رواية "وداعاً.. يا ذكرين": نشيد أهل الأرض.. حين يقاومون!
رشاد أبو شاور كان وما زال هو لسان أهالي قرية (ذكرين)، وهو صوتهم، مثلما هو صوت الفلسطينيين عامة، وهو الكاميرا التي صوّرت أفعالهم، وهو الراوي لتاريخهم البطولي.
بلى، بات كتّاب السرد كثرة وأجيالاً ومذاهب أدبية، وبات المنتج السردي العربي وافراً في كل الجغرافيا العربية، وله خصوصية اجتماعية ذات موضوعات متشعبة، وله سمات فنية متعددة الصيغ والأشكال، وذلك لأسباب كثيرة، لعل في طالعها حضور الرواية كجنس أدبي شغف القراء به، فكثرت الأسئلة حوله، وتنادت دور النشر لطباعته، وأسست له جوائز أدبية في معظم البلاد العربية، وانهمّ به النقّاد، وسعت إليه بعض الفنون مثل السينما والمسرح والأدبيات التلفزيونية، وأقيمت لأجله دورات جادة لتعليم عشاق السرد كتابته أو قراءته أو نقده.
لهذا، فإنّ السرد الروائي، في هذه الآونة، يتصدّر الأجناس الأدبية الأخرى في الأهمية، والحضور، والقراءة، والانتشار، والتقريظ؛ ومع ذلك كله فإنّ الأسماء الأدبية المهمة في كل بلد عربي قليلة، وهذا أمر طبيعي، لأنّ من يحظى بالتمييز والشهرة هم الندرة، وهذان الأمران، التمييز والشهرة، يحتاجان إلى تعب من أولى صفاته عشق هذا الفن الأدبي ومساهرته أولاً، والإيمان المطلق بدوره لإبداء أهمية القيم وقول الحقيقة، ولو عبر المجاز والتمثيل، ومواجهة الظلم الذي إن وقع على الإنسان وقع على كل شيء فأهلكه إلا من عصم ربك.
واحد من هؤلاء الساردين المتميزين المشهورين هو "رشاد أبو شاور" الكاتب الفلسطيني (1942) الذي أوقف حياته كلها من أجل مقاومة الاستبداد والظلم بكل أشكالهما وصورهما منذ أن كان في أطواره الأولى للوعي بما حدث من خراب للدورة الدموية للحال العربية حين وقعت النكبة الفلسطينية عام 1948، فرجت القيم النبيلة وزلزلتها، لأنّ ما حدث من اغتصاب للوطن الفلسطيني وتشريد لأهله، واحتلال لأرضه، وتهويد للمكان، واعتداء على التاريخ والعمران والبشر.. كان حدثاً راعباً بكل وجوهه وصوره، وهو ليس حدثاً مقتصراً على المكان الفلسطيني والشعب الفلسطيني وحدهما، إنما هو حدث كوني أبدى بشاعة الظلم، وصلف المستعمرين البريطاني والإسرائيلي معاً، وقهر القيم وأزالها من مكاناتها، وشل أدوارها أيضاً.
رشاد أبو شاور روائي فلسطيني من قرية (ذكرين) الفلسطينية الواقعة إلى الغرب من مدينة الخليل الفلسطينية، وهي قرية صغيرة لم يتجاوز عدد سكانها عام النكبة 1948 ألف نسمة، ولكن فعلها المقاوم للمستوطنين الإسرائيليين كان كبيراً ومؤثراً لأن قرى فلسطينية كثيرة حذت حذو أهالي (ذكرين) في مقاومة العدو الإسرائيلي.
رشاد أبو شاور كان وما زال هو لسان أهالي قرية (ذكرين)، وهو صوتهم، مثلما هو صوت الفلسطينيين عامة، وهو الكاميرا التي صوّرت أفعالهم، وهو الراوي لتاريخهم البطولي، وهو الجغرافي الذي يعرف حدود القرية وأسيجتها، وهو السوسيولوجي الذي يتحدث عن ثقافة الناس، وعن روزنامة الحياة الزراعية التي يعملون وفق تواريخها، وهو الطفل الذي عاش سنواته الست الأولى من طفولته في قريته (ذكرين)، فحفظ الأمكنة والدروب والحقول والينابيع والأشجار، وأسيجة توت العليق، والبيادر، ومروج العشب، مثلما حفظ وخزّن في واعيته أنواع الطيور وألوانها وأشكالها وأحجامها، من طيور السنونو التي بنت أعشاشها الطينية في سقوف البيوت، إلى طيور الشوحة، والحمام، والهدهد، والزرازير، إلى طيور الدجاج والحبش والبط والإوز، وهو الطفل الذي اقتلع من البيت، ومن عالم البراءة والسلام ليرمى في الخنادق والمغر كلما هاجم المستوطنون الإسرائيليون القرية برصاصهم المخيف، وصراخهم المتعالي المنادي بالقتل والسحق والطرد والتهجير، وعى الطفل المفارقة ما بين ثنائيات الحياة والموت، والسلام والحرب، والخوف والطمأنينة، وزراعة الحقول من عدمها، والخروج بقطعان الماشية من عدمه، والخبر الذي يحمل الفرح والخبر الذي يحمل الحزن..
رشاد أبو شاور الكاتب هو ابن تلك السنوات الست من طفولته الأولى، لهذا عاش حياته كلها من أجل أن يمحو أسى تلك النكبة التي أخذت منه كل عزيز (أمه وأخته والبيت والأرض وهدأة البال)، فكان طالب العلم، والفدائي، والسياسي، والذات الفلسطينية الصلبة التي لا تعرف طريقاً لمحو النكبة وأحزانها وويلاتها سوى المقاومة.
رشاد أبو شاور كتب روايته الجديدة (وداعاً .. يا ذكرين) الصادرة عن منشورات وزارة الثقافة السورية، ليسرد علينا تاريخ القرية، ويصور حياة أهلها أيام الرغد والسلام، وليحدثنا عن الرجفة الاجتماعية التي أصابت القرية حين وقعت النكبة عام 1948، وهبة أهل القرية العظمى من أجل الدفاع عن الناس، والمكان، والتاريخ، والعمران، والمستقبل. يكتب عن النساء الفلسطينيات في قريته (ذكرين) اللواتي تخلين عن قطع الذهب التي يمتلكنها كي يشتري الآباء والإخوة والأزواج والأبناء البنادق والرصاص من سوريا، والأردن، ومصر، والعراق، ولبنان كي يدافعوا عن أعز ما يعرّف بهم، أعني الأرض والتاريخ والعقيدة.
رشاد أبو شاور يكتب في روايته (وداعاً .. يا ذكرين) عن الخلايا الفدائية الأولى التي أسسها مزارعو القرية، ورعيان قطعان الماشية، والطلاب الدارسون في الخليل والقدس، وأساتذة المدرسة الابتدائية في قرية (ذكرين)، يكتب عن بطولاتهم وهم يواجهون الاستيطان الإسرائيلي داخل المستوطنات، مثلما يكتب عن الشهداء الذين زفهم أهالي القرية ليصيروا زينة المقبرة في علوتها المشرفة على البيوت والحقول والدروب.
يكتب رشاد أبو شاور عن حواكير البيوت التي غدت بديلاً من الحقول الواسعة التي لم تزرع بسبب الحرب والمواجهات، مثلما يكتب عن دور النساء اللواتي مضين إلى الخنادق، والحواكير، والصخور، وسناسل الحجارة، كيما يزودن المقاتلين بالطعام والماء والذخائر، ويكتب عن البيوت والأطفال الصغار الذين يملؤون باحاتها شأنهم في ذلك شأن طيور الدجاج والبط والإوز والحبش، مثلما يكتب عن مجنون القرية الذي راح يقلد المقاتلين، وهو يواجه بعصاه المشدودة إلى صدره المستوطنين الإسرائيليين، ويصرخ بهم لتخويفهم.
(وداعاً يا ذكرين) رواية الريف الفلسطيني الذي هب للدفاع عن الأرض، والبيت، والتاريخ، والتقاليد، والأعراف، والعقائد، كيما تبقى القيم النبيلة وتستدام. إنها الرواية التي تجسد فطرة الإنسان الكاره للظلم، والمدافع عن النبل بكل صوره وأشكاله، وعن تاريخ الأجداد ومروياتهم، وعن المكان الذي غدا كتاباً له قدسيته المكتوبة بالتعب الجميل، وعن الوعي الوطني المتوارث في الحكاية والأخبار والوقائع بأنّ الإسرائيلي معتد، وغاصب، ومحتل، ووحش كريه حين يغدو السلاح ملك يديه.
رواية (وداعاً.. يا ذكرين) حلقة من حلقات السرد الذهبي الذي كتبه رشاد أبو شاور، بعد روايته الكبيرة (العشاق) التي خصها بمخيم (عقبة جبر) في مدينة أريحا، وبالفدائيين، وبكتابهم الذي يأخذونه غمراً بالذراعين، أعني كتاب المقاومة، إنها رواية تؤطر بأسطرها حيوية المجتمع الريفي الفلسطيني ونفرته الوطنية وهو يدافع عن الأرض المقدسة، وعن أفعال الأجداد القامات، وعن المستقبل الجميل الآتي.. لا ريب!