زيارة جورج شكور.. مبدعُ ملحمات أهل البيت الثلاث

لطالما كان الشاعر اللبناني المسيحي جورج شكور، وما زال، من العاشقين للإمام الحسين وأهل البيت (ع) الذين أقف أمام حبّهم إجلالاً وانبهاراً.

  • من زيارة سابقة لكاتب المقال إلى منزل الشاعر جورج شكور
    من زيارة سابقة لكاتب المقال إلى منزل الشاعر جورج شكور

في هذه الأيام التي نستذكر فيها واقعة كربلاء مع الإمام الحسين (ع)، أستحضر في خاطري وفاءً أسماء كل الذين تجرعوا حبّ الحسين من إخواننا المسيحيين، شعراء وأدباء وقاماتٍ في الأدب والثقافة، فهؤلاء مثلنا أصحاب عزاء. كيف لا وقد نظموا الملاحم في حقّ أهل بيت النبي محمد (ص)، وأودعوا ذاكرة التاريخ رزمةً من قصائد، كانت بمنزلة هويّةٍ لهم، هويةٍ أبعد من حدود الدين والمذهب.. حتى قالوها بشفافيةٍ وصدق: حسينٌ لكل العالم.. فيا ليتنا كنّا معكم!

لطالما كان جورج شكور، وما زال، من هؤلاء العاشقين الذين أقف أمام حبّهم إجلالاً وانبهاراً.

يوافق في الأول من أيار عيد العمّال العالمي. وفي هذا اليوم، انتهزتُ هدوء الشوارع والأزقّة في المدينة التي يتعطّل العمل فيها بهذه المناسبة، احتفالاً بسواعد العمّال. قمتُ بزيارةٍ هي بمنزلة تسجيلٍ للتاريخ الشفهي لأحد أبرز أدباء لبنان وشعرائها المعاصرين، المعلّم المسيحيّ التسعينيّ، العاشق لأهل البيت وللإمام الحسين، جورج شكّور. غادرت بيروت إلى مسقط رأسه في قرية "شيخان" الجميلة في منطقة جبيل.

جورج شكور الذي أجلسَتهُ كهولة السنّ على فراش المرض، انتقلَ من المستشفى إلى المنزل قبل يومٍ واحد من زيارتي، وأبقته عائلته في الحجر الصحيّ الكامل، وبعنايةٍ فائقةٍ، بحيث لا يُسمح حتى لأيّ شخصٍ بزيارته.

زوجته وأولاده والمقرّبون يحيطون بالمعلّم كالجوهرة، ويدورون حول شمعة وجوده، مثل الفراشات وقد بدت خطوط الحزنِ في ملامحهم.

على الرغم من هذا الجوّ، رحّبوا بزيارتي بوجوهٍ منشرحةٍ، ودعَوني للجلوس واحتساء فنجان من القهوة وأحسنوا ضيافتي.

وبموجب التنسيق والموافقة المسبقة، تقرّر أن أحاورَ "هالة" ابنته المثقفة، أستاذة اللغة العربية والإنكليزية والفرنسية وآدابها، ودوللي حبيب، زوجته وشريكة حياته، لترويا لي الأسباب والدوافع التي جذبت قلبَ جورج إلى حبّ النبي (ص) وأهل بيته.

ولكن قبل البدء بالحوار، طلبت منهما الإذن لعيادة قامة الشعر والأدب الحكيم في حُجرته، لأقدّم له احترامي وسلامي. تقبلُ السيّدتانِ بكلّ احترامٍ، مع رجاءٍ بعدم التقاط الصور.

السيدة دوللي التي عاشت معه حياةً هادئةً وناجحةً لمدّة 60 عاماً تتوجّه إلى زوجها المريض بأجمل كلمات الحبّ والشغف، وكأنها تعيش معه العام الأول من حياتهما الزوجيّة، وتحاول بجهدٍ كبيرٍ تقديم ضيفه وتذكيره بلقائي معه قبل عامين.

بالكاد يبدي هذا الرجل الكبير تفاعله معنا، ويفتح عينيه الضعيفتين لبضع ثوانٍ، ثمّ يهمسُ لنا بعبارةٍ بالكاد نستشعر منها مفهوم "مرحبا".

مشهدٌ حزين. أستحضرُ قراءته الشعريّة حين استقبلني في يوم الأربعين عام 2022، كيف راح يلقي عليّ قصائده الحسينيّة بمحبّةٍ، فيعلو صوته تارةً كلّما أخذته الحماسة، ويلينُ تارةً كلّما حنّ لمولاه، فجعل يعبّر عن إخلاصه له من أعماق وجوده.

في ذلك اليوم، كانت حلاوة رائعته "ملحمة الحسين" وغزارة أبياته وحماسة إلقائه كفيلةً بإحداث ثورةٍ في داخلنا:

علی الضَّمیرِ دَمٌ کالنَّار مَوَّارُ

إنْ یُذْبَحِ الحَقُّ، فالذُبَّاحُ کُفَّارُ

دَمُ "الحُسینِ" سَخِيٌ في شَهادتِه

ما ضَاعَ هَدْراً، به للهدی أنوارُ

وللشَّهادة طَعمٌ لم یَذُقْهُ سِوَی

الشُّمِّ الأُلَی أقْسَمُوا، إنْ یُظلَمُوا ثارُوا…

أتذكّر ذلك اليوم حين ألقى فيه هذا الأديب الفذّ شعره بحماسةٍ ملحميّةٍ لا توصف وبصوتٍ جهوريٍّ مثل خطيبٍ حسينيٍّ مخلصٍ، كما لو أنّ مئات الأشخاص حضروا معنا وشاركوا في مجلس رثائه الحسينيّ، للاستماع إلى قراءته الموزونة العاشقة. 

وفي النهاية، التفت إليّ قائلاً: "يجب أن يكون ديوان الحسين هذا في بيت كلّ إيراني".

أشارككم تسجيلاتي مع ابنة هذا الشاعر الحسينيّ الكبير وزوجته؛ حدّثتني عن عليّ، الرجل الاستثنائيّ، الذي كان إلى جانب تميّزه رجلاً في منتهى البلاغة في الأدب العربي! عن ذلك الزمن، حين كان جورج تلميذاً وجذبَ قلبَه كتاب "نهج البلاغة". قالت لي: "أبي كان وما يزال يحبّ عليّاً بشدّة.. عليٌّ الشهيد هو من عظماء التاريخ وأحد عجائبه".

وحدّثتني عن تأثير لغة نهج البلاغة الأدبية الفاخرة في المعلّم خلال مرحلة المراهقة، وكيفيّة انجذابه إلى عليّ (ع) وأهل بيت النبوّة (ص)؛ الأمر الذي يقرّ به ويؤكّده معظم المسيحيّين الولائيين الذين عرفتهم وأعرفهم.

وروَت لي عن عشق أبيها اللامتناهي للإمام الحسين (ع)، قائلةً: "كان يقول في شبابه لو أنه عاش في زمن الإمام الحسين (ع)، لا شكّ في أنه كان سيسارع لنصرته، وكان سيستشهد معه في صحراء كربلاء، وبأنّ الاستشهاد مع الإمام الحسين لهو افتخارٌ عظيمٌ كان يتمنّى لو يناله، حتى اليوم وهو في هذا السنّ، ما زالت تلك أمنيته، وما زال عند كلامه". 

وحدّثتني الزوجة والابنة عن زيارات جورج إلى بلادنا ولقاءاته مع المثقّفين وكبار أهل الأدب والثقافة والحضارة في إيران، ثمّ سمعتُ الكثير عن عشق جورج لزوجته التي كانت تلميذته، وعن قصائده التي كتبها لها.. وكان كلّ حديثٍ يفتح لنا باباً للمزيد.. 

تأثّرتُ من سماع هذه الروايات وكل هذه الأقوال والقصائد، وذهلتُ لأنّ التطرّق إلى هذه الحكاية يتطلب وقتاً طويلاً ومكاناً مختلفاً، وبإذن الله تعالى سوف أفيها حقّها في الفرصة المناسبة.

وفي نهاية الرواية الشفهيّة، يصرّ عليّ ابن شقيقته، وهو ذو رتبةٍ عسكرية، بأن أرافقه إلى "المثوى الأبدي" لعائلة شكور، والذي لا يبعد سوى أمتارٍ قليلةٍ عن "منزله الدنيوي"، لرؤية الحجر الذي نقشت عليه رائعة جورج التي تزيّن مثواه المستقبليّ، وللاستمتاع بالشعر النبيل والعميق والفاخر كصاحبه.

  • الحجر الذي نقشت عليه قصيدة لجورج شكور في مثواه المستقبلي
    الحجر الذي نقشت عليه قصيدة لجورج شكور في مثواه المستقبلي

قبلتُ دعوته على الرغم من مسحة الحزن، ثمّ غادرتُ وأنا أتمتمُ أبيات القصيدة، مودّعاً الأسرة، سائلاً لهم دوام الصحة، مستحضراً مشاهد ذلك اليوم العجيبة في طريق عودتي. ومرّةً ​​أخرى متمتماً أبياته الساحرة على الرغم من الحزن:

کُن بِنا قَبْرَنا حَنوناً رؤوفاً

ما أشَدّ الظَلامَ تَحْتَ التُرابِ!

لَمْ تَسَعْنا الأقطارُ طولاً وعَرْضاً

کَیْفَ نحیا في ظُلْمَةٍ واكتئاب؟!

إنني خالِدٌ بِذِکري وشِعْري

وفِعالي وفي قُلوب صِحابي

هذهِ سُنةُ الحیاةِ مَماتٌ

ثُمّ بَعْثٌ في جَنةِ الأطْیابِ!