهانهن سؤال الأمومة. آلاف الحوامل تنقبض أرحامهن خوفاً مما تحمله الساعات المقبلة. آلاف الأجنة يواجهون احتمال الموت قبل بدء الحياة أصلاً، وآلاف أُخريات من النساء يصممن على فعل الإنجاب رغبةً منهن في البقاء وإصراراً على الوجود. فكيف نفهم سؤال الإنجاب في فلسطين المحتلة؟ وفي غزة على وجه التحديد؟ وكيف نفكك خصوصيته في هذه البلاد الواقعة تحت سطوة النار والرصاص الدائمين؟
تهدف هذه المادة إلى إلقاء الضوء على اللامحكي واللامرئي في حياة الغزيات، الأُمهات والحوامل، من خلال تحليل فعل الانجاب في قطاع غزة بصفته فعلاً مضادّاً لسياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي يتبعها الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في القطاع المحاصّر منذ أكثر من 17 عاماً، أي منذ اللحظة التي تحوّلت فيها غزة إلى سجن كبير يضم مليوني إنسان، الأغلبية العظمى منهم من النساء والأطفال.
يأتي ذلك في ظل وجود 50 ألف امرأة حامل في غزة، يواجهن كابوساً مع اقتراب نظام الرعاية الصحيّة في القطاع من حافة الانهيار؛ منهن 5522 من المتوقع ولادتهن خلال الشهر الجاري، و540 ألف امرأة في غزة في سن الإنجاب.
أمّا من ولدن في أثناء العدوان الجاري، فأُجريت لهن عمليات ولادة قيصريّة من دون تخدير، أو انتُزِع أطفالهن من بطونهن أحياءً، بينما هن استشهدن، أو العكس، استشهد الأطفال في بطون أُمهاتهن، بينما بقيت الأُم تصارع فقدها وحيدة، وفي أسوأ الأحوال استشهدت الأُم وطفلها معاً.
بدأت قصة مرح مع الأمومة منذ اللحظة التي علمت فيها بأنها حامل. كان ذلك عام 2019، حين كانت الصواريخ الإسرائيلية تمطر سماء غزة، وحينها تحوّلت أكثر اللحظات حميميةً وإثارةً في حياتها إلى لحظات خوف من المجهول.
تقول مرح: "عندما علمت بأنني حامل، شعرت كأن أكثر ما تمنيته تحوّل إلى رعب. ففي الفترة ذاتها، كان هناك كثير من الأُمهات اللواتي فقدن أطفالهن وأجنتهن من القصف المباشر ومن وقع الأصوات المدوّية، التي تُربك كل حسابات المنطق الطبيعي الذي يفترض أن يحيا فيه الإنسان".
ما حدث مع مرح يعطينا تصوّراً كافياً لقدرة الاحتلال على اختراق المساحات الحميمية الخاصة بالنساء الفلسطينيات، فارضاً عنفه وتوحشه على حواسهن وذاكرتهن. وهذا ما يُطلق عليه مُسمى "احتلال الحواس". فصوت القصف العالق في ذاكرة مرح ارتبط بذكرى معرفتها بوجود الحمل، وصور الأُمهات الفاقدات والأجنّة الميتين لا تفارق خيالها، لتتحوّل رحلة الأُمومة لديها من رحلة وردية، كما يُفترض أن تكون لدى كل أُمهات العالم، إلى كابوس مرعب.
وتضيف مرح أن "مشوار الأُمومة وردي في أذهان الأمهات هنا، بينما تنقلب الحال عندما يصبح واقعاً تحت القصف. تتحطم قلوبنا مع كل ضربة، حتى لو كان ابني في حضني، أضمه أكثر فأكثر، وأدعو الله لو أصابنا الموت، أن يصيبنا جميعاً من دون استثناء".
المقاومة بالإنجاب
تاريخياً، كانت طفرة المواليد في أثناء الحروب وبعدها ظاهرة عالمية متكررة. فشهد التاريخ زيادة مفرطة في النمو السكاني، وزيادة في عدد المواليد في فيتنام كانت قبل الحرب. فالعائلة الكبيرة يتراوح عدد أفرادها عند 12 فرداً تقريباً، بحيث كانت تحتفي بالكثرة، نظراً إلى الظروف الاقتصادية التي تحتم على العائلة إنجاب عدد من الأطفال لمساعدة الأهل في الزارعة. كما أن تلك الزيادة كانت مرتبطة بأسباب صحية بسبب نقص المرافق الصحية والأدوية والعوز، فتعمد الأسر إلى إنجاب عدد من الأطفال، لتفادي المعاناة من كثرة وفيات الرضع والأطفال آنذاك.
وفي هذا السياق، يرى عالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركايم، في دراسته عن الانتحار، أن الناس يميلون إلى الانتحار في أوقات السلم مقارنة بأوقات الحروب والصراعات. كما أن الناس يكونون أكثر وحدةً وتقارباً في أوقات الحروب. فعلى الرغم من الظروف الصعبة التي يمر فيها الناس في أوقات الحروب، فإنهم يتمسكون بالحياة أكثر وأكثر، فتزول الخلافات وتتوحّد الأسر والمجموعات لمقاومة العدو، وتدفعهم غريزة البقاء إلى إنجاب الأطفال الذين يمثّلون النور، على رغم الظلام الذي يكسوهم [8] .
أمّا الحرب في فلسطين، فلها خصوصية تجعلها استثناءً، وذلك لأن القضية الفلسطينية تُعَدّ قضية وجود، فهي لا تُشبه أي حربٍ أُخرى في عالمنا الحديث. فالأوكراني مثلًا يتجنب الإنجاب خلال فترة الحرب طوال فترة وجوده في البلد إلى أن تستقر الأوضاع، أو عندما يوجد في مكان أكثر استقراراً.
أمّا الفلسطيني، فلا يمتلك هذا الخيار، أو حلاً قصير المدى إلا عند تركه البلد، وليس الجميع قادراً أو مقبلاً على هذا الخيار. وعليه، يُصرّ الفلسطينيون (ذكوراً وإناثاً)، وخصوصاً في قطاع غزة، على المقاومة بإنجاب كثير من الأطفال، من أجل "التعويض" من آلاف الشهداء الفلسطينيين، الذين ارتقوا خلال الحروب، وعشرات الشهداء الذين يسقطون بنيران قوات الاحتلال يومياً.
يتضح ذلك في تعداد السكان، الذي يظهر ارتفاع الكثافة السكانية في فلسطين بصورة عامة، وفي القطاع المُحاصر، على نحو خاصـ، إذ بلغ عد سكان غزة، مع نهاية عام 2021، نحو مليونين و500 ألف نسمة، وتبلغ مساحة القطاع 360 كيلومتراً مربعاً، وتُعَدّ الكثافة السكانية في القطاع من أعلى نِسَب الكثافة في العالم، إذ بلغت نحو 6000 نسمة/كم2. ويتوقع الدكتور رائد صالحة، أستاذ الجغرافيا البشرية والتخطيط في الجامعة الإسلامية في غزة، أن يصل عدد سكان القطاع عام 2038 إلى نحو 4 ملايين تقريباً.
وبحسب بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني، فإن الأطفال يُشكلون نسبة 49 % من إجمالي سكان غزة، ويبلغ عدد الأطفال، دون عمر 18، أكثر من 950 ألف نسمة، بينهم 300 ألف لا تزيد أعمارهم على 4 أعوام.
وسجلت دائرة الرعاية الأولية في وزارة الصحة الفلسطينية أن عام 2021 كان الأعلى في نسبة الولادات على مدار الأعوام العشرة الماضية، وخلاله، وبلغت نسبة الولادات نحو ربع مليون طفل تقريباً.
وفي هذا الشأن، يوضح صالحة، أن هجرة اليهود إلى الأراضي المحتلة أحدثت تغيرات هيكلية في سكان فلسطين. فبعد أن كان اليهود يشكلون قبل عام 1918 أقل من 8 % أصبحوا 88 % عام 1965، إلا أن الميزان الديمغرافي في الأعوام الأخيرة تغير لمصلحة الفلسطينيين، إذ أصبح الإسرائيليون يشكلون بعد عام 1948 نحو 54 % من السكان، في مقابل 46 % للفلسطينيين. وعلى الرغم من استمرار تدفق هجرة اليهود إلى فلسطين، فإن نسبة الفلسطينيين بلغت نحو 50% في عام 2022.
وأكد صالحة أن التفوق الديمغرافي للفلسطينيين يُقلق المنظومة الإسرائيلية، ويُعَدّ لب الصراع مع الاحتلال، بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالثقافة الإنجابية الفلسطينية العربية، والتي تحافظ على معدل عالٍ من الإنجاب، في مقابل الثقافة الإنجابية اليهودية الغربية، التي تتسم بمعدل إنجاب منخفض.
بناءً عليه، فإن الميزان الديمغرافي مستقبلاً سيكون لمصلح الفلسطينيين، وهذا يعزز الوجود العربي الفلسطيني وصموده، ونجاحه في الإبقاء على الهُوية العربية الفلسطينية. وعلى رغم التحديات والصعوبات التي تواجه الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة والقطاع، فإن الزيادة السكانية الفلسطينية ستجعل الجميع يخضع للأمر الواقع.
هكذا، تحاول الأُمهات الغزيات دائماً التخفيف من مصابهن عند استشهاد أبنائهن، بالحديث عن قدرتهن النفسية والجسدية على إنجاب مزيد من الأطفال، في سبيل تعزيز الوجود واستكمال الرسالة التي وجدوا من أجلها على هذه الأرض.
في الفيديو أدناه، تقول هذه السيدة الغزية، التي يبدو أنها فقدت أحد أبنائها خلال العدوان على القطاع، إن "كل ولادنا للخلفة، والله إلا نخلي أمة محمد يزيدوا بدل النفر ألف".
الأُمومة هي اليقظة
ككل الأمهات، تخشى الأم الفلسطينية على أطفالها. تحوم فوقهم، تأكل عواطفها، مثل أي أم، لكن أيضاً مثل الأم الفلسطينية فقط. كل ما تشاهده يؤثر فيها: يد الطفل التي ترسل إليها العد، والأصوات الصامتة التي ترفع مستوى الصوت، والقلوب الجائعة التي تفتح فمها. الملموس والمجازي يتداخلان، أحدهما مع الآخر، في خدمة نقل حقيقة حزنها الفلسطيني مباشرة.
في "أعاني من رهاب يسمى الأمل"، وهو نص شعري للفلسطينية المقدسية مايا أبو الحيات، نرى الطريقة التي تسير بها الرعاية والعنف جنباً إلى جنب، وكيف أن الأمومة في السياق الفلسطيني هي اليقظة.
"في كل مرة أسمع هذه الكلمة
أتذكر خيبات الأمل
التي ارتكبت باسمها:
الأطفال الذين لا يعودون،
الأمراض التي لا يتم علاجها أبداً،
الذاكرة التي لا تشيخ،
كل ذلك الأمل سُحق
تحت جناحيها وأنا أحطم
هذه البعوضة على رأس ابنتي".