"وجع لا بدّ منه": كيف يدخل الغزّي في الوطن؟

اختير عبد الله التايه ليكون شخصية العام الثقافية لعام 2022، بعد مسيرة أدبية تكللت بخمسة وعشرين كتاباً بين دراسة وسبع مجموعات قصصية وسبع روايات كانت السابعة هي "وجع لا بد منه" التي تجوّلنا في رحابها.

  •  رواية
    رواية "وجع لا بدّ منه" لـ عبد الله تايه 

من توليفة الأصوات المتعددة للنغم الموسيقي والتي تشتبك مع بعضها باتساق آسر،  استعارت مدوّنة السرد هذا الأسلوب وأدرجته كتقنية فنية سردية في ما دُعي بـ"الرواية البوليفونية"، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الرواية المتعددة الأصوات" والتي عرّفها ميخائيل باختين بأنّها "الرواية المتعددة الأصوات ذات الطابع الحواري على نطاق واسع"، الأسلوب الذي اتكأ عليه الفلسطيني عبد الله أبو تايه في روايته "وجع لا بدّ منه" الصادرة عن دار "الكلمة" لعام 2022، والتي أدرجت مؤخراً ضمن القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني لعام 2024. هي رواية جمعت في أعطافها مكابدات مجموعة من البشر الراجعين إلى غزة،  حيث اجتمع شتات مسافرين قادمين من مناطق مختلفة عبر مصر ومتوجهين إلى غزة، أربعة رجال وثلاث سيدات اجتمعوا في هذه الرحلة ولكل حكايته المرة وتاريخ اغترابه، وكل شخصية تتحدث عن وجعها بشكل مستقل وعبر صوت المتكلم تروي حكايتها بلسانها عن همومها ومتاعبها ومعاناتها، ومن خلال ذلك تستعرض دوافعها لمغادرة البلاد وحنينها الجارح الذي قادها للعودة إليها في آخر المطاف.    

يقوم السائق حمودة بتجميع ركابه من أماكن شتى، بعضهم من المطار وآخرون من الفنادق أو من أماكن سكنهم، يضيء فيها على جانب مهم من معاناة الغزاويين الذين تشبثوا بأرضهم، ويعرض حالة اضطرارهم للسفر المؤقت وتعب الرجوع وكيف تتشابك أفكارهم مع مصائرهم عبر قصة كل منهم يرويها بنفسه مستذكراً ومتألماً على حاله وحال جيلهم ورحلة الشقاء التي سورت وجودهم وحياتهم في هذا المكان.

لكل فيهم صوته الخاص المعبّر عن الذات الكامنة في داخل كل منهم فالصوت الأول كان لسليم حميدوش العائد إلى غزة محمّلاً بأذية في رجله إذ سبق أن رمته إصابة غادرة إثر إحدى المظاهرات في المدينة، مدينته التي لم يخلق مثلها في البلاد ولا في البلاء اعتمد التلاعب بالعبارة كي نتخيل معنى مزدوجاً ومتناقضاً؛ البلاد القريبة من الروح والنفس وما من بلد يضاهيها وفي الوقت ذاته البلاء الذي فرض عليها وعلى أبنائها من جحيم الاحتلال ومصادرة الحريات وحصار الحجر والبشر، ولا يخفى كذلك التناص مع النص القرآني في قوله تعالى عن ديار قوم عاد: " ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَٰادِ (الفجر:8) .

وضمن الضيق والانتظار، يبرز الصوت الثاني على لسان أم مريضة سرطان" عزيزة النادي" وهي عائدة من القاهرة التي قصدتها للعلاج إلى غزة بعد إنهاء البرنامج المتبع وهي تتساءل "لماذا لا يتوفر العلاج في مدينتي .. لعنة الله على الانقسام والحصار" ، بإيماءة للجغرافيا المحاصرة والاحتلال الرابض على قلوبهم وأجسادهم. 

والصوت الثالث كان للشاب "فادي مظلوم" العائد من إسطنبول بعد رحلة فاشلة في العبور إلى أوروبا كما أغلب الشباب الباحثين عن فرص أوسع للعيش ومحاولته إيجاد عمل يقيه شر العوز المفروض عليه ومعاناته من خداع المهربين مع قناعته بأن " الأرض لله والقوت للجميع والظلم مرتعه وخيم" 

أما الصوت الرابع فكان للحاج "علي الغمري" العائد من السعودية باتجاه غزة عقب أداء مراسم العمرة بعد أن تيسر له الأمر نتيجة وجود ابنه كمهندس في الديار المقدسة والتي تركها بقلب مكلوم إثر دفن صاحبه فيها الذي وافته المنية هناك، والصوت الخامس لسيدة اسمها "مريم" في استعراضها لتاريخ حياتها إذ سبق أن كانت عروساً لجندي يعمل في جيش التحرير الفلسطيني أيام عبد الناصر؛ أيام الحماسة  الغامرة  في التهيئة للمعركة الكبرى وبعدها جاء الخذلان بهزيمة حزيران التي انتهت باحتلال قطاع غزة والضفة الغربية وسيناء والجولان، وتكشف الأمر عن مطاردة الفدائيين، ما اضطر أسرة الجندي للهروب إلى مصر الذي استغرق عمره وحياته فيها مع زوجته التي وافته هناك وقضى بعيداً في منفاه لتعود الزوجة وحدها إلى موطنها الذي أجبرت على الرحيل عنه. 

الصوت السادس لسيدة قادمة من مخيم جرش في الأردن" فوزية سلمان" التي أتت لتزور أهلها في مخيم جباليا، ورغم المكان القريب فإن العقبات والعثرات جعلت الانتظار واقعاً عصيباً، وأخيراً الصوت السابع للشاب "إبراهيم الوالي" وهو العائد إلى غزة بعد أن أيقن أن لا حياة له خارجها رغم مشاق الطريق الذي خبره ولم يجد داعياً أن يخبر الآخرين بما ينتظرهم، فلكل أن  يتعلم من تجاربه الشخصية ولن يغير من الأمر شيئاً إذا عرفوا ما يخبأ لهم، لذا آثر الصمت، ولعله العجز وفقدان الأمل بتغيير ظروف من حكمت عليهم الأقدار بالوجود في هذه البقعة من العالم. 

 الجديد هنا أنه وجد لعربة النقل صوتاً خاصاً معبراً عن شفقتها وحنوها على صاحبها السائق نظراً لعلاقتها الحميمة معه، والتي شق عليها كل ذلك التعب والدوران الذي ينوء به كي يلم زبائنه من مناطق عدة، وقد ساهم الحوار الداخلي في فهم العمق النفسي لكل شخصية، وخاصة عندما  تستذكر ماضيها لنتعرف إلى ملامح دواخلها و خفايا ظروفها عبر تقنية الاستباق والاسترجاع فالمشهد الحالي والمتصدر هو تجمعهم من أماكن شتى في طريق العودة، وأغلب الشخصيات تعود إلى ماضيها مستجمعة ذكرياتها وتاريخها ما يساهم في فهم الشخصية ومراحل نموها  

وظروفها وعلاقاتها مع الآخرين وهي تتجوّل بين الحاضر الحالي وزمنها الشخصي التي مرت به وعايشته وزمن البلاد التي جرت عليه أهوال وأهوال، ورغم ذلك لا تغيب شخصية الراوي العليم الذي يشير إلى شخصيات عبرت من أمام عربة الأحداث مثل الحوار والصداقة التي نشأت بين  شابين يافعين تعرفا على بعضهما في زحام السيارات وهي تحاول الوصول إلى المعبر، ولكثرة الوقفات تنشأ علاقة خاصة بينهما يتبادلان صوراً وثقت المكان في أشد حالاته تأزماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما يعرج على خيط العاطفة الرقيق بين الشاب فادي المظلوم ومسافرة على مركبة أخرى عبر نظرات العيون التي لم تفصح، كذلك وجود الهاتف المحمول أظهر حوار كل شخصية مع بيئتها الاجتماعية وطريق السفر المحفوف بالمخاطر والانتظار المر وكل منهم له شكواه وأمراضه، البرد وثقل النوم في الاستراحات والترقب الطويل عقب كل حاجز في تجسيده لعشرات العراقيل أمام الغزاوي كي يدخل إلى وطنه بوجع لا بد منه كما عنون التايه روايته. 

أخيراً، يتجه المسافرون إلى معبر رفح يصلون جميعاً عند مطلع الفجر إلى مكان اسمه المعدية يبدو أنه حاجز، وهنا يأخذنا الكاتب في جولة سياحية في المنطقة الفاصلة بين غزة ومصر حيث نتعرف على سيناء المصرية ومنطقة العريش وحاجز المعدية بالوظة – بئر العبد وحاجز المساعيد، حاجز الريسة ومعبر رفح إلى وصولهم الأخير، عبر تصوير المشهد العام لطابور السيارات الذي تتقدمه سيارة الجيب العسكرية. 

 تحتمل كل حكاية أن تكون قصة قصيرة وحدها لو جزأناها كلاً على حدة، ولكن تجتمع خيوط ومسار الشخصيات لتعبّر عن عالم كامل ولتشكل شبكة متداخلة برواية كل منهم مع رواية الآخرين مع قصصهم وآلامهم المشتركة حيث يظهر النص أشبه بموتيفات مرصوفة مع بعضها، ولكل من أبطالها قصة حزينة تتنوع أسبابها ومجرياتها ولكنه الوجع هو السوار الذي يؤطر وجودها وكينونتها. 

الجدير بالذكر أن عبد الله التايه اختير ليكون شخصية العام الثقافية لعام 2022، بعد مسيرة أدبية تكللت بخمسة وعشرين كتاباً بين دراسة وسبع مجموعات قصصية وسبع روايات كانت السابعة هي "وجع لا بد منه" التي تجوّلنا في رحابها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك