غياب الرياضيات عن جوائز نوبل: الحقيقة والأساطير

لماذا لا توجد "نوبل" للرياضيات؟ وهل يرتبط الأمر بحادثة خيانة عاطفية؟

مع توزيع جوائز نوبل كل عام في الميادين المختلفة، تتكثف النقاشات حول الأسماء المرشحة لنيل الجوائز، وأحقية كل منها، والخيارات والبدائل لكل اسم، والبحث في أعماله وإنجازاته، والشوائب التي يمكن أخذها في سياق تقرير الاستحقاق من عدمه. لكن سؤالاً آخر يعود إلى الذهن عند كل بحث في هذه الجوائز والحقول التي تغطيها: لماذا لا توجد "نوبل" للرياضيات؟

الإجابة المباشرة قصيرة ومختصرة بأن ألفرد نوبل لم يذكر الرياضيات في وصيته عام 1895؛ وبالتالي فالمؤسسة المانحة ملزمة حرفياً بالحقول التي حددها: الفيزياء، الكيمياء، الطب/الفيزيولوجيا، الأدب، والسلام، ثم أضيفت لاحقاً "جائزة بنك السويد في الاقتصاد" تذكارياً، وهي من خارج الوصية الأصلية.

لكن وراء هذه الإجابة القانونية تاريخ من الأساطير والتأويلات، وسياق ثقافي أطول يشرح كيف ملأ المجتمع العلمي "الفراغ الرياضي" بجوائز أخرى كحقل قائم بذاته.

ما تقوله الوصية… وما لا تقوله

  • ماجنوس غوستا ميتاغ - ليفلر
    ماجنوس غوستا ميتاغ - ليفلر

الصفحة الرسمية لمؤسسة نوبل تجيب عن هذا السؤال نفسه أيضاً، بأن المؤسسة لا تملك التوسع في صلاحية إضافة حقول من خارج وصية ألفرد نوبل (1833 - 1896)، فيما الاستثناء الوحيد هو ذلك الذي استحدث عام 1968 بمبادرة من المصرف المركزي السويدي، والذي يمنح الجائزة في ميدان العلوم الاقتصادية، لكن وفق قواعد نوبل نفسها. ما يعني عدم استبعاد الجائزة من منطلق الرفض، إنما من مبدأ "التقيد الحرفي بالوصية الأصلية".

لكن على الرغم من ذلك، انتشرت عبر القرن العشرين رواية شعبية تزعم أن "نوبل" استبعد الرياضيات لغيرة من رياضي سويدي بارز هو ماجنوس غوستا ميتاغ - ليفلر، أو لحادثة خيانة عاطفية نسبت خطأ إلى زوجة نوبل. وهي الرواية التي لم تصمد طويلاً أمام أبسط تدقيق تاريخي، فنوبل لم يتزوج أصلاً.

وقد قام موقع "Snopes" بالتحقق من الادعاء مبكراً وصنفه "خاطئاً"، فيما تعيد مقالات تفسيرية حديثة تفنيد الأسطورة، لتؤكد غياب أي دليل موثق يربط قرار نوبل بحياة شخصية أو خصومة مع رياضيين.

أما التفسير الأقرب تاريخياً فهو أن الرياضيات في نظر نوبل الصناعي العملي، لم تصنّف آنذاك كعلم "تطبيقي مباشر النفع للبشرية" على غرار الطب والفيزياء، فضلاً عن وجود جوائز اسكندنافية مرموقة للرياضيات في زمنه، ما قلل حافزه لإضافة مجال منفصل في الوصية الشهيرة. حسناً، هذا يطرح سؤالاً جديداً: لماذا لم تضف الرياضيات لاحقاً؟

ترتبط شرعية هذا السؤال بوجود سابقة تمثلت بإضافة ميدان العلوم الاقتصادية إلى جوائز نوبل عام 1968.

وعن ذلك يرد القائمون على مؤسسة نوبل بأن جائزة الاقتصاد التي أعلنها بنك السويد، كانت مبادرة تمويلية خارجية لمناسبة مئوية البنك، وبقيت حالة خاصة لا تتكرر. 

عملياً، يقتضي توسيع الحقول التي تشملها الجائزة قراراً سياسيا ً– مؤسسياً سويدياً لم تتوفر ظروفه سابقاً، ويبقى غير مرجح اليوم، خصوصاً مع ترسخ منظومة جوائز رياضية مرجعية عالمياً.

من ميدالية "فيلدز"إلى  جائزة "أبيل"

  • ألفرد نوبل (1833 - 1896)
    ألفرد نوبل (1833 - 1896)

لم يبخل عالم الرياضيات على علمائه بالجوائز، وهو لم يترك فراغاً تكريمياً واحتفالياً بهم وبإنجازاتهم، خصوصاً مع تبلور الرياضيات كأحد العلوم البارزة في اشتراكها مع العلوم الأخرى، وموقعها الحيوي من النظريات التي يتم تطويرها في تلك العلوم، خصوصاً في العقود الاخيرة. الرياضيات اليوم تشكل ميداناً حيوياً للتقدم العلمي برمته، بصرف النظر عن ميادينه التخصصية. ويمكن في هذا السياق استرجاع جوائز عديدة ملأت فراغ غياب نوبل للرياضيات.

شرعت الجماعة الرياضية منذ ثلاثينيات القرن العشرين في بناء رمزيتها الخاصة. فميدالية "فيلدز" تمنح كل 4 سنوات أثناء "المؤتمر الدولي للرياضيات"، وتخصص عادة لعلماء تحت سن الأربعين تقديراً لإنجاز رائد وإمكانات مستقبلية، ولهذا توصف مجازاً بـ"نوبل الرياضيات"، مع اختلاف جوهري من حيث العمر والدورية والقيمة المالية. فهي أقرب إلى أن توصف بجائزة الذروة المبكرة، بدلاً من أن تكون تتويجاً لا لدورة حياة علمية.

أما في العام 2002 فقد أسست النروج "جائزة أبيل" السنوية لتكون مكافأة رفيعة لمن بلغت أعمالهم النضج الكامل، بلا قيود عمرية، وبقيمة مالية وهيبة مؤسسية تقاربان روح نوبل من حيث "التتويج على مجمل الأثر". اليوم تعد "أبيل" (إلى جانب فيلدز) عماد المعمار الرمزي لجوائز الرياضيات الحديثة. وقد نوه رياضيون كبار (مثل جون ميلنور) إلى كون "أبيل" مكملة لــ "فيلدز". الأولى عن مدى الحياة، والثانية للشباب.

بهذا المعنى، لم يترك غياب نوبل فراغاً كاملاً في حقل الرياضيات؛ بل دفع الحقل إلى ابتكار منظومته الخاصة التي تعكس تاريخه الذاتي، وتقديره للطاقات المبكرة، وللمسيرات الكاملة وللنضج العلمي.

خلفيات ثقافية: ماذا كان يفكر نوبل؟

  • القصة أقل درامية مما تشيع الحكايات، فلا خيانة زوجية، ولا خصومة مع رياضي بعينه
    القصة أقل درامية مما تشيع الحكايات، فلا خيانة زوجية، ولا خصومة مع رياضي بعينه

لا نملك وثيقة يشرح فيها نوبل أسباب اختيار الحقول واستبعاد غيرها، سوى نص الوصية. لكننا نعرف من مصادر مؤسسة نوبل أن الفيزياء كانت الأولى في ذهنه، بحكم زمنه واشتغاله الصناعي، وأنه تصور الجوائز مكافأة لما "ينفع البشرية مباشرة". وفي سياق أواخر القرن الــ 19، حيث تشكلت الحدود بين العلوم التطبيقية والأساسية على نحو مغاير لما نراه اليوم، قد يبدو اختياره أقل غرابة مما يبدو عليه الآن، أو يجوز تخيله.

ويشير مؤرخو الرياضيات إلى أن اسكندنافيا كانت تحتضن بالفعل جوائز وريادة رياضية (مثل رعاية الملك أوسكار الثاني لمسابقات رياضية رفيعة)، ما يعزز الأطروحة البسيطة التي تقول إن الفكرة لم تخطر له، لا أكثر من ذلك. يقترح دليل جامعة واترلو هذا التفسير العملي، وهو يلقى صدى لدى مؤرخين تابعوا مراسلات نوبل ودوائره.

وثمة زاوية مهمة يتجاهلها النقاش العام، وقد أشرنا آنفاً بشيء من العمومية إليها، وهي أن الرياضيات تسكن مضامين جوائز نوبل القائمة. فكثير من إنجازات الفيزياء والكيمياء والطب الحديثة قائمة على نمذجة رياضية عميقة، من ميكانيك الكمّ إلى الإحصاء الحيوي وتعلم الآلة. 

لذا يكرم عمل رياضي بوصفه جزءاً من اكتشاف طبيعي أو طبي عبر جوائز نوبل الأخرى؛ أي أن غياب فئة مستقلة لا يعني غياب الأثر الرياضي داخل منظومة نوبل الأوسع (ويكفي النظر إلى قوائم الجوائز الحديثة لفهم مدى تخلل الرياضيات في علوم الطبيعة والطب).

القصة، إذاً، أقل درامية مما تشيع الحكايات. فلا خيانة زوجية، ولا خصومة مع رياضي بعينه، بل نص وصية ضيق، وذهنية صناعية – عملية في أواخر القرن الــ 19، وجغرافيا جوائز كانت تكافئ الرياضيات ضمن فضائها الاسكندنافي الخاص. ومن ثم جاء رد فعل المجتمع الرياضي خلاقاً من خلال تأسيس ميدالية "فيلدز" لتتويج العبقرية الشابة، وجائزة "أبيل" لتتويج المسيرة؛ وهي منظومة مزدوجة حملت عملياً عبء غياب "نوبل الرياضيات"، وإن على طريقتها الخاصة.

وهذا يقود إلى استنتاج أن الرياضيات لم تستبعد من ميادين نوبل بنزعة عدائية؛ إنما لم يدرجها أصلاً، وظلت بنية الجوائز أسيرة الوصية. وقد طور علم الرياضيات منظومته الرمزية المتينة عبر "فيلدز" و"أبيل"، بحيث لم يعد السؤال الأساسي الذي انطلقنا منه معبّراً عن نقص في الاعتراف العلمي.

اخترنا لك