فخّ لاصطياد القارئ.. كيف يختار الكتّاب عناوين كتبهم؟

هل العنوان فخُّ لاصطياد القارئ، أم أنه استراتيجية كبرى؟ كيف اختار المؤلفون القدماء عناوين كتبهم؟ وما الفارق بينهم وبين كتّاب اليوم؟

هل عنوان الكتاب بالضرورة بوصلة لمحتواه؟ سيشطح مؤلفون كثر بعيداً عن الفهرس الداخلي للمتن، فكتاب مثل "الحيوان" للجاحظ يتجاوز مسألة التشريح وطبائع الحيوان، إلى قضايا أدبية وبلاغية وتاريخية. أما كتابه "البيان والتبيّن" فسيُعرف باسم "البيان والتبيين"، وسيلتصق هذا الخطأ المطبعي بعنوان الكتاب إلى اليوم.

من جهته، سيختار نديم الجاحظ، محمد بن المرزبان، عنواناً مثيراً لأحد كتبه التي تنطوي على نقد لاذع لشخصيات من عصره، وهو" فضل الكلاب على كثير من لبس الثياب"، وعنوان ساخر آخر هو "من توفي عنها زوجها فأظهرت الغموم وباحت بالمكتوم".

ونظراً إلى طول عنوان كتاب ابن خلدون" العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، سيُعرف لاحقاً بعنوان مختزل هو "مقدمة ابن خلدون".

وسنتداول عنوان إحدى أقدم الروايات العربية بنوع من الطرافة، وهو "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، الرواية التي نُشرت في باريس عام 1855، من دون أن نتبيّن معنى "الفارياق"، لولا أن المؤلف وضع هامشاً يشرح فيه معنى الكلمة التي نحتها كما يقول من المقطع الأول من اسمه "فارس"، والمقطع الأخير من اسم عائلته "الشدياق".

وكان المؤلفون القدامى يُلحقون عناوين كتبهم بألقابهم التي تنطوي على تواضع نفتقده في كُتّاب اليوم، من طراز" العبد الفقير، المعترف بالعجز والتقصير، الملتجئ إلى جناب ربه السامع للنجوى، المنكسر خاطره لقلة العمل والتقوى".

وستهتمُّ النظريات النقدية الحديثة بأهمية العنوان وعدّه هوية للنص وعتبة قرائية للمحتوى ومنطقة إغراء للمتلقي. لكن الوقائع تنسف مثل هذه العلاقة في عناوين كثيرة لا تشتبك مع النصّ مباشرة. وبالتالي، ليس بالضرورة أن يكون "المكتوب يُقرأ من عنوانه" أو تواشج الظاهر مع الباطن. هكذا تقاطر آلاف القرّاء العرب لاقتناء رواية أليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" بإغراء القواعد السخية للعشق، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن هذه القواعد تخص العشق الإلهي وليس العشق الحسّي!

في المقلب الآخر، سنتساءل بجديّة: هل العنوان فخُّ لاصطياد القارئ الضال، أم أنه استراتيجية كبرى، وهويّة أنطولوجية للنصّ، بقصد العبور إلى الجوهر؟ ما بين توريط المتلقّي بعنوانٍ مخادع، وحيرة الكاتب في اختيار عنوان كتابه على نحو يتواءم مع تصوراته النهائية لنصّه، تتفاوت الآراء، أو كما يقول سليم بركات "كلّنا يقلّب جملةً من مفاتيحه على باب النصّ".

يتعانق العنوان مع المحتوى إذاً، بصفته علامة مركزية في الإرسال والتلقي، بحسب نظريات البنيويين، لكننا سنتفق موقتاً، على أن الكتاب يُقرأ من عنوانه، بصرف النظر عن وعورة تضاريس بعض العناوين أو ابتعادها عن المتن السردي أو الجمالي للنصّ. في هذا المقام يتفوّق الشعراء على الروائيين في "صناعة" العنوان، وهو ما جعل الرواية في بعض نماذجها المتأخرة تتكئ على الشعر في اختيار عناوينها بقصد ترميم المسافة مع القارئ المحتمل. فالعنوان، في نهاية المطاف، "يعلو النص ويمنحه النور اللازم لتتبّعه"، وفقاً لما يقوله عبد الفتاح كيليطو.

هكذا تحوّلت شخصية "هاملت"، في مسرحية شكسبير، التي تحمل العنوان نفسه، إلى علامة تشير إلى الكائن المثقل بالقلق والتردّد والارتياب، و"دون كيشوت" لسرفانتس إلى رمز للشخص المجنون الذي يحارب طواحين الهواء، و"آنا كارنينا" لتولستوي إلى صورة طبق الأصل عن الأنثى الحائرة بين العقل والعاطفة والروح والغريزة، وشخصية "أحمد عبد الجواد/سي السيّد" في ثلاثية نجيب محفوظ، إلى نسخة شعبية عن الرجل الشرقي المستبد. وإذا بنا حيال شخصيات وعناوين خرجت من أغلفة الكتب وبطونها إلى الفضاء العام. 

لكن، ماذا بخصوص كُتّاب اليوم وكيفية الاشتغال على "توطين" عناوين كتبهم في قيد النفوس الأدبي، بصفتها أختاماً نهائية وتواقيع معتمدة، عبر اقتحام مطابخهم السريّة بأسئلة تتعلّق بهذا الجانب الخفي من مخاضات الكتابة ومكابدات أصحابها في كيفية عثورهم على عناوين كتبهم. وهل كتبوا نصوصهم، ثم بزغت عناوينها لاحقاً، أم أن العنوان كان حاضراً منذ السطر الأول؟ وهل خضعت بعض العناوين لتعديلات لاحقة على المسودة الأولى؟ بمعنى متى كانت لحظة الطمأنينة إلى أن هذا العنوان أو ذاك هو من سيزيّن كتبهم في نسختها النهائية؟

ثمّ ماذا لو أبقى أمبرتو إيكو العنوان الأولي الذي اختاره لروايته، "اسم الوردة"؟ بالتأكيد سيذهب النص إلى منحى آخر في التلقي، وخصوصاً إذا علمنا بأن الاسم، الذي كان اختاره هو "دير الجريمة". نحن أمام رواية بوليسية إذاً. لكن فضاءات الرواية أبعد من هذا التخيّل، وهو ما حدا بصاحب الرواية إلى أن ينحّي هذا العنوان جانباً لأنه "سيقود بعض القراء المعدمين إلى التهافت على كتاب قد يخيّب آمالهم". هكذا استقر على عنوان مراوغ هو" اسم الوردة"، بناءً على مقطع شعري أورده في سياق الرواية لراهب عاش في القرن الــ 14.  

يقول الروائي التونسي، الحبيب السالمي، إنه "لم يكن أي واحدٍ من عناوين رواياتي حاضراً منذ السطر الأول. كلها بدأت تظهر لي بعد أن كتبت فصولاً عديدة، أي بعد أن أخذت الملامح الأساسية للعمل تتشكل والمناخات تتوضح وتستقر، فأنا لست من الكتّاب الذين يخططون للعمل مسبقاً. لدي بالطبع فكرة دقيقة عما أريد أن أقول. لكن الطريقة التي ينبني بها العمل والإيقاع الذي سيتخذه يبرزان أثناء عملية الكتابة، لذا لا يمكنني أن أضع عناوين منذ البداية. وفيما بعد تظل هذه العناوين خاضعة للتغيير. كما أنني لا اختار الصيغ النهائية إلا عندما يكتمل العمل. وعادة أتوقّف عن إجراء التعديلات قبل إرسال العمل إلى دار النشر. وقد حدث أن اتصلت بدار النشر بعد إرسال المخطوط طالباً تغيير العنوان الذي كنت اخترته قبلاً. ومن بين العناوين التي أرّقتني ووجدت عناءً في العثور عليها "روائح ماري كلير" و"نساء البساتين"".

أما الروائية الفلسطينية، ليانا بدر، فتبادر إلى القول إنه "قد يخطر في بالي العنوان الذي أظنه كافياً لتفسير المكنون الخفي للرواية، ويظل هذا العنوان يلحّ عليّ حتى أعتمده كعنوان أساسي، إلا أن تطورات الرواية فيما بعد تبعده كلياً وتغّير من اتجاهه وفحواه وطريقة استخدامه. لا أذكر يوماً أن ما خطر لي كعنوان ملائم استطعت اعتماده كعنوان نهائي بعد أن تنتهي الرواية التي تشبه بحراً يموج بحركات لانهائية، ودلالات واضحة أو ملتبسة عبر أوقات زمنية متواصلة أو متقطعة. عنوان الرواية الوحيد «نجوم أريحا» هو الذي ظل على حاله منذ كتبت الفصل الأول فيها بهذا العنوان والذي صار الفصل الأخير بعد اكتمالها. ففي تلك الرواية التي تجعل المدينة في مكان البطولة والتي لعب فيها سكانها دور الأنغام التي ترافق السيمفونية، كان الاتجاه واضحاً منذ الكلمة الأولى. كان على المكان أن يبني نفسه وأن يفرض شخصيته وطالعه وأوقاته وتغيّراته وحكاياته وتواريخه. وهكذا كان، فقد ظل العنوان هو ذاته. بينما في روايتي الأخيرة «الخيمة البيضاء» كان العنوان مشابهاً بطريقة أو أخرى، لكنني أحببت أن أكثفّه وأن أخفف من تضاريسه، وأن أجعله مختصراً لأن محمولاته الرمزية مكثّفة".

من جهته، يقول الروائي الجزائري، أمين الزاوي، إنه "شخصياً أعتقد أن العنوان يؤدي دوراً كبيراً في إثارة القارئ وجلب انتباهه إلى شيء يريد الروائي نفسه أن يشاركه في الوقوف عليه والتمتع به أو التأمل فيه".

وأضاف أن "الدراسات الجامعية النقدية، المرتبطة بـــ"ماركيتينغ" الكتاب، تقوم اليوم بتفكيك العناوين، وخصوصاً عناوين الرواية، للوصول إلى الذوق الطاغي في مرحلة زمنية معينة، لقارئ معيّن بمواصفات معيّنة. وبالتالي، فهناك مجموعة من الأطروحات الجامعية في أوروبا وأميركا تلاحق سوق الكتاب والاستثمار في الكتاب، انطلاقاً من العناوين". 

ويوضح أنه "في رواياتي، سواء تلك التي كتبتها بالعربية أو بالفرنسية، لا تتباين حكاياتي مع العناوين، وبالتالي فاللغة لا تدخل في تحديد العنوان". قد يلاحقك عنوان ما منذ بداية كتابة الرواية، ويظل حتى تخرج الرواية إلى القارئ، فهو يشبه الرحم التي منها تصعد أنفاس هذا الكائن إلى الوجود، هنا تكون فكرة العنوان مرتبطة عضوياً بهاجس مركزي في الرواية، وقد يكون العنوان هو مفتاح للدفق السردي، لكنه يختفي شيئاً فشيئاً بتقدم السرد في اتجاهات مغايرة، وبالتالي يفقد ألقه في منتصف الكتابة أو قبل نهايتها، وتبدأ عناوين أخرى تظهر لتكون بديلاً من رحم العنوان. حدث هذا معي مثلاً في رواية "الرعشة" و رواية "لها سر النحلة" و"وليمة الأكاذيب"".